الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
حكمه وحكمته وأثر ذلك على الثبات والشمول
ينقسم الاجتهاد إلى واجب وجوباً عينياً وواجب وجوباً كفائياً، وإلى مندوب ومكروه ومحرم (1)، وقد نقل العلماء الثقات عن الصحابة رضوان الله عليهم الإِجماع على العمل بالقياس وهو نوع من الاجتهاد.
فثبت بذلك وقوع الاجتهاد منهم - رضوان الله عليهم - وأنهم مجمعون على مشروعيته (2).
أما أقسام الاجتهاد من حيث الحكم التكليفي فهي كما يلي:
الأول: إذا تعين على المجتهد النظر في واقعةٍ ولم يجد من يفتي فيها غيره، أو نزلت بالمجتهد نازلة وخاف فوات الحادثة فإنه يجب عليه وجوباً عينياً الاجتهاد على الفور، وإن لم يخف فواتها وجب عليه الاجتهاد على التراخي.
وأما الثاني: فهو واجب وجوباً كفائيًا إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
وأما الثالث: فهو المندوب وهو السؤال عن حادثة يمكن أن تقع ويحتاج
(1) تيسير التحرير 4/ 179.
(2)
جامع بيان العلم وفضله 66، أعلام الموقعين 1/ 217، إرشاد الفحول للشوكاني الطبعة الأولى 203، الإِحكام لإبن حزم 6/ 785، الموافقات 3/ 286، الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 207 - 308، وسيأتي زيادة بيان ذلك عند الحديث عن القياس إن شاء الله.
إليها، مثاله في السنة: ما رواه المقداد بن الأسود أنه قال: "يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله يارسول الله بعد أن قالها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتله .. " الحديث، وفيه دلالة على جواز السؤال بلفظ "أرأيت" عن المسائل التي يمكن أن تقع (1).
وأما الرابع: فهو المكروه أو المحرم وهو الاشتغال بالمسائل الفرضية التي لا يمكن أن ينبني عليها عمل أو لم تجر العادة بوقوعها (2).
والإجماع المنعقد على وجوب الاجتهاد ومنه وجوب العمل بالقياس وهو نوع منه يتضمن الرد على من يقول بقفل باب الاجتهاد أو يدعو إليه، ذلك أن الإِجماع المنعقد لم يقصر الوجوب على عصر دون عصر بل الوجوب على الأمة وهي لا تنقطع في أي عصر إلى سقوط التكليف وذلك بفناء الدنيا، والإِجماع على وجوبه منقول عن الصحابة فهو إجماع متقدم ولا عبرة بمخالفة من خالف بعد ذلك، والمخالف لفرضية الاجتهاد لم يخالف في جميع أنواعه، بل إن العلماء من الأصوليين -وسيأتي بيانه- نصوا على أن تحقيق المناط وهو نوع من الاجتهاد لم يقل أحد بانقطاعه.
وأما مخالفتهم في الأنواع الأخرى فهم محجوجون بإجماع الصحابة وأن خلافهم ليس معتبراً، مع مصادمتهم للبدهيات ذلك أن النص إمّا أن يُعْلم بدون اجتهاد وذلك مستحيل، وإما أن يُعلم باجتهاد وهو المطلوب فالاجتهاد إذاً ضرورة بهذا المعنى، كما أنه الطريق إلى معرفة عجائب القرآن التي
(1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي باب تحريم قتل الكافر بعد قوله لا إله إلا الله 2/ 98 وفي الحديث جواب عن قول من منع السؤال عن المسائل الفرضية واشترط وقوعها أولًا ثم الجواب عنها. انظر جامع بيان العلم 2/ 139 ولعل النهي إنما هو مخصوص بما لا يمكن أن يترتب عليه عمل ولا تقتضيه حاجة.
(2)
أعلام الموقعين 1/ 69، جامع بيان العلم 139.
لا تنقضي
…
ولم يدرك المجتهدون في العصور المتقدمة كل عجائبه .. ومن ثم كان الاجتهاد ضرورة لفهم النص وتطبيقه ولا يسد مسده شيء آخر في فهم أحكام هذه الشريعة.
حكمة الاجتهاد وأثرها على الثبات والشمول:
أشار الإِمام الشافعي إلى حكمة الاجتهاد فبين أنها هي الابتلاء، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن على هذا النحو وكذلك السنة لكي يبتلي عباده فينظر أيجتهدون في طلب الحق مبتعدين عن تأثير الشبهات والشهوات أم يقصّرون في طلبه (1).
ومن الحكمة أيضاً ما أشار إليه الدكتور الأفغاني في كتابه "الاجتهاد": وذلك بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم وبالنسبة لأصحابه.
أما وقوعه من الرسول صلى الله عليه وسلم فذلك تعليم للأمة من بعده، وأما حكمة شرعية الاجتهاد بالنسبة للصحابة في عصره فذلك لتدريبهم وتعليمهم كيفية الاجتهاد وحتى يكونوا مستعدين لحمل الأمانة الكبرى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي الحكم بما أنزل الله، وإدخال الحوادث الجديدة تحت أحكام هذه الشريعة حتى يُعْلم حكم الشرع في كل ما ينزل بالمسلمين وتدريب من بعدهم على ذلك، ولولا الاجتهاد لزاد عدد الحوادث التي يتصرف فيها المسلمون بآرائهم المحضة أو بقوانين وأعراف غير دينية، وذلك مع طول الأمد سبب من أكبر الأسباب في الانحراف عن شريعة الإِسلام (2).
وأجمل هنا بعض الحِكَمِ التي تظهر لي من فرضية الاجتهاد وكونه من الأحكام المجمع عليها في العصر الأول، وهي:
1 -
أن هذا الدين أنزله الله على عباده مفرقاً ولم ينزله جملة واحدة قال تعالى:
(1) الرسالة: مسألة رقم 59.
(2)
الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 309 - 310.
{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (1).
ومعنى فرقناه أي أنزلناه جزءًا جزءًا ولم ننزله جملة واحدة (2) وذلك في بضع وعشرين سنة تثبيتاً للرسول صلى الله عليه وسلم، حيث ينزل لكل حادثة تقع ما يخصها من الأحكام ويتعلمه الناس في غير عجلة، ويتدرج بهم حتى يربيهم ويفقهم، فيقترن العلم بالعمل آية آية وسورة سورة، ويقع لكل حدث ما يخصه من البيان والتوجيه.
وهذا المعنى الذي تحقق في عصر النبوة ما زال متحققًا في كل عصر -بعد ذلك- يسير في الطريق نفسه ويسعى للغاية التي خُلق العباد من أجلها وهي عبادة الله وحده بلا شريك.
وبيان ذلك: أن المسلمين بعد عصر النبوة يحتاجون إلى بيان الأحكام التي تخص الحوادث التي جاءت في عهدهم، وهذه الحوادث لم يكن فيها نص بعينها - ولا بد من الرجوع إلى الوحي لمعرفة هذه الأحكام.
ثم تأتي حوادث أخرى تحتاج إلى أحكام فلا بد من الرجوع إلى الوحي، وهكذا في كل عصر وفي كل مكان.
وحين يرجعون في المرة الأولى إنما يستنبطون الحكم للحادثة الأولى ثم يرجعون مرة أخرى وثالثة ورابعة وذلك حسب تجدد الحوادث فيجدون في الوحي العلم والفقه والتربية - وهم يسيرون في الوقت نفسه في طريقهم لا يقفون لحظة واحدة، تماماً كما كانوا في عصر النبوة عمل وجهاد وتربية وتعليم حتى تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا يريد الله هذا الدين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دين عمل وجهاد وتربية
(1) سورة الإِسراء: آية 106.
(2)
تفسير ابن كثير 3/ 68 - 69.
وتعليم، فتُبنى الحياة بناء إسلاميًا بحيث لا تخرج حادثة من حوادثها عن حكم الله وتُبنى النفوس كذلك ..
ولا يتم ذلك بتة إلا بالجهاد والاجتهاد، ولذلك كان الاجتهاد لازمًا لأنه هو الطريق لتحقيق هذه المهمة.
ولو تصورنا عدم فرضية الاجتهاد وتحقق النص على كل واقعة بحيث يعلمها كل أحد دون اجتهاد لم يكن لتلك الحكم أن تتحقق فلكي يكون هذا الدين دين عمل وتربية وتعليم ونمو وتجدد لا بد من الاجتهاد.
2 -
ويتفرع عن هذه الحكمة حكمة أخرى إلا وهي مراعاة قدرات المكلفين. إنّ أفعال المكلفين ليست على وزان واحد فهذا مكلف لا يُصلحه إلا نوع من التربية -بحسب حاله- وهذا مكلف آخر يُصلحه من التربية نوع آخر، وهذا مكلف يُوصى بوصية معينة، وآخر يُوصى بوصية أخرى، ولا يمكن مراعاة قدرات المكلفين إلا بتحقيق المناط الخاص، وهو من أنواع الاجتهاد.
واسمع إلى الإِمام الشاطبي يبين ذلك أحسن بيان: فقد قسم النوع الثالث من أنواع الاجتهاد وهو تحقيق المناط (1) إلى قسمين:
القسم الأول: "ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص كتعين نوع المثل في جزاء الصيد .. " وهذا تحقيق عام، وقد يرجع إلى الأشخاص، كمعرفة المجتهد للعدالة مثلًا، فإذا تحقق من وجودها في شخص على حسب ما ظهر له صح منه وقوع الشهادات والانتصاب للولايات وهكذا ..
القسم الثاني: تحقيق المناط الخاص، وهو أدق من القسم الأول، وهو ناشئ عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى:
(1) الموافقات 4/ 60، والمناط هنا هو السبب أو العلة التي يُناط الحكم بها أي يعلق عليها، وتحقيقه هو تطبيقه على الواقعة، فإذا قلنا يشترط للانتصاب للولايات العدالة، نظرنا بعد ذلك في من يصلح لها فإذا قلنا فلان يصلح لها نكون قد حققنا المناط، وسيأتي بيان ذلك عند الحديث عن أنواع الاجتهاد إنْ شاء الله.
{إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (1).
ثم قال مبينًا فائدة العمل بمثل هذا النوع من الاجتهاد: "وعلى الجملة فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المتحتم وغيره، ويختص غير المتحتم بوجه آخر، وهو النظر فيما يصلح به كل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة (2) على وزان واحد كما أنها في العلوم والصنائع كذلك فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر، ويكون بريئًا من ذلك في بعض الأعمال دون بعض، فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رُزق نورًا يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف"(3).
ثم يحدد بعد هذا البيان معنى تحقيق المناط (4) فيقول إنّ المجتهد: "يخص
(1) سورة الأنفال: آية 29، ومن التقوى طلب العلم والعمل به والإِخلاص في ذلك كله ومتابعة صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام فمن تحقق من ذلك تحقق له أن يفرق بين الحق والباطل ويسلم من التلبيس والتخليط.
(2)
المصدر السابق 4/ 61 - 62.
(3)
الموافقات 4/ 61 - 62.
(4)
لا يقال لماذا لم يحدد المعنى ثم يبينه ويشرحه، والجواب أن صنيعه أولى لأنه لما سبق -تحديد المعنى- بذلك البيان المشتمل عل تلك الأمثلة سهل على القارئ إدراك معنى تحقيق المناط الخاص وضرورته، وذلك خير من أن يفاجئ القارئ بتحديد المعنى دون أن يقدم له بعض المقدمات.
عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق، لكن مما ثبت عمومه أو يضم قيدًا أو قيودًا لما ثبت له في الأول (1) بعض القيود هذا معنى تحقيق المناط".
ثم أخذ في الاستدلال عليه -وذكر أن الأصوليين تكفلوا بما سواه- وذكر أدلة كثيرة منها:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال وخير الأعمال، وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال فأجاب بأجوبة مختلفة كل واحد منها لو حمل على اطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفضيل، ففي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام "سئل -أي الأعمال أفضل؟ قال الجهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا، قال حج مبرور" (2) وسئل عليه الصلاة والسلام "أي الأعمال أفضل؟ قال الصلاة لوقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله" (3)، وفي النسائي عن أبي أمامة: "قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت مرني بأمر آخذه عنك، قال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له" وفي الترمذي: "أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات" (4).
(1) المثال يوضح ذلك، فمثلًا إذا حدد المجتهد وصف العدالة وعلمه، اشترطه للانتصاب للشهادات والولايات، وهذا معنى قوله:" .. في التحقيق الأول العام" أما تحقيق المناط الخاص فهو نظر آخر، وهو هل انتصاب هذا الشخص لهذه الولاية أو تلك يفسده أو يصلحه فمن الناس من يُنهى عنها كما نهي أبو ذر ومنهم من يُطلب لها ..
(2)
الحديث من رواية أبي هريرة وقال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم "أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا؟ قال جهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا؟ قال حج مبرور" صحيح البخاري بشرح فتح الباري باب فضل الحج المبرور 3/ 381.
(3)
أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صحيح مسلم بشرح النووي باب الإِيمان بالله أفضل الأعمال 2/ 73.
(4)
5/ 458 باب ما جاء في فضل الذكر.
وفي النسائي: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء"(1)
…
"إلى أشياء من هذا النمط جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق ويشعر إشعارًا ظاهرًا بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت أو إلى حال السائل"(2). ثم أخذ في تأكيد الدلالة الشرعية على مثل هذا النوع فقال:
"
…
وقد دعا عليه السلام لأنس بكثرة المال فبورك له به (3)، وقال لثعلبة بن حاطب حين سأله الدعاء له بكثرة المال:"قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه"(4)، وقال لأبي ذر:"يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمّرن على اثنين ولا تولين مال يتيم"(5) ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله، وقد قال في الإمارة والحكم:"إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن" الحديث (6)، وقال:"أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة"(7) ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصًا في ذلك من الصلاح".
و"تحقيق المناط في الأنواع واتفاق الناس عليه في الجملة مما يشهد له كما تقدم وقد فرّع العلماء عليه كما قالوا في قوله تعالى:
(1) رواه الترمذي باب ما جاء في فضل الدعاء 5/ 455.
(2)
الموافقات 4/ 63.
(3)
حيث قال: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته" رواه مسلم باب من فضائل أنس رضي الله عنه 4/ 1928.
(4)
رواه الطبراني في المعجم الكبير 8/ 260، وهذا اللفظ ورد في سياق طويل لم يثبت انظر ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه، للأستاذ عداب الحمش - الطبعة الثالثة 68.
(5)
رواه مسلم باب كراهية الإمارة بغير ضرورة 12/ 109.
(6)
باب فضيلة الأمير العادل 12/ 211، المصدر السابق.
(7)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري باب فضل من يكفل يتيمًا 10/ 436.
(8)
سورة المائدة: آية 33.
إن الآية تقتضي مطلق التخيير ثم رأوا أنه مقيد بالاجتهاد، فالقتل في موضع، والصلب في موضع، والقطع في موضع، والنفي في موضع (1)، وكذلك التخيير في الأسارى من المن والفداء (2).
وكذلك جاء في الشريعة الأمر بالنكاح وعدوه من السنن، ولكن قسموه إلى الأحكام الخمسة ونظروا في ذلك في حق كل مكلف وإن كان نظرًا نوعيًا فإنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي (3) فالجميع في معنى واحد، والاستدلال على الجميع واحد" (4) وهكذا الشأن في انتصاب الأفراد في المجتمع الإِسلامي للولايات وجميع الأعمال العامة والخاصة، وهذه الحكمة وهي مراعاة قُدرات المكلفين لا يمكن تحقيقها إلا بتحقق هذا النوع من الاجتهاد، وهو ضروري لتطبيق الأحكام الشرعية في المجتمع الإِسلامي، كما أنه لا يتم بناؤه على الصفة المطلوبة شرعًا إلّا بمراعاة قدرات أفراده.
3 -
ليرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات (5).
(1) انظر على سبيل المثال: أحكام القرآن 2/ 599: 600 لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي -تحقيق علي محمد البجاري- دار المعرفة - بيروت. والمغني لإبن قدامة القدسي 90/ 144 - 145.
(2)
أحكام القرآن لإبن العربي 4/ 1701 - 1702.
(3)
المغني لإبن قدامة 7/ 4 - 5 فقد قسم النكاح باعتبارات خمسة إلى: واجب ومندوب وحرام ومكروه ومباح. ويضيف الشاطبي في عبارته السابقة أن هذا وإن كان نظرًا نوعيًا فيأخذ كل نوع حكمه إلا أنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي فيقال لهذا الشخص أنت تدخل تحت هذا النوع فتأخذ حكمه والآخر أنت تدخل تحت النوع الثاني فتأخذ حكمه وهكذا ولذلك قال: "إن هذا النوع من تحقيق المناط الخاص قد يستبعد الناظر حكمه بادي الرأي حتى يتبين مغزاه. وقد تقدم بيان ذلك وفي الأدلة ما هو كاف للقطع بصحة هذا الاجتهاد، ويعلل الشاطبي تنبيهه عليه على هذا النحو بأن العلماء قلما نبهوا عليه على الخصوص.
(4)
الموافقات 4/ 65.
(5)
كما في قوله تعالى في سورة المجادلة: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} آية 11.
إن هذا الجهد في التعريف على الحق ونشره والتفقه فيه وتطبيقه على الحوادث إنما يكون من طائفة من المسلمين بذلت نفسها لتعلم العلم وتعليمه، كما قال تعالى:
فهذا النفير والتفقه والنذارة إنّما يصبر عليه طائفة من المسلمين وهؤلاء يبرز منهم أئمة في الدين يهدون به وبه يعدلون، فينشرونه ويعلّمونه للناس ويقيمون به العدل في الأرض ومن العدل استنباط الأحكام لكل حادثة تعن وتطبيقها.
وعند تحقيق ذلك يرفعهم الله درجات، ويجعلهم منار هداية للناس لا تنقطع يتسلمها الناس جيلًا بعد جيل:
وهذا التفقه والنذارة والهداية وإقامة العدل في الأرض لا يكون إلا بالاجتهاد.
أما الذين آمنوا فهم مكلفون جميعًا بإقامة فروض الكفاية، وذلك بأن يقيموا لكل فرض من فروض الكفاية طائفة منهم ويعينوهم على ذلك (3)، فإذا سعى المؤمنون في تجهيز طائفة منهم ليتفقهوا في الدين حتى يصلوا إلى درجة الاجتهاد كان ذلك سببًا في رفع منزلتهم عند الله، وعن هذا الطريق تتحقق الهداية وإقامة العدل الرباني في هذه الأرض.
(1) سورة التوبة: آية 122.
(2)
سورة السجدة: آية 24.
(3)
الموافقات: 1/ 114.
وهذه الحكمة لم تكن لتتحقق إذا لم ينفر بعض المسلمين -الذين تتوفر فيهم أهلية الإمامة- لإِقامة مهمة الاجتهاد، وهم موقنون بأنه تكليف حتم عليهم لا يسعهم إلا إقامته بقدر استطاعتهم وإلّا أثموا جميعًا (1).
4 -
كشف شبهة الذين يزعمون أن هذا الدين خاص بزمان قد مضى وليس له من الأمر شيء في حكم تطورات المجتمعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأن ذلك متروك لأهل كل عصر يحكمون أنفسهم بما يرونه مناسبًا من الأنظمة اتباعًا للمصالح بزعمهم، أو الحكم بالنظام الإِسلامي ولكن بعد خلطه بالنظم الأخرى الوضعية أمثال القوانين الأوروبية، وإخضاعه لروحها وطبيعتها، وذلك مسايرة لروح العصر ومدنية الغرب (2).
والاجتهاد هو الطريقة العملية لبيان حقيقة الشمول في الشريعة، فإذا نظر المجتهدون في المسائل الجديدة وأدخلوها تحت حكم الشريعة إمّا بطريق القياس أو بطريق العموم أو عن طريق اعتبار المصالح التي شهد الشرع لنوعها أو جنسها، فإن ذلك يثبت للمخالفين في واقع الأمر شمول هذه الشريعة لكل المسائل الجديدة التي تنشأ بسبب تطور المجتمعات المادي، وبذلك تدحض شبهتهم وتقام الحجة عليهم ويتبين للمؤالف والمخالف زيفهم وافترائهم على هذه الشريعة.
أما المؤمنون فيزدادون إيمانًا إلى إيمانهم، وأصل الإِيمان متحقق فيهم بلا شك، ذلك بأنهم موقنون بأن الله العليم الحكيم قد أنزل شريعته وهي مبرئة من كل نقص وعوج لا تبديل لها قد فصلها تفصيلًا لا يخرج عن حكمها شيء علمه من علمه وجهله من جهله.
(1) بحيث يأثم من تحققت فيه الأهلية ولم يجتهد في طلب العلم، ويأثم من بقي من الأمة، إذا لم يبذل جهده في حمل القادرين على أهلية الإِمامة لتحقيق مهمة الاجتهاد، الموافقات 1/ 114.
(2)
ثم التسسوية بين الشريعة والقوانين الوضعية وسيأتي في الباب الأخير عرض هذه الشبه ومناقشتها إن شاء الله تعالى.
أما هؤلاء الذين يزعمون أن الشريعة لم تعد صالحة في هذه العصور أولا تصلح حتى تختلط بالقوانين الأوروبية التي أنشأتها الأمم الكافرة فتطبعها بطابعها وتشملها بروحها ومدنيتها، فإنهم يحتاجون إلى أن يتعرفوا على عقيدة الإِسلام وشريعته فإن علموا أنها هي الحق وما سواها باطل وقبلوها جملة وعلى الغيب ورفضوا ما يخالفها جملة وعلى الغيب فإنهم حينئذ سيتعجبون من مواقفهم السابقة، أما إن أبوا ولم يؤمنوا بذلك فلا حيلة لنا فيهم
…
ولا حيلة للمجتهدين فيهم اللهم إلّا دحض افترائهم وتحقيق الحكمة من الاجتهاد وذلك بإدخال جميع الوقائع الجديدة تحت حكم الشريعة وبيان شمول الشريعة، رفعًا لشبههم وكشفًا لزيفهم.
5 -
المحافظة على التزام هذه الأمة بعقيدتها ومنهجها:
إن المجتمع الإِنساني لابد له من الحركة والنمو، لأن هذه هي طبيعة الإنسان الذي كُلف بمهمة إقامة الخلافة على هذه الأرض .. ويشترك المجتمع الإِسلامي مع سائر المجتمعات التي تحكمها الملل الأخرى في هذه الخاصية ويفترق عنها في أمور منها:
(أ) أن المجتمع الإِسلامي يمثل الأمة الواحدة للبشرية جمعاء فلا يعرف القوميات بل يعيش الناس فيه أمة واحدة ولو كانوا من شعوب وقبائل مختلفة.
(ب) أن مهمته إقامة الخلافة على الأرض طبقًا للمنهج الرباني لا كما تصنع المجتمعات الأخرى في إعراضها عن هذا المنهج.
(ج) أن مهمته القُوامة على البشرية.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (1).
(1) سورة البقرة: آية 143.
فهو مجتمع يشترك مع المجتمعات المخالفة له في خاصية الحركة والنمو والتأثر والتأثير ويفارقها في كونه مجتمع عقيدة ربانية ومنهجًا إسلاميًا مهمته إقامة الخلافة على الأرض والقوامة على البشرية .. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بطريق الاجتهاد.
فالاجتهاد وهو عنوان "الحركة والنمو" هو السبيل الوحيد لحفظ توازن المجتمع الإِسلامي، ولا يقوم إلا بعد عمل وتفقه ينتشر ليغطي أكبر مساحة من المجتمع الإِسلامي، وهذا طريق لحفظ رسالته، ومن هذا الجهد ينشأ عمل آخر على مستوى أكبر يتدرج حتى يسلمنا إلى مرحلة وجود المجتهدين .. وإلى هنا يتحقق لنا أمران:
(أ (قيام المجتمع بنشر الوعي الديني عن طريق تفقه الأمة في العلم (2) .. وهذه هي القاعدة التي ينبني عليها ما بعدها.
(ب) ظهور صفوة من الفقهاء يمثلون أهل الاجتهاد.
وبهذا يُحفظ توازن المجتمع الإِسلامي فحركته ونموه الطبيعيين اتجها اتجاهًا سليمًا ونتج عن ذلك عمل إيجابي فهو من جانب حفظ جهد الأمة من أن يضيع وينحرف، ومن جانب آخر حمل الأمة على أداء رسالتها الخاصة بإقامة مجتمعها على المنهج الرباني.
ومجتمع كهذا لابد وأن تنتشر رسالته لأنه قد مثلها في نفسه أحسن تمثيل
(1) سورة آل عمران: آية 104.
(2)
والعلم هنا المفروض على هذه الأمة يشمل جميع ما تحتاجه للقيام بمهمة الخلافة حسب طبيعة المنهج الرباني فهو ليس صنفًا محددًا وإن كنا هنا نتحدث عن العلم بمعنى أخص.
وهي رسالة الدين الخاتم الذي يحقق العدل الرباني في الأرض فإذا حدثت مرحلة التأثر والتأثير أو قل زادت وقويت فإن المجتمع الإِسلامي يحمل معه عدته وسلاحه، ومن أعظم عدته وسلاحه "الاجتهاد".
إن المجتمع الإِسلامي كما يريد أن ينشر المنهج الرباني في الأرض -على الطريقة الربانية- فإن المجتمعات المخالفة تريد أن تدس جاهلياتها وانحرافاتها في المجتمع الإِسلامي أو تقذفها فيه .. وهي لا تصنع ذلك إلا وهو محفوف بكثير من المغريات المادية التي تشتمل على نفع محض بل وفيها حاجيات وضروريات، وقد يكون المجتمع الإِسلامي في بعض الأحيان لا يمتلكها ولم يقدر بعد على تصنيعها ..
وهنا إنْ لم يكن المجتمع الإِسلامي يملك عدة "الاجتهاد" يضعف أمام هذه المغريات ثم يفقد توازنه ويبدأ تأثير الغزو الفكري يعمل عمله فيه، وأمّا إنْ كان يملك هذه العدة فإن موقفه سيكون إيجابيًا ونذكر من آثار هذا الموقف ما يؤكد ضرورة الاجتهاد للمجتمع الإِسلامي ومنها:
1 -
أثر الاجتهاد في رفع معنوية الأمة وزيادة إيمانها بمنهجها الرباني. بيان ذلك: إن الأمة التي تبذل جهدها في بناء أفرادها على منهجها الخاص عن طريق التربية والتعليم ونشر مفاهيمِ دينها نشرًا صحيحًا وتعرف رسالتها حق المعرفة، إنها أمة ولا شك قوية معنويًا وهذه هي القاعدة التي ينبثق عنها الاجتهاد كما سبق وأن قلنا.
وأما زيادة الإِيمان بهذا المنهج الرباني فيكون بأن يعلم أبناء المجتمع الإِسلامي في كل حين -مع كل حادثة تجد في المجتمع الإِسلامي- أن منهجهم يشملها بحكمه ورحمته وأنها لن تبقى معلقة بلا حكم .. ولن نذهب نبحث لها عن حكم في غير هذا المنهج وهنا تزداد الأمة تمسكًا بمنهجها وتزداد عزة وقوة.
2 -
أثر الاجتهاد في حفظ الأمة من أن تتسلل إليها آثار الغزو الفكري
الجاهلي .. وذلك يتحقق بأن يقوم المجتهدون بالنظر في جهد الأعداء المادي والمعنوي فينظرون في مجموعة ويفرقون بين الحق فيه والباطل، والنافع والضار ثم يختارون -ومنهجهم الرباني هو الحكم وعزتهم وقوتهم تجعلهم يحكّمون هذا المنهج ويختارون وهم في توازن كامل، فلا يقعون في متابعة أعدائهم ولا يرفضون كل شيء .. بل يختارون وهم لا يزالون يمثلون الرسالة الربانية والقوامة على البشرية، ولا يضرهم ولا ينقصهم في شيء أن يأخذوا ويختاروا ما ينفعهم .. ولا يضرهم ولا ينقصهم أن يرفضوا ما لا ينفعهم .. ولا يمكن أن نفرق بين الضار والنافع وما يوافق المنهج الرباني وما يخالفه إلا عن طريق "الإجتهاد".
3 -
أثر الاجتهاد في هداية الأمم الأخرى -وذلك قبل الجهاد- إن موقف المسلمين هذا لا شك سيكون له أكبر الأثر في أعدائهم فأول ما يعلمه الأعداء أنهم أمام أمة لا يمكن أن تُسْتغفل وتُمتطى وهذا له تأثير نفسي عميق يجعل الأعداء في موقف التأثر والإِعجاب والانبهار أمام هذه الأمة القوية التي تحسن أن تختار لنفسها حسب ما يرتضيه منهجها الرباني، والأثر الذي يتبعه مباشرة أن يعرف الأعداء -بعد انكسارهم النفسي- أن في الأرض منهجًا متوازنًا يفرق بين الحق والباطل والنافع والضار ولا يهدر طاقات العقل البشري النافعة .. ويحول في الوقت نفسه بين انحرافات البشرية وبين الفطرة الإنسانية ليقوم العدل في الأرض .. وهذا المنهج هو "الإِسلام" وهذه دعوة عملية لها من الإيجابية وحسن التأثير شيء عظيم.
هذا هو بعض آثار الاجتهاد في داخل الأمة وفي علاقاتها مع أعدائها وهو دليل قاطع على ضرورته وفرضيته وأنه لا تصلح هذه الأمة إلا به ولا تهتدي البشرية إلا به، وإن لم يتحقق فإن تلك الأثار الإيجابية تنقلب لتكون آثارًا سلبية والضد بالضد.
ولنتصور نقيض تلك الآثار وضدها .. لكي ندرك الخسارة التي وقعت
فيها هذه الأمة لمّا أهملت مهمة الاجتهاد (1) وخاصة لما اجتمعت عليها الأمم كما تجتمع الأكلة إلى قصعتها كل أمة من أمم الكفر معها نافع وضار، نافع يتمثل في ماديات ضرورية وحاجية وضار يتمثل في مبادئ ومفاهيم جاهلية لا تحفظ دينًا ولا عرضًا ولا عقلًا .. بل ترتكس في مجال العقائد والأخلاق إلى مستوى الكفر والشرك والفتنة والإِغراء ونتج عن ذلك أنظمة وضعية تعارفت عليها تلك الأمم وانبثقت من عقائدها وأخلاقها .. وكانت عملية الاجتهاد كفيلة بالتفريق بين الضار والنافع .. وكفيلة أيضًا بمراعاة الأحوال الجديدة التي نشأت من طبيعة المجتمع الصناعي واستنباط أحكامها الخاصة بها ومراعاة الضوابط التي تحفظ الضرورات الخمس الدين والعرض والنفس والعقل والمال، فإن المجتمع الصناعي -وإن كان محتاجًا إلى عملية الاجتهاد كما يحتاجها المجتمع الزراعي والرعوي- إلا أنه أشد حاجة لها، أضف إلى ذلك أن السلبيات التي تنتج عن تعطل مهمة الاجتهاد أو عدم القيام بها على الوجه المطلوب تظهر آثارها على نحو مخيف وخطير في المجتمع الصناعي أشد بكثير من ظهورها في غيره من المجتمعات ذلك أنه مجتمع الحركة الفوارة والتجدد المستمر فإن لم ينضبط بعملية الاجتهاد ازدادت تلك السلبيات واستمرت في الازدياد.
وهذه الحكمة التي تحدثت عنها هي أعظم حكمة لمهمة الاجتهاد لأنها سبيل عظيم للمحافظة على التوحيد وأحكامه الذي تمثله هذه "الشريعة" والمحافظة على المجتمع الإِسلامي من آثار الشرك وأحكامه الذي يمثله الغزو الفكري الحديث.
(1) وقعت الأمة في ضد ذلك تمامًا لمّا أهملت هذه الفريضة وزادت ردود الفعل من داخلها الأمر سوءًا فقد اختلفت مواقف العلماء من آثار النهضة الأوروبية فمنهم من رفضها كلها ومنهم من قبلها بدون تمييز .. وهذان موقفان سلبيان .. ومنهم من نادى بالتمييز بين الضار والنافع .. وهذا موقف إيجابي ولكنه لم يكن له من القوة والانتشار ما يسمح له بإكتساح التيار الذي نتج عن سلبية الموقفين السابقين، وقد كان قيام العلماء بعملية الاجتهاد -كما بينت وعدم اختلافهم عليها وتخلفهم عنها- كفيلًا بأن يحول بين الأمة وما وقعت فيه من تلك السلبيات العظيمة وأعظمها أنها أصبحت فريسة لآثار الغزو الفكري الحديث.
هذا بعض ما يسر الله لي بيانه من حكمة "الاجتهاد" وفيه دلالة قوية على أنه ضروري لإِقامة الحياة الطبيعية لهذه الأمة، ولاستمرار تجدد نشاط المجتمع الإِسلامي في القيام بمهمته، وهو السبيل الأعظم لحفظ هذا المجتمع وحفظ عقيدته وشريعته من حيث ثباتها وشمولها ولنشر هذا الدين في الأمم الأخرى ولتطبيق الأحكام على الحوادث المتجددة، وفي هذا البيان كفاية لمحاولة العودة بالاجتهاد إلى طبيعته الأولى في الجيل الأول ليقوم بمهمة الكشف والتصحيح، ونقصد بالكشف: استخراج الكنوز من هذه الشريعة والكشف عما تضمنته من المعاني، ونقصد بالتصحيح: البناء على تلك الكنوز التي ورثها لنا الاجتهاد الشرعي الذي قام به أئمة السلف وتصحيح ما يحتاج إلى التصحيح، وبهذا تستمر عملية الاجتهاد كشفٌ وتصحيح، وأصل مشروعية هذين الأمرين معلوم من الدين بالضرورة، كيف لا وهو المعنى الذي دل عليه الإِجماع كما أشرت إليه سابقًا، وحكمته كما تبينت لنا لها دلالتها القوية على ذلك.
وإذا كان المصلحون ينادون بالرجوع إلى ذلك الجيل -القدوة في منهج التلقي وتصحيح العقيدة والإِخلاص والتجرد وإحسان العمل بهذا الدين والدعوة إليه- فإن من معالمه التي برزت فيه ونحن في أشد الحاجة إليها اليوم -نظرته لعملية الاجتهاد- فلنأخذها عن الجيل القدوة باطمئنان وثقة ويقين، ولتستمر عملية الكشف عن كنوز هذه الشريعة ولتستمر عملية التصحيح، ولنعزم على الاقتداء وعلى بذل الجهد المستطاع.
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1).
وإن الاجتهاد الذي كلف الله به هذه الأمة وجعله ضروريًا لحياتها -كما بينا ذلك- لابد أن يكون في الوسع، وآية ذلك أن اجتهاد العلماء اليوم إنما هو مكمل لجهد علماء الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .. فالقاعدة له ثابتة راسخة وأعمدتها قائمة مستكملة بل إن أكثر فروع البنيان تعجب الناظرين
(1) سورة البقرة: آية 286.
فلم يبق إلا استكمال عملية البناء وبذل الجهد لاستمرار هذه العملية فيتحقق للأمة بإذن الله ما تحتاجه من كشف جديد عن بعض الأحكام ويتحقق لها تصحيح ما يحتاج إلى تصحيح من جهد السابقين، فيجمع الله لها حينئذ بين الاستفادة من الكتاب والسنة والاقتداء بمن سلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وأكرم بهم من قدوة، تعين على تحقيق تلك المهمة وربط هذه الأجيال بالكتاب والسنة، وإذا قام العلماء بهذه المهمة على هذا النحو -وهي في الوسع والحمد لله- تحصنوا وحصنوا أمتهم في ذلك الحصن الآمن وأكملوا البناء من حيث المحافظة عليه باستمرار عملية الكشف عما يحتاجون إليه وباستمرار عملية التصحيح فيما عساه يحتاج إلى التصحيح، وفي هذا تحقيق لحكمة الاجتهاد وتحقيقًا لمهمة الاقتداء ومحافظة على عملية البناء وربط آخر هذه الأمة بأولها لتقوم بمهمتها بما لديها من طاقات، ولا يقول قائل إن هناك فرقًا بين قدرات العلماء اليوم وقدراتهم فيما مضى، لأنا نقول ما نحتاجه اليوم إنما هو استكمال لا تأسيس والاستكمال لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه التأسيس.
ونحن نحتاج أشد ما نحتاج إلى عملية الاجتهاد، وهي تحتاج إلى صدق المتابعة للجيل القدوة، والإخلاص والتجرد حتى ييسر الله لها أن تتحصن بذلك الحصن الآمن فلا تضل بها الأهواء وتقع في آثار الفكر المنحرف سواء ما أنشأته الفرق الضالة أو ما صدرته المذاهب الفكرية المعاصرة.
وأما الطاقة العلمية ففيها كفاية بإذن الله لعملية استكمال البناء وخاصة إذا ضاعف العلماء المخلصون جهدهم واستفادوا مما ورثه لهم فقهاء السلف رحمهم الله.
وفي المباحث التالية حديث عن أنواع الاجتهاد وأهم شروطه وضوابطه فيه توجيه لعملية الاجتهاد بحيث تتحصن بذلك الحصن الآمن ويتحقق بذلك الثبات والشمول .. والله الموفق والمعين.