الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
أنواع الاجتهاد وأثر ذلك على الثبات والشمول
عرفنا فيما سبق أن الاجتهاد هو: "استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية".
وهو بهذا المعنى يُعتبر الأداة العملية لإبراز شمول الشريعة وتعميم حكم النص، واستنباط الأحكام للمسائل التي لم يرد بخصوصها نص شرعي.
ولذلك كان من عمل المجتهد "تنقيح المناط" أو "تخريجه" ليتعرف من خلال ذلك على مقاصد الشريعة التي وردت بها نصوص الكتاب والسنة فيحققها في واقع الناس، وذلك ما يسميه العلماء الأصوليون:"تحقيق المناط" وبيان هذه الأنواع في المطالب الآتية:
المطلب الأول
تنقيح المناط
(1)
وهو أن يذكر الوصف المعتبر في الحكم مع غير المعتبر فينقحه المجتهد حتى يعلم المعتبر من الملغى وذلك إنما يكون بالاجتهاد.
(1) التنقيح في اللغة هو التهذيب والتشذيب وتنقيح الشِعْر تهذيبه، وتنقح شحم الناقة إذا قل، وتنقيح العظم أي استخراج مخه يقال: نقحت العظم وانتقحته أي قلّ، الصحاح للجوهري 1/ 413.
"والمناط" هو ما يتعلق به الحكم: تقول ناط الشيء ينوطه نوطًا أي علقه والأنواط =
مثاله: حديث الصحيحين في حكم المواقعة في نهار رمضان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك؟ قال وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال لا قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال لا
…
" الحديث (1).
وفي رواية أخرى عن مالك عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب قال: "أتى أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم ينتف شعره ويضرب نحره ويقول هلك الأبعد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما ذاك، قال أصبت أهلي في نهار رمضان وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تستطيع أن تعتق رقبة قال لا، قال فهل تستطيع أن تهدي بدنة قال لا، قال فاجلس فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرق تمر فقال: خذ هذا فتصدق به فقال: ما أجد أحدًا أحوج مني قال فكله وصم يومًا مكان ما أصبت" الحديث (2).
وقد أدخله السبكي في مسالك العلة (3).
= المعاليق، ونياطُ القوس معلقها. المصدر السابق 3/ 1165 والمناط في الاصطلاح: هو العلة سميت بذلك لأن الحكم يتعلق بها، فعلة الحكم قد تختلط بغيرها مما ليس بعلة فيهذبها المجتهد ويشذبها حتى يستخرجها صافية ثم يعلق الحكم بها، هذا معنى تنقيح المناط.
(1)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري 4/ 163 - باب إذا جامع في رمضان.
(2)
وانظر جميع روايات الحديث في كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لإبن عبد البر 7/ 161 - وما بعدها. تحقيق عبد الله بن الصديق 1399 هـ طبعة وزارة الأوقاف - المغرب.
(3)
وقد أشار محقق شفاء الغليل د. أحمد الكبيسي إلى أن من الأصوليين من اعتبر تنقيح المناط مسلكًا من المسالك الدالة على العِلِّية كابن السبكي وغيره ومنهم من لم يعتبره كذلك كالغزالي، فإن الدلالة على العلم إنما هو بطريق النص أو غيره من المسالك، ولاقتران العلة بما ليس بعلة كان عمل المجتهد وهو تنقيح المناط. انظر هامش شفاء الغليل 412. الناشر مطبعة الإِرشاد، الطبعة الأولى 1395 هـ.
فقال: "التاسع من مسالك العلة (تنقيح المناط وهو أن يدل) نص ظاهر على التعليل في محل الحكم (فيحذف بعضها) عن الاعتبار بالاجتهاد (ويناط) الحكم (بالباقي).
وحاصله أنه الاجتهاد في الحذف والتعيين" (1).
فقد حذف الإِمام الشافعي كون الواطئ أعرابيًا وكون الموطوءة زوجة وكون الوطء في القبل، ولم يعتبر شيئًا من ذلك، وعلق الحكم على الجماع فقط دون الأكل والشرب في نهار رمضان (2).
وأما أبو حنيفة ومالك فقد علقا الحكم بمطلق الإِفطار (3).
وقد اعتبره الغزالي، على أن هذا النوع من الاجتهاد متفق على العمل به وهو ليس من قبيل تحريم الشارع للخمر لأن العلة في تحريمها تُعلم بالاستنباط فيفهم المجتهد من مجرد ورود النص تعلق الحكم بالمحل المسمى، ولا يحتاج إلى تنقيح مناط كما هو الحال في المثال السابق (4). بل هو من قبيل "تخريج المناط" كما
سيأتي بيانه بعد قليل.
وألاحظ هنا أن الغزالي نص على أن هذا النوع من الاجتهاد متفق على العمل به، وإذا أضفنا هذا إلى ما قاله الشاطبي من أن "تحقيق المناط" متفق على العمل به (5)، تبين لنا موقف الأصوليين من هذين النوعين "تنقيح المناط" و"تحقيق المناط" وهو موقف جلي يُبعد عن قضية الاجتهاد تلك السلبيات التي
(1) المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/ 292 ومجموع الفتاوى 22/ 330 - 331.
(2)
الأم 2/ 100.
(3)
التمهيد لما في الموطأ 7/ 161 - وما بعدها، والمغني 3/ 135، وفتح الباري 4/ 165، وفتح القدير 2/ 336 - 340 - لكمال الدين بن الهمام - الطبعة الثانية.
(4)
الموافقات 4/ 60، وشفاء الغليل 414، 413، ومجموع الفتاوى 22/ 330.
(5)
وسيأتي عرضه في مطلب خاص - إن شاء الله.