المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفرع الرابعتحقيق مذهب الإمام الشاطبي في التعليل بالحكمة - الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

[عابد السفياني]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيدفي أهم خصائص الشريعة الإِسلامية بوجه عام

- ‌الباب الأولالشريعة الإِسلاميةثباتها وشمولها وحجيتها

- ‌الفصل الأولالشريعة الإِسلامية والفقه الإِسلامي

- ‌المبحث الأولالتعريف بمصطلح الشريعة الإِسلامية

- ‌المطلب الأولالمعنى اللغوي

- ‌المطلب الثانيالمعنى الشرعي

- ‌المبحث الثانيتعريف "الفقه الإِسلامي" وبيان الفرق بينه وبين "علم الكلام

- ‌المطلب الأولتعريفه في اللغة

- ‌المطلب الثانيتعريف الفقه في الاصطلاح وهل هو علم أو ظن

- ‌الفرع الأولذكر أهم التعريفات

- ‌الفرع الثانيالقيود المتفق عليها

- ‌الفرع الثالثاستخراج أهم القيود المختلف فيها وهل الفقه من المعلومات أو من الظنيات

- ‌الفرع الرابعالمناقشة

- ‌الفرع الخامسمقارنة بين "علم الكلام" و"علم الفقه

- ‌المبحث الثالثالفرق بين "الفقه" و "الشريعة

- ‌الفصل الثانيالمقصود من الثبات والشمول والأدلّة على ذلك

- ‌المبحث الأولالمقصود من الثبات والأدلة على ذلك

- ‌المطلب الأولمعنى الثبات في اللغة

- ‌المطلب الثانيالدليل الأول على ثبات الشريعة

- ‌المطلب الثالثالدليل الثاني

- ‌المطلب الرابعالدليل الثالث

- ‌المطلب الخامستطبيقات على منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - في المحافظة على ثبات الأحكام

- ‌المبحث الثانيالمقصود من الشمول والأدلة على ذلك

- ‌المطلب الثانيالدليل الأول على الشمول

- ‌المطلب الثالثالدليل الثاني على الشمول

- ‌المطلب الرابعالدليل الثالث على الشمول

- ‌الفرع الأولذكر كلام المفسرين في معنى الإكمال

- ‌الفرع الثانيذكر كلام الشاطبي في معنى الإِكمال

- ‌الفرع الثالثحاصل كلام أهل العلم في معنى الإِكمال

- ‌الفرع الرابعذكر بعض الشبه والجواب عنها

- ‌الفصل الثالثالاحتجاج بالأدلة النقلية

- ‌المبحث الأولقوّة الأدلّة النقلية

- ‌المطلب الأول

- ‌المطلب الثانيالاستقراء يثبت أن هذه البينات والجوامع لا بد من العلم والعمل بها معًا

- ‌المطلب الثالثالشريعة هي الحجة على الخلق على الإِطلاق والعموم

- ‌الفرع الأولذكر رواية البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما

- ‌الفرع الثانيذكر حديث معاذ كما رواه مسلم

- ‌الفرع الثالثذكر روايتي البخاري عن البراء وأنس رضي الله عنهما

- ‌المطلب الرابعذكر اتفاق الصحابة والتابعين على ذلك كما نقله الثقات من أهل العلم

- ‌المطلب الخامسذكر أوصاف الشريعة

- ‌الفرع الأولأوصاف الشريعة كما بينها الشاطبي

- ‌الفرع الثانياعتراض وجوابه

- ‌المبحث الثانينشأة القول بتضعيف الأدلة النقلية

- ‌المطلب الأولحقيقة هذه المقالة وموقف الخوارج والمرجئة منها

- ‌المطلب الثانينشأة هذه المقالة على يد المعتزلة

- ‌الفرع الأولمقالة واصل بن عطاء رأس المعتزلة (80 - 151)

- ‌الفرع الثانيتطور فكر المعتزلة على يد أبي الهذيل العلاف(توفي سنة 232 ه

- ‌الفرع الثالثتطورها مرة أخرى على يد النظام

- ‌المبحث الثالثأهم الأسباب التي ساعدت على انتشار القول بالظنية

- ‌المطلب الأولموقف الخوارج من رد السنة

- ‌المطلب الثانيموقف الفلاسفة وبيان وجه ارتباط تلك البدعة به، وذكر شبهة المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة

- ‌المطلب الثالثمناقشة شبهة المخالفين والجواب عنها بأكثر من وجه

- ‌الباب الثانيالاجتهاد وأهم طرقه وقضيّة الثبات والشمول

- ‌الفصل الأولالاجتهاد وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولحكمه وحكمته وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المبحث الثانيأنواع الاجتهاد وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولتنقيح المناط

- ‌المطلب الثانيتخريج المناط

- ‌المطلب الثالثتحقيق المناط

- ‌المبحث الثالثأذكر أهم شروط الاجتهاد وأثرها على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولالعلم بلغة العرب

- ‌المبحث الرابعضوابطه وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولالبناء على غير أصل

- ‌المطلب الثانيالجهل بلغة العرب

- ‌المطلب الثالثالاعتماد على "العقلى واتباع المتشابه

- ‌الفصل الثانيالعموم وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولمقارنة بين الإِعجاز الكوني والإِعجاز التشريعي وبيان سماته

- ‌المبحث الثانيالعموم اللفظي

- ‌المطلب الأول

- ‌الفرع الأولطريقة الإِمام الشاطبي

- ‌الفرع الثانيالاعتراضات التي ذكرها وأجاب عنها

- ‌الفرع الثالثاعتراضات أخرى وجوابها

- ‌المطلب الثانيطريقة المتكلمين ومناقشتها

- ‌الفرع الأولذكر طريقة المتكلمين

- ‌الفرع الثانيمناقشة الحنفية والإِمام الشاطبي والإِمام ابن تيمية لطريقة المتكلمين

- ‌الفرع الثالثمناقشة ابن تيمية لطريقة المتكلمين ومقارنتها بمذهب الشاطبي

- ‌الفرع الرابعتحليل طريقة المتكلمين وبيان الفرق بينها وبين طريقة السلف كما يمثلها الشاطبي

- ‌الأول: أصل رفع الحرج:

- ‌الثاني: قاعدة سد الذريعة

- ‌الفصل الثالثالقياس وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولطريقة الإِمام ابن القيم

- ‌الفرع الأول الأدلة من الكتاب والسنة:

- ‌الفرع الثانيعمل الصحابة بالقياس أو التفريق بين الرأي المذموم والرأي المحمود

- ‌المبحث الثانيطريقة الإِمام الشاطبي

- ‌المطلب الأولالأدلة على إثبات القياس

- ‌المطلب الثانيجوابه عن أقوال المعاوضين

- ‌المطلب الثالثالإِجماع

- ‌المبحث الثالثتطبيقات على أركان القياس وبيان شرط التعليل بالحكمة

- ‌المطلب الأولتطبيقات على أركان القياس

- ‌الفرع الأول

- ‌الفرع الثاني

- ‌الفرع الثالث

- ‌الفرع الرابعتحقيق مذهب الإِمام الشاطبي في التعليل بالحكمة

- ‌الفرع الخامسبيان أثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الثالثالقياس منهج شرعي لا مسلك عقلي

- ‌الفصل الرابعالمصلحة وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولتعريف المصلحة والتأكيد على الضوابط الشرعية فيه

- ‌المبحث الثانيالعقل لا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد

- ‌المبحث الثالثالمصلحة ودلالتها على الثبات

- ‌المبحث الرابعالمصلحة ودلالتها على الشمول

- ‌المطلب الأولتحرير موضع النزاع

- ‌المطلب الثانيأسباب التغير وتصوير مذهب المخالفين

- ‌ المطلب الثالث

- ‌المطلب الرابعبيان موقف الصحابة - رضوان الله عليهم - من النصوص

- ‌المطلب الخامسمناقشته في رده لضوابط المصلحة عند الأصولين

- ‌المطلب السادسمناقشة اعتباره المصلحة دليلاً مستقلاً

- ‌المطلب السابععدم فهم بعض الباحثين لمعنى "التعبد" في الشريعة ومناقشته فيما نقله عن الشاطبي

- ‌المطلب الثامنالفرق بين العبادات والعاديات

- ‌المطلب التاسعمناقشة ما نسبه بعض الباحثين إلى الإِمامين: ابن القيم والشاطبي

- ‌الفرع الأولفيما نسبوه إليهما

- ‌الفرع الثانيالمناقشة

- ‌المطلب العاشرموقف الشريعة من العادات والأعراف والمصالح

- ‌الفصل الخامسمواطن الإِجماع ومواطن الخلاف وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولكيفية تحقق الثبات والشمول في الحكم المجمع عليه

- ‌المطلب الأولالاعتراض الأوّل وجوابه

- ‌المطلب الثانيالاعتراض الثاني وجوابه

- ‌المطلب الثالثالاعتراض الثالث وجوابه

- ‌المبحث الثانيكيفية تحقق الثبات والشمول في الأحكام التي لم يتحقق فيها إجماع

- ‌خاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌الفرع الرابعتحقيق مذهب الإمام الشاطبي في التعليل بالحكمة

‌الفرع الرابع

تحقيق مذهب الإِمام الشاطبي في التعليل بالحكمة

يرى الإِمام الشاطبي تسمية "العلة" - التي يعتبرها الأصوليون الوصف الظاهر المنضبط - سبباً، وعرفه "بأنه ما وضع شرعاً لحكم لحكمة يقتضيها ذلك الحكم" مثل السفر، فإنه سبب لمشروعية قصر الصلاة فيه.

ويرى تسمية "الحكمة" - التي يعتبرها الأصوليون - المناسبة التي اشتمل عليها الوصف الظاهر المنضبط - بالعلة، وهي عنده الحكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر والإِباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي.

فالسفر سبب في قصر الصلاة، والمشقة هي العلة التي شرع من أجلها القصر، وقال:"وقد يطلق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما ولا مشاحة في الاصطلاح"(1).

فالعلة هي الحكمة التي هي المصلحة أو المفسدة، والإِمام الشاطبي يرى أن المصلحة والمفسدة لا يمكن أن تستقل العقول بإدراكها:

أولاً: لما تقرر أن العقل ليس بشارع، ولو أدرك المصلحة والمفسدة ولم يحتج إلى الأدلة الشرعية لكان مستقلاً في التشريع (2).

(1) وتارة يطلق لفظ العلة على ما يسميه سبباً، فقد اعتبر الغضب في الحديث "لا يقضي القاضي وهو غضبان" تارة سبباً فقال:"فالغضب سبب وتشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة" الموافقات 1/ 179، وتارة أُطلق على الغضب في الحديث بأنه علة فقال:" .. نظر -أي المجتهد- إلى علة منع القضاء فرآه الغضب وحكمته تشويش الذهن عن استيفاء الحجاج .. " 1/ 132.

وقد) شار الدكتور الربيعة إلى أن السبب عنده غير العلة والعلة غير السبب، وهذا إنما هو في الغالب، وإلا فهو يطلق على السبب علة كما مر آنفاً، وجواز إطلاق لفظ السبب على العلة موضع خلاف.

(2)

انظر المقدمة الثالثة، الموافقات 1/ 13، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند الحديث عن المصلحة إن شاء الله.

ص: 397

ثانياً: أن المصالح والمفاسد مضطربة وضابطها هو عدم مخالفتها للشريعة، فدفع المشقة مثلاً بالنسبة للمسافر وغيره "تختلف بالقوة والضعف، وبحسب الأحوال وبحسب قوة العزائم وضعفها، وبحسب الأزمان وبحسب الأعمال، فليس سفر الإنسان راكباً مسيرة يوم وليلة في رفقة مأمونة وأرض مأمونة وعلى بطء وفي زمن الشتاء وقصر الأيام، كالسفر على الضد من ذلك في الفطر والقصر، وكذلك الصبر على شدائد السفر ومشاقه يختلف .. وكذلك الصبر على الجوع والعطش .. وكذلك المريض بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها، واذا كان كذلك فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص ولا حد محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة .. فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة

" (1). فالعبرة بالمظنة إذا لا بمجرد الحكمة.

ثالثاً: صرح الشاطبي في موضع آخر بأن "المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين".

(أ)"ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة كالإِجماع والنص والإِشارة والسبر والمناسبة وغيرها، وهذا القسم هو الظاهر الذي نعلل به ونقول إن شرعية الأحكام لأجله"(2).

(ب)"ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك المسالك المعهودة ولا يطلع عليه الا بالوحي، كالأحكام التي أخبر الشارع فيها أنها أسباب للخصب والسعة وقيام أبهة الإِسلام" - وضرب أمثلة أخرى - وقال: "وإذا كان معلوماً من الشريعة في مواطن كثيرة أن ثم مصالح أخرى غير ما يدرك المكلف لا يقدر على استنباطها ولا على التعدية بها في محل آخر، إذ لا يعرف كون المحل الآخر

(1) المصدر السابق 1/ 213 - 214.

(2)

المصدر السابق 2/ 130، وانظر 1/ 292، حيث قال: "

وتعرف العلة هنا بمسالكها في أصول الفقه".

ص: 398

-وهو الفرع - وجدت فيه تلك العلة البتة، لم يكن إلى اعتبارها في القياس سبيل فبقيت موقوفة على التعبد المحض، لأنه لم يظهر للأصل المعلل بها شبيه إلا ما دخل تحت الإِطلاق أو العموم المعلل، وإذ ذاك يكون أخذ الحكم المعلل بها متعبداً به، ومعنى التعبد به الوقوف عند ما حد الشارع فيه من غير زيادة ولا نقصان" (1).

ومقصود الشاطبي ظاهر من هذه النقول، وأذكر هنا مثالين تزيد المقصود وضوحاً:

الأول - قصر الصلاة في السفر للملك المترفه:

قرر المانعون للتعليل بالحكمة أن الشارع ربط الحكم وهو قصر الصلاة بالسفر وهو علة عندهم، ولا يشترط تحقق الحكمة.

والشاطبي - باصطلاحه الخاص - يذهب المذهب نفسه، فالسفر سبب وهو المظنة ولا عبرة بالحكمة التي هي المشقة لعدم انضباطها كما بين سابقاً، وأضيف هنا ما قاله في موضع آخر: من أن المشقة بالنسبة للملك ممكنة، قال إن "انتفاء المشقة بالنسبة إلى الملك المترفه غير متحقق، بل الظن بوجودها غالباً، غير أن المشقة تختلف باختلاف الناس ولا تنضبط، فنصب الشارع المظنة موضع الحكمة ضبطاً للقوانين الشرعية"(2)، وهذا النص - مثل النصوص السابقة يدل على أن الشاطبي يشترط للتعليل بالحكمة اتباع المظنة، أما اتباعها بغير شروط فليس في كلامه ما يدل عليه.

الثاني - مثال آخر:

قال الشاطبي: " .. كما جعل -أي الشارع- التقاء الختانين ضابطاً لمسبباته المعلومة، وإن لم يكن الماء عنه لأنه مظنة، وجعل الاحتلام مظنة حصول العقل القابل للتكليف لأنه غير منضبط في نفسه إلى أشياء من ذلك كثيرة"(3).

(1) المصدر السابق 2/ 230.

(2)

المصدر السابق 1/ 173.

(3)

المصدر السابق 1/ 173.

ص: 399

فالسبب موجب لربط الحكم به سواء تحققت الحكمة أم لم تتحقق واسمع إليه يقول جواباً عن اعتراض أورد عليه، قال:"إن العامل -أي المتعاطي للسبب - قد تعاطى السبب الذي تنشأ عنه المفسدة أو تفوت به المصلحة وهو الشرب والإِيلاج المحرمان في نفس الأمر، وهما مظنتان للاختلاط وذهاب العقل، ولم يضع الشارع الحد بإزاء زوال العقل أو اختلاط الأنساب، بل بإزاء تعاطي أسبابه خاصة .. فالمولج والشارب قد تعاطيا السبب على كماله فلا بد من إيقاع مسببه وهو الحد، وكذلك سائر ما جرى هذا المجرى مما عُمل فيه بالسبب لكنه أعقم"(1).

فالشريعة وضعت الحكم بإزاء السبب ولم تضعه بإزاء الحكمة، وذلك لأن السبب هو المظنة المنضبطة، والحكمة - وهي المصلحة أو المفسدة - تختلف مقاديرها باختلاف الأشخاص والأحوال

فإن أمكن معرفتها وربطها بمظنة منضبطة فما الحكم عند الإِمام الشاطبي: فالجواب: أن الأحكام عنده قسمان:

الأول: ما غلب عليه جهة التعبد.

الثاني: ما غلب عليه جهة الالتفات إلى المعاني.

فبالنسبة للأول قال الشاطبي رحمه الله: " .. علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد وفي باب العاديات جهة الالتفات إلى المعاني والعكس في البابين قليل .. "(2).

ثم قال: "وإذا ثبت هذا فمسلك النفي متمكن في العبادات وهو العمدة"(3) أي فلا نتعدى بالحكم محالها.

أما بالنسبة للثاني فقد قال: إذا كانت العلة معلومة منضبطة "وتعرف العلة

(1) 2/ 249 - 250.

(2)

2/ 293.

(3)

2/ 293.

ص: 400

هنا بمسالكها المعلومة في أصول الفقه فإذا تعينت علم أن مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه، ومن التسبب أو عدمه، وإن كانت غير معلومة فلابد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا وكذا، إلّا أن التوقف هنا له وجهان من النظر" (1).

الوجه الأول: "أن لا نتعدى المنصوص عليه في ذلك الحكم المعين أو السبب المعين، لأن التعدي مع الجهل بالعلة تحكم من غير دليل، وضلال على غير سبيل .. فالتوقف هنا لعدم الدليل".

الوجه الثاني: "أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعاً أن لا يتعدى بها محالها حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي، لأن عدم نصبه دليلًا على التعدي دليل على عدم التعدي، إذْ لو كان عند الشارع متعدياً لنصب عليه دليلاً ووضع له مسلكاً، ومسالك العلة معروفة

" (2).

فهذان الوجهان كلاهما متجه، والأول: يقتضي التوقف من غير جزم بأن التعدي غير مراد، ويقتضي إمكان أنه مراد فيبقى الأمر في قصد الشارع له بالنسبة للمجتهد محتملاً.

والثاني: يقتضي الجزم بنفي التعدي من غير توقف ويحكم علماً أو ظناً بأنه غير مقصود للشارع.

فإذا كان هذان الوجهان متجهين صار عمل المجتهد معهما كعمله عند تعارض الدليلين، والاحتياط هنا أولى (3).

وصرح الشاطبي بمثل هذا في موضع آخر فقال: "

فعلى هذا إذا

(1) 2/ 291.

(2)

2/ 292.

(3)

2/ 292، ولأن التعارض يتفاوت باعتبار المسائل والمجتهدين والأوقات بالنسبة للمجتهد الواحد.

ص: 401

كانت العلة غير منضبطة ولم يوجد لها مظنة منضبطة فالمحل محل اشتباه، وكثير ما يرجع هنا إلى أصل الاحتياط فإنه ثابت معتبر" (1).

ومن الأمثلة التي تنضبط فيها الحكمة: قوله عليه السلام "لا يقضي القاضي وهو غضبان"(2). فإذا "نظر -أي المجتهد- إلى علة منع القضاء فرآها الغضب وحكمته تشويش الذهن عن استيفاء الحجاج بين الخصوم، فألحق بالغضب الجوع والشبع المفرطين والوجع وغير ذلك مما فيه تشويش الذهن"(3).

والتعدية هنا بالحكمة بالمظنة المنضبطة التي عُلمت في الفرع، وهذا معنى قوله:"إذا كانت العلة غير منضبطة ولم يوجد لها مظنة منضبطة فالمحل محل اشتباه" فالشرط إذًا في التعليل بالحكمة أن يكون لها مظنة منضبطة وإلّا فالمحل محل اشتباه الاحتياط فيه معتبر.

والحاصل أن مذهب الإِمام الشاطبي يتضمن أموراً:

الأول: أن ما يسميه الأصوليون علة يسميه سبباً، وأن ما يسميه الأصوليون حكمة يسميه علة.

الثاني: أن الحكم -وهي المصالح والمفاسد- مختلفة المقادير ومتفاوتة والمعول عليه في إدراكها هوما عول عليه الشرع من اعتبار المظنة المنضبطة.

الثالث: أن من الحكم والمصالح التي تدخل تحت التعليل العام المطلق ما لا يصح ربط الحكم بها، لأنه لا يُعرف أن "الفرع" متضمن لها فلا يتعهد بها موضعها، ومقصود الشارع حينئذ الوقوف عندما حده من غير زيادة ولا نقصان.

الرابع: أن مسلك نفي التعدي متمكن في العبادات.

(1) 1/ 235.

(2)

أخرجه البخاري عن أبي بكرة أنه قال: " .. سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان" كتاب الأحكام، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13/ 136.

(3)

1/ 132.

ص: 402

الخامس: أن التوقف والاحتياط متمكن في العادات لأن العلة إذا لم يوجد لها مظنة منضبطة فالمحل محل اشتباه.

وبعد: فهذا هو مذهب الإِمام الشاطبي، وتعلق الشلبي وغيره بنص واحد من الموافقات لا يفيده شيئاً فيما قاله ونسبه إلى الشاطبي (1)، لأن النص الذي نقله ليس فيه إلا أن الشاطبي يعتبر العلة "هي المصلحة نفسها أو المفسدة نفسها لا مظنتها كانت ظاهرة أو غير ظاهرة منضبطة أو غير منضبطة، وكذلك نقول في قوله عليه الصلاة والسلام "لا يقضي القاضي وهو غضبان" فالغضب سبب وتشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة، على أنه قد يطلق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما ولا مشاحة في الاصطلاح"(2).

فإذا أردنا أن نأخذ من هذا النص أن الشاطبي يسمي الحكمة سواء انضبطت أو لم تنضبط "علة" فنعم، أما إن أردنا أن نقول أنه لا يشترط في التعليل بالحكمة كما اشترط بعض الأصوليين فذلك لا يدل النص عليه.

فقول الدكتور شلبي: "فعلى الجملة العلة هي المصلحة نفسها والمفسدة نفسها ولم يشترط فيها الظهور والانضباط كما اشترطوا" غير مستقيم، لأن النص لا يفيد أن الشاطبي يعلل بمطلق الحكمة، ومعرفة مذهبه تكون بدراسة موقفه:

(1) يعتمد بعض الدارسين في نسبة الآراء إلى الأئمة على النظر الأول في نصوصهم دون جمعها ومقابلة بعضها ببعض والنظر فيها وتحقيق معانيها حتى يعرف قصد صاحبها، وهذا النظر الأول يشبه في خطورته تعامل الفرق الضالة مع نصوص الشرع بالنظر الأول.

ويتعلق هؤلاء الدارسين بنص واحد من أقوال الأئمة - عامها وخاصها مجملها ومفصلها محكمها ومتشابهها، مطلقها ومقيدها - وعادة يتعلقون بالمطلق والمتشابه والمجمل والعام، ويغفلون عما سوى ذلك، وفي هذا تكمن خطورة هذا المسلك، تماماً كما صنعت الفرق الضالة فإنها تعلقت بالعام دون الخاص، والمجمل دون المفصل والمتشابه دون المحكم والمطلق دون المقيد ولذلك نسبت إلى الشريعة ما ليس منها. الموافقات 4/ 114 - 115 - 116 - 117.

(2)

انظر ما سبق ص 395.

ص: 403