الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحاصل المعنى اللغوي: أن لفظ الشريعة يطلق على مورد الشاربة، والشرع مصدر ثم جعل اسماً للطريق النهج المستقيم، ومعنى شرع أي سنّ ونهج وأوضح وبين المسالك وكل ذلك فيه معنى الابتداء، قال ابن كثير "الشرعة والشريعة ما يبتدأ فيه إلى الشيء ومنه يقال شرع في كذا أي ابتدأ فيه"(1) فمن ابتدأ في سن أمر وأوضحه وبينه وجعله منهاجاً فقد شرعه.
المطلب الثاني
المعنى الشرعي
استعمل القرآن لفظ "الشرعة" و"الشريعة" باستعمالات متعددة.
1 -
أطلق لفظ "الشرع" على "التوحيد".
مثاله قوله تعالى في سورة الشورى:
فالذي شرع هو الله، وقد شرع "التوحيد" وأمر الأنبياء والمؤمنين أن يجتمعوا عليه وأن لا يتفرقوا فيه.
2 -
واستعمل لفظ "الشرعة" في القرآن مراداً به "الفروع" وهي ما سوى التوحيد.
(1) تفسير ابن كثير 2/ 67.
(2)
آية 13.
(3)
آية 48.
وقد وردت هذه الآية بعد خطاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله أو يعرض عنهم ثم بين سبحانه أنه قد جعل لكل من أمة محمد وأهل الكتاب شرعة ومنهاجاً أي شريعة خاصة وليس ذلك إلا للفروع وذلك لثبوت الاتفاق على التوحيد عند الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، فيؤخذ من آية المائدة أن القرآن استعمل لفظ "الشرعة" وأراد بها "الفروع" وهي الأحكام ما سوى "التوحيد".
3 -
الاستعمال الثالث: إطلاق لفظ "الشريعة" على الأصول والفروع. أي على التوحيد وسائر الأحكام، مثال ذلك ما ورد في سورة الجاثية في قوله تعالى خطاباً لنبيه عليه الصلاة والسلام:
فالشريعة هنا أطلقت على "الوحي" كتاباً وسنّة، وذلك شامل للتوحيد وسائر الأحكام لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور باتباع ذلك كله.
ومن خلال هذه الأمثلة القرآنية يمكن القول بأن لفظ الشريعة مشترك لفظي استعمله القرآن الكريم باستعمالات ثلاثة، فأطلقه مرة على "التوحيد" ومرة على "الفروع" ومرة ثالثة عليهما معاً، فتكون دلالة اللفظ في الأصل اللغوي على معنى واحد وهو "مورد الشاربة" والطريق إليها يسمى "الشرع" ثم جعل اسماً للطريق النهج. واستعير ذلك للطريقة الإِلهية من الدين، فالطريقة الإِلهية تسمى شرعاً الأصول منها والفروع، ثم استعمل القرآن لفظ "الشرعة" و"الشرع" و"الشريعة" باستعمالات متعددة، فأصبح ذلك مشتركاً لفظياً مع بقاء دلالته في الأصل على معنى واحد، وعلى هذا فإنّ كل ما جاء به الدين يسمى في اللغة "شرعاً" كان من الأصول أو الفروع، ويجوز في الاصطلاح
(1) آية 18.
القرآني أن يطلق لفظ الشرع والشرعة والشريعة تارة على التوحيد، وتارة على الفروع وتارة على الكتاب والسنّة معاً أصولاً وفروعاً.
استعمال اللفظ في كلام العلماء:
استعمل العلماء لفظ "الشريعة" باستعمالات متعددة وذلك حسب المقام، فمنهم من أطلقها على التوحيد وما سواه من الفروع، ومنهم من أطلقها وأراد بها "التوحيد" فقط، ومنهم من أطلقها وأراد بها "الفروع فقط" وإليك من الأمثلة ما يبين ذلك.
أولاً: إطلاق لفظ "الشريعة" على التوحيد. وذلك كما فعل الإِمام الشيخ أبو بكر الآجري حيث سمى كتابه في العقيدة "الشريعة"(1)، ومثله كتاب أبي عبد الله بن بطة واسمه "الإِبانة عن شريعة الفرق الناجية"(2) أي عن عقيدة الفرقة الناجية، وهذا الإطلاق مشابه للإِطلاق الوارد في سورة الشورى.
ثانياً: إطلاق لفظ "الشريعة" على الأحكام العملية فقط وهي "الفروع" التي اختلفت فيها الرسالات السماوية، وقد أشار الإمام ابن كثير إلى هذا المعنى، مثاله: ما ورد في سورة المائدة فقد استعمل القرآن لفظ "الشرعة" وخص بها الأوامر والنواهي والحدود والفرائض، وهو تفسير قتادة رضي الله عنه (3)، ونقله عنه أيضاً ابن جرير مال:"الدين واحد والشريعة مختلفة"(4)، وهذه
(1) هو محمد بن الحسين بن عبد الله أبو بكر الأجري، نسبة لأجر من قرى بغداد كان ثقة صدوقاً ديّناً وله تصانيف كثيرة وتوفي سنة 365 هـ.
تاريخ بغداد 2/ 243، للحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي - الناشر دار الكتاب العربي بيروت، ومعجم المؤلفين 9/ 243، لعمر رضا كحالة الناشر مكتبة المثنى بيروت.
(2)
هو عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري، فقيه حنبلي عالم بالحديث ولد سنة 304 وتوفي 387 هـ طبقات الحنابلة 4/ 142 - 153، لإبن أبي يعلى مطبعة السنّة المحمدية بتصحيح محمد حامد الفقي 1371، والأعلام 4/ 354.
(3)
تفسير ابن كثير 2/ 62.
(4)
جامع البيان 5/ 270.
"الفروع" هي التي لحقها النسخ. وتسمى "شرعة"، وأما التوحيد فلم يلحقه نسخ البتة إذ لا يتصور فيه ذلك، ويدل على ذلك حديث أبي هريرة كما رواه البخاري "قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء أخوة لعلّات (1) أمهاتهم شتى ودينهم واحد"(2).
قال الإِمام ابن كثير عند تفسير آية الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية "أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلاله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (3).
ثالثاً: إطلاق لفظ "الشريعة" على التوحيد وسائر الأحكام، قال الإمام القرطبي "فالشريعة ما شرع الله لعباده من الدين"(4)، وقال في موضع آخر:"ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح وإنما خالف بينهما في الفروع حسب علمه سبحانه"(5).
وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "والشريعة إنما هي كتاب الله وسنّة رسول الله
…
" (6) وحكاه عن الأئمة الفقهاء وعامة أهل الحديث (7)، وهذا
(1) معنى إخوة لعلّات: أي أبوهم واحد وأمهاتهم شتى.
(2)
فتح الباري على صحيح البخاري في أحاديث الأنبياء 6/ 478.
(3)
تفسير ابن كثير 9/ 104، وانظر جامع البيان 5/ 272.
(4)
الجامع لأحكام القرآن 16/ 163 - 164.
(5)
المصدر نفسه 16/ 163 - 164.
(6)
و (7) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 19/ 134، 306، 307.
وتمام النص هو: "والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات"، ومقصود ابن تيمية أن الشريعة "هي الكتاب والسنّة" وأنه لا يخرج شيء عنها، وبيّن أن ما كان عليه السلف .. كله راجع إليها، فمنها استمد السلف جميع الأحكام في الأعطيات والولايات،، ويدل على هذا التفسير ما قاله شيخ الإِسلام في موضعين آخرين: الأول: قوله: "الشرع المنزّل وهو الكتاب والسنّة" ثم بين وجوب رد جميع =
الاستعمال يناسب المعنى الوارد في سورة الجاثية وهو الاستعمال القرآني الثالث.
وبعد أن عرفنا أوجه استعمال اللفظ في كلام العلماء نضيف إلى ما تقرر سابقاً أن العلماء استعملوه بتلك الاستعمالات وذلك حسب المقام وكل ذلك جائز.
وإذا أردنا بعد هذا كله أن نحدد ما يدخل تحت مصطلح "الشريعة" علمنا أنه التوحيد وسائر الأحكام وهو الاستعمال الثالث، والتوحيد وسائر الأحكام هو عبارة عن الوحي فتكون "الشريعة" هي الكتاب والسنة فقط، مع جواز الاستعمال الأول والثاني لأن "الشريعة" مشترك لفظي كما تقرر، وأما في كلام أهل العلم فبحسب المقام (1)، وقد كثر الاستعمال الثالث في كتب المحدثين (2)
= الأمور إليه فقال: (واتباعه واجب من خرج عنه وجب قتله ويدخل فيه أصول الدين وفروعه وسياسية الأمراء وولاة المال وحكم الحكام ومشيخة الشيوخ وغير ذلك فليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعة الله ورسوله" 35/ 395، والموضع الثاني قوله "اسم الشريعة والشرع والشرعة فإنه ينتظم كله ما شرعه الله من العقائد والأعمال 19/ 306.
وقد جمعت بين هذه النصوص لرفع اللبس والإيهام، كما بينت مقصود العلماء واستعمالاتهم للفظ "الشريعة والشرعة والشرع" للأمر نفسه.
(1)
وقد ذكر ابن منظور استعمالات متعددة عن غير واحد من الصحابة، ثم علَّق عليه بقوله وكل ذلك يقال، اللسان 10/ 41 مادة شرع، وإنما يصح ذلك باعتبار المقام.
(2)
انظر -المدخل لدراسة الشريعة- د. عبد الكريم زيدان 65، الطبعة السادسة -مكتبة القدسي- مؤسسة الرسالة.
أصول الشرعية الإِسلامية 7 - د. علي جريشة، ط الأولى 1399 هـ - الناشر مكتبة وهبه، خصائص الشريعة الإِسلامية 11 الدكتور عمر الأشقر، ط الأولى مكتبة الفلاح، الكويت. مفهوم الفقه الإِسلامي - لنظام الدين عبد الحميد 17، ط الأولى 1404 هـ، مؤسسة الرسالة. الشريعة الإِسلامية تاريخها ونظرية الملكية 27 - التشريع الإِسلامي والفقه الإِسلامي - الدكتور القطان 9، 10، ط الأولى -الناشر مطبعة التقدم - محرم 1396 هـ. المدخل للفقه في الإِسلام - الدكتور حسين الشاذلي 8 - 9 طبعة سنة 1396 هـ الناشر مطبعة السعادة أسهمت جامعة الكويت في طبعه. المدخل الفقهي العام - الدكتور الزرقا 30 الطبعة التاسعة، الناشر مطابع الألف باء دمشق 1967.
التشريع والفقه في الإِسلام 15 ط.
وهو الاستعمال العام، ثم كل موضع بحسبه ولكل مقام مقال (1).
والله أعلم.
وجه المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي:
وأبدأ بذكر ما أشار إليه بعض المحدثين ثم أذكر ما يظهر لي وذلك كما يلي:
أشار بعض المحدثين إلى أن الشريعة -التي هي مورد الماء- حياة الأبدان فكذلك الشريعة الإِسلامية حياة النفوس والأرواح، ومنهم من قال إن "مورد الشاربة" سمي شريعة لشروع الناس فيه وكذلك شرائع الإِسلام وذلك لشروع أهلها فيها.
ومنهم من قال إن الشرع: هو الطريق النهج الظاهر المستقيم والشريعة الإِسلامية طريق واضح ونهج ظاهر مستقيم لمن أراد معرفة الحق واتباعه (2).
وأضيف إلى ذلك ما يلي:
1 -
إن العرب لا تسمي مشرعة الماء "شريعة" حتى يكون الماء عداً لا انقطاع فيه، والشريعة الإِسلامية لا تزال أحكامها شاملة لكل الحوادث المستجدة إلى يوم القيامة لا ينقطع عطاؤها، ولا يزال المجتهدون يجدون فيها كل حكم لكل حادثة.
2 -
"والشريعة الطريق الأعظم". والشريعة الإِسلامية - دون ما سواها من الشرائع البشرية هي الطريق الأعظم الموصل للحياة الطيبة الجامع بين مصالح الناس على التمام والكمال في الدنيا والآخرة.
(1) كما أوردنا الأمثلة من أقوال العلماء رحمهم الله تعالى، والمقام في هذا البحث يختص بدراسة الثبات والشمول في الأحكام العملية، ولا يتطرق للتفصيلات العقائدية، ويقتضي الأمر دراسة بعض الأسس العقدية لتكون منطلقاً للبحث وذلك أمر ضروري جداً لا يمكن دراسة "الثبات والشمول في الشريعة" إلا عن طريقه.
(2)
انظر المدخل لدراسة الشريعة 38، ومفهوم الفقه الإِسلامي 17.
3 -
إن معنى شرع في كذا أي ابتدأ فيه، وكذلك الشريعة الإِسلامية سميت بهذا الاسم والله أعلم لأن الله هو الذي ابتدأها سبحانه. فابتداء الخطاب من الله -إما لفظاً كالقرآن أو معنى كالسنّة- هو التشريع وسيأتي بيان أن عمل المجتهد وإن كان يكشف عن الحكم ويستنبطه إنما يسمى اجتهاداً واستنباطاً ولا يسمى تشريعاً لأنه لم يبتدئه بل أخذه من الشريعة.