الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك مسألة تطبيق الحدود فإنه مشروط بشروط فإذا لم تتحقق فلا تطبق، وليس ذلك تغير لوجوب إقامة الحد.
ومثل ذلك منع خروج النساء إلى المساجد ..
وأما مسألة حد الخمر فإنما اتبع الصحابة فيها المصلحة التي شهد لها أصل كلي، ولم يتبعوا فيها مجرد المصلحة، ولم يغيروا بها شيئاً، وكما أن هذه المسألة سندها المصلحة التي شهد لها الشارع، فإن سد الذريعة هي سند الصحابة في منع حد السكر ونحوه في الغزو.
وهكذا في مسألة عدم قصر عثمان رضي الله عنه الصلاة في الحج وترك الأضحية فإنها من باب سد الذريعة، والمؤلف لم يشر إلى هذا، وكأن الصحابة يتصرفون في الأدلة بغير ضابط شرعي (1).
المطلب الرابع
بيان موقف الصحابة - رضوان الله عليهم - من النصوص
إذا تقرر ذلك يحسن بي أن أُلِمَّ بموقف الصحابة من النص، وهو معلوم عند العلماء المعتبرين، فإنهم لم يكونوا يتركون النص إلى رأي أو مجرد مصلحة بل كانوا يتشاورون ويردون المسائل إلى النصوص .. فاستدلالهم لا يخرج عن العمل بالنص أو الحمل عليه، وإذا استنبطوا منه معنى واحتجوا به فلا يلزم من ذلك أن يصرحوا بالطريق الذي استنبطوه به، لكن المقطوع به أنهم لم يكونوا يستنبطون الأحكام بمجرد الرأي، وقد سبق ذكر إجماعهم على ذم الرأي الذي لا دليل عليه (2). فقول صاحب تعليل الأحكام "ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من
(1) ومثل ذلك ما قاله في ثضمين الصناع ص 59. مع أن هذا المثال في الحقيقة يدخل تحت أصل أو قاعدة معتبرة وهي قاعدة سد الذرائع. انظر نظرية المصلحة 341، أو تدخل تحت أصل معتبر وهو أن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة عند التعارض في الوقائع التي لم يرد فيها حكم منصوص. نظرية المصلحة 133 - 137.
(2)
انظر الإِجماع ص 266 - 384.
غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن" مخالف للإِجماع المنقول عنهم، إذ كيف يذم الرأي من لا يلتفت إلى الأصول كانت أو لم تكن ويتبع "وجوه الرأي" على حد قول المؤلف.
وبسبب اتباعه هذا الوهم المخالف للإجماع أخذ يطلق المصلحة من ضوابطها، ويحاول الاستدلال بها دون أن يقيدها بكونها مصلحة شرعية لا تعارض مقصود الشارع، ومقصوده يعرف من النص أو الإِجماع.
وبسبب هذا الوهم أيضاً نجد عباراته مضطربة فبينما هو ساع في تقرير مسلكه - الذي ليس له فيه ولي إلّا الطوفي (1) - تجده يضطرب أمام سيل الحقائق العلمية التي تثبت أن المصلحة المعارضة للنص مردودة وملغاة وأن ذلك هو منهج الصحابة والأئمة (2).
ومن المواضع التي اضطرب فيها: قوله: "
…
إن المصالح التي عمل السلف بها في مقابلة النصوص لم تبلغ رتبة الضرورة، وأن العمل بالمصلحة في مقابلة النص ليس تركاً للنص بالرأي في الواقع، وإنما ترك للنص بالنص بل بالنصوص الكثيرة .. " (3) فهو هنا يقرر أن السلف لم يقدموا المصلحة على النص، وأنهم إنما اعتبروا المصلحة التي شهدت لها نصوص كثيرة، فالمقابلة ليست بين مصلحة مجردة ونص بل بين مجموعة نصوص ونص، ويستوي أن يكون هذا رأياً للمؤلف، أو نقلًا عن السلف فإنه قد أقره كما هو ظاهر كلامه، ويحاول أن يجمع بين مذهب الصحابة ومذهب التابعين، فيقول: "
…
وبعد: فتلك طريقة هؤلاء الفقهاء السابقين في التعليل، وهم فيها لم يخرجوا عن طريقة
(1) أشرت إلى فساد عقيدته وفساد رأيه الذي قدم به المصلحة على النص. انظر ما سبق ص 413.
(2)
انظر رسالة أستاذي "نظرية المصلحة" من أولها إلى آخرها تجد فيها ما يثبت ذلك، وكذلك ضوابط المصلحة.
(3)
تعليل الأحكام 302.
صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: عللوا أحكام الله رغم أنف المنكرين (1) وحكّموا المصلحة في التشريع، ولكن في دائرة المعتدلين، فلم يجمدوا على النصوص تعبداً بألفاظها، بل فتشوا وأخرجوا كنوزاً ثمينة من وادي معانيها، وزنوا الأمور بما يترتب عليها من صلاح أو فساد فأباحوا الأول، ومنعوا من الثاني، جعلوا
عمادهم في ذلك التعليل المصلحة، ولم يسيروا وراء الأوصاف في كل شيء كما فعل الفقهاء والأصوليون المتأخرون، ومع هذا فلم يندفعوا وراء كل ما يظن أنه مصلحة، وإن صادم قاطعاً في شرع الله، أو نافى قاعدة من قواعد الدين، بل رأيناهم في غير موطن يردون هذه المصلحة ويشددون النكير على من رام العمل بها" (2).
والذي أقوله هنا: أنه ما دام أن الصحابة والتابعين لا يجرون وراء الأوصاف في كل شيء ولم يندفعوا وراء كل ما يظن أنه مصلحة وإن صادم قاطعاً من الشرع أو نافى قاعدة من قواعده، إذا كان الأمر على هذه الحال فما بال المؤلف يقول عنهم مقالته السابقة وحاصلها أنهم لا يتبعون الأوصاف - هكذا على الإِطلاق - بل يتبعون وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت قواطع أو قواعد أو لم تكن!!!
ثم إذا تركنا هذا الأمر إلى غيره، فلماذا ينفر من اشتراط الفقهاء والأصوليين شهادة الشارع للمصلحة حتى تكون معتبرة وإلّا فهي ملغاة، لماذا ينفر من هذا، وهو يحكي مذهب الصحابة والتابعين بأنهم ما كانوا يقرون مصلحة تصادم قاطعاً أو قاعدة .. !؟
والدليل على نفوره من الاشتراط وقوعه في ضده أنه نقل مذاهب الأصوليين وانتصر لمذهب الطوفي
…
وذكر هذه المذاهب كما يلي:
(أ) أن المصلحة المعتبرة هي التي لها أصل معين، ونسبه للقاضي.
(1) مخالفة المؤلف للمنكرين للتعليل - مع موافقتي له في ذلك - لا يبيح له رفع ضوابط المصلحة واتباع مذهب الطوفي .. والشذوذ عن الإِجماع.
(2)
رسالة تعليل الأحكام 92.
(ب) أن المصلحة المعتبرة هي المشابهة للمصالح المتفق عليها أو المنصوص عليها، ونسبه للإِمام الشافعي وجمهور الحنفية.
(ج) أن المصلحة المعتبرة هي التي لا تصادم نصاً ولا إجماعاً تحققت المُشَابَهةُ أم لم تتحقق، قربت من مورد النصوص أو بعدت، ونسبه للإِمام مالك.
(د) المصلحة معتبرة على الإِطلاق مرسلة أو غير مرسلة في المعاملات وما شابهها حتى وإن عارضت نصاً أو إجماعاً متى ما كانت راجحة!!!
قال: "وهناك مذهب رابع خلاصته أن المصالح يعمل بها مطلقاً مرسلة أو غير مرسلة، ويعني بها التي عارضت نصاً أو إجماعاً متى كانت راجحة لكن في صنف من الأحكام "المعاملات وما شابهها" أما العبادات والمقدرات فلا وزن للمصلحة فيها وهو رأي نجم الدين الطوفي الحنبلي وجماعة من العلماء لم يصرحوا به قولاً ولكن فتواهم تؤيد ذلك عملاً"(1).
وقد حاول مناقشة الأصوليين - ما عدا رأي الطوفي فإنه مر عليه سريعاً وبنى له مسألة أخرى نصره بها كما يظن - (2) وليس المقصود هنا مناقشته فيما نسبه إلى الأصوليين فمثل هذه البحوث لا تكفي فيها ورقيات كما صنع هو (3)، وكذلك لا تكفي فيها ما قد أسجله هنا من ملاحظات، ذلك أن نسبة المذاهب إلى الأصوليين تحتاج إلط بحوث متخصصة في هذا الموضوع، وأكتفي هنا بالرد عليه فيما نسبه إلى فقهاء الصحابة -كما صنعت سابقاً- مع بيان اضطرابه وتفنيد خطئِه في تفريقه بين مذهب الصحابة والأصوليين مع مناقشته خاصة فيما نسبه إلى الشاطبي وحاول الرد عليه انتصاراً للطوفي.
(1) تعليل الأحكام 292 - 293 - 294 - 295.
(2)
تعليل الأحكام 295 - 296.
(3)
تعليل الأحكام 292 - 296.
أما نسبة مذاهب الأصوليين إلى كتبهم وتحرير موقفهم من المصلحة فذلك لا يحتاج مني إلى بحث - فلقد حُرر تحريراً حسناً وأكتفي بما حرره أستاذي الدكتور حسين حامد حسان وأبني عليه (1). ومن ذلك قوله: "كل ضروب الاجتهاد المستندة إلى أصل اعتبار المصالح في الأحكام تعتبر استدلالاً بالنصوص الشرعية وليس فيهاعمل بمصلحة مجردة ولا ترك لنص من نصوص الشريعة"(2).
ويقول: وقد "أبطلنا دعوى أن مالكاً يقدم رعاية المصلحة على النص أو يترك بها خبر الأحاد، وأثبتنا أن جميع الفتاوى التي نُسبت إليه واتخذت دليلاً على هذه الدعوى غير مفيدة في هذا المطلوب وبينا أسباب ذلك"(3).
"أثبتنا أن المصلحة التي لا تشهد النصوص الشرعية لنوعها ولا لجنسها بالاعتبار مصلحة مردودة باتفاق
…
وهي المصلحة الغريبة التي حكى الغزالي والشاطبي الإِجماع على عدم الأخذ بها .. وقلنا أن المصلحة التي يقول بها الطوفي لا تختلف عن هذا النوع من المصالح المردودة إلّا في أن الطوفي يقدمها على النص والإِجماع" (4).
وقد حاول محمد شلبي الانتصار له - مع أن الطوفي إنما اتبع المصالح المردودة وحاول تقديمها على النص والإِجماع، وقد أثبت العلماء المعتبرون قديماً وحديثاً مخالفته لسائر الأئمة وشذوذه عن الإِجماع.
ومن عجب أن ترى صاحب تعليل الأحكام يحاول أن يسند رأي الطوفي
(1) انظر نظرية المصلحة، وانظر ضوابط المصلحة للأستاذ البوطي. وهما بحثان متخصصان في موضوع المصلحة.
(2)
نظرية المصلحة 807.
(3)
المرجع نفسه 807.
(4)
المرجع نفسه 808 وراجع إن شئت ما ذكره من التفاصيل والأدلة في كل موضع من هذه المواضع تجد أنه حرر نسبة المذاهب إلى أصحابها وضبطها ورد على المخالفين أمثال الطوفي الذي يحاول د. شلبي الانتصار له.
بقوله: "
…
وهو رأي نجم الدين الطوفي الحنبلي وجماعة من العلماء لم يصرحوا به قولاً ولكن فتواهم تؤيد ذلك عملاً" (1).
وأنت ترى أنه لم يصرح بأسمائهم ولا بفتاويهم - مع أنه كثيراً ما مجد بحثه هذا واعتبره تجديداً في علم الأصول ودعى فيه إلى مراجعة ما كتبه الأصوليون بعد أن وصفهم بما يُكْره وستأتي الإِشارة إلى ذلك ..
فأين هذه الجماعة من العلماء الذين وافقوا الطوفي أهي جماعة الصحابة التي ينسب إلى فقهائها معارضة الرسول ومخالفته، والتي ينسب إلى فقهائها تبديل بعض الأحكام بسبب اتباع المصالح!!!
أم أن هذه الجماعة من الأصوليين. وقد زعم الطوفي بأن رأيه الذي قال به لم يسبقه إليه أحد قبله!!
أمّا بعد الطوفي فلم يلق هذا الرأي إلّا النقد والرد وبيان أن صاحبه خرق الإِجماع وتولى غير سبيل المؤمنين، حتى أن بعض الباحثين في هذا العصر فندوه وبينوا أنه رأي ساقط لا عبرة به، وقد أشرت إلى ذلك من قبل (2).
ثم جاء آخرون فأعجبهم هذا الشذوذ عن الإِجماع وظنوه علماً معتبراً فاتبعوه - وما علموا أن فائدة الإِجماع هو القطع في المسألة فلا تعد تحتاج إلى بحث وخاصة وقد تقرر هذا الإِجماع في قرون متطاولة - فلما تبعوه أخذوا بنتصرون له مزينين له بشبه متكاثرة، بل ذهبوا إلى أكثر مما ذهب إليه الطوفي، فإنه شهد على نفسه بنفسه أنه لم يُسْبق إلى هذا الرأي، ومعنى هذا أنك إذا بحثت لتجد من ينصره قبله فلن تجد أحداً.
ومع ذلك فقد حاول بعض الباحثين نصرته ببعض النقول والتطبيقات التي سبقت الطوفي -كما صنع صاحب رسالة تعليل الأحكام- فإنه قال بتبدل الأحكام في المعاملات وما شابهها لأنها بزعمه تتبع المصلحة، وأن ذلك هو إجماع
(1)293.
(2)
انظر هامش ص 413 وما بعدها.