الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد غلبت عليهم حتى في أصول الفقه فإذا أخذوا في العمل -والتطبيق- تخففوا من آثار مسلكهم في البحث ولذلك سأهتم اهتماماً شديدًا ببيان الفوارق في منهج النظر بين أصحاب المذهبين وستحظى "طريقة المتكلمين" بتحليل يبرز حقيقتها وحجمها العلمي مع بيان السبب الذي حملهم عليها، ولن أقف عند طريقة المتكلمين ومقابلتها بطريقة الحنفية، بل سأنقل البحث إلى ضم طريقة الشاطبي وطريقة ابن تيمية وأقارن بينهما لعل في ذلك تجديدًا لطريقة السلف الصالح، ومظنة ذلك في نقول هذين الإِمامين كما سيأتي بيانه.
وإن مما يساعد إلى الوصول إلى نتيجة صحيحة أن نعلم أن مسألتنا التي وقع عليها الاختلاف مسألة شرعية، لا هي عقلية تجريدية ولا هي لغوية صرفة، وجميع الدارسين -المفروض فيهم- أن يكونوا متعبدين باتباع المقاصد الشرعية والمقاصد العرِبية في فهم لغة العرب، لأنه ليس عندنا عقلاً محضًا نتبعه، ولا لفظًا مجرداً نحتكم إليه، وإنما العبرة بمجموع اللفظ والمعنى تسوقه المقاصد اللغوية وتحكمه المقاصد الشرعية.
المطلب الأول
الفرع الأول
طريقة الإِمام الشاطبي
يعتمد الإِمام الشاطبي رحمه الله في دراسته لموضوع "العموم" على منهج متميز يلتزم فيه بمقاصد العربية -وهي الجارية في كلام العرب في التعميم (1)، وبمقاصد الشرع مبتعدًا عما يصوره العقل في مناحي الكلام (2)، فلا هو يتبع البحث اللغوي التجريدي، ولا البحث العقلي التجريدي كذلك.
يقدم الشاطبي العموم الاستعمالي على عموم الصيغة، وإن كانت في أصل وضعها على خلاف المقاصد الاستعمالية، ذلك لأنه لا يعتبر ما تدل عليه
(1) الموافقات 3/ 173.
(2)
المصدر نفسه 3/ 182.
الصيغة في أصل وضعها عند الإِطلاق (1)، بل يعتمد المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها، وهو لا ينكر أن يكون للصيغة وضع أصلي، بل ذلك مسلم عنده، ولكنه يعتمد على قاعدة معلومة عند أهل العربية وهي:"أن الأصل الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي"(2).
فما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها عند الإِطلاق قياسي، وما تدل عليه بحسب المقاصد الاستعمالية التي يقصد إليها المتكلم في العادة استعمالي، والاستعمالي مقدم على القياسي، ولذلك اعتبرت العرب مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان يدل على ذلك:
إن العربي قد يستعمل لفظ عموم يشمل في أصل الوضع نفسه وغيره، ومقتضى الحال أنه لا يريد نفسه ولا أنه داخل في العموم وهذا هو الوضع الاستعمالي (3). قال ابن خروف (4):
لو أن رجلًا حلف ليضربن جميع من في الدار وهو معهم فيها فضربهم ولم يضرب نفسه لكان صادقًا.
(1) قسم دلالة الصيغ على العموم إلى قسمين:
الأول: باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإِطلاق، وهذه الصيغ تارة تطلقها العرب وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع، فإذا أرادت ذلك فلا إشكال.
والثاني: إطلاق تلك الصيغ بحسب المقاصد الاستعمالية التي يدل عليها معنى الكلام خاصة، وهذا هو الذي تقدمه العرب على الوضع الإفرادي.
والأول معتبر ما لم يعارضه الثاني، وكلابها إنما يعرف بما يدل عليه مقتضى الحال.
المصدر السابق 3/ 171.
(2)
المصدر السابق 3/ 171.
(3)
المصدر السابق 3/ 171.
(4)
هو علي بن محمد بن علي بن محمد الأندلسي النحوي أقام بحلب ومات سنة 609 هـ تقريبًا وفيات الأعيان 1/ 433.
ولو قال: اتهم الأمير كل من في المدينة فضربهم، لم يدخل الأمير في التهمة والضرب.
قال: فكذلك قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) فإن صفاته سبحانه لا تدخل تحت الإِخبار الوارد في هذه الآية، وكل ما وقع الإِخبار به من نحو هذا لا تدخل فيه صفاته تعالى، وهذا معلوم من وضع اللسان فإن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه (2). ومثله قوله تعالى:
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (3).
لم يقصد أنها تدمر السموات والأرضين والجبال .. وإنما المعنى أنها تدمر كل شيء مما مرت عليه ومما شأنها أنها تؤثر عليه في الجملة ولذلك قال:
{فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} (4).
يؤكد ذلك أنه لا يصح عند أهل العربية الاستثناء في مثل قول الرجل: "من دخل داري أكرمته إلا نفسي" أو "أكرمت الناس إلّا نفسي" أو"قاتلت الكفار إلا من لم ألق منهم" وإنما يصح الاستثناء لغير المتكلم من الداخلين أو المكرمين أو المقاتلين الذين يلاقيهم وهو الذي يتوهم دخوله إذا لم يستثن.
"هذا كلام العرب في التعميم فهو إذًا الجاري في عمومات الشرع"(5).
(1){ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 102].
(2)
الموافقات 3/ 172.
(3)
سورءة الأحقاف: آية 25.
(4)
سورة الأحقاف: آية 25 - والآية تدل على أن المساكن لم تدمر فالعموم إذًا عموم استعمالي.
(5)
الموافقات 3/ 172 - 173.
وعلى هذا فلا نحتاج إلى التخصيص هنا لا بالعقل (1)، ولا بالحس (2)، ولا بالمنفصل ولا بالمتصل، وذلك لأن المجموع -من لفظ العام وما لحقه من المنفصل عنه أو المتصل به من ألفاظ- هو الدال على مقصود المتكلم، ومقصده يعرف بالطريقة التي بينها الشاطبي من كلام العرب، وإذا كان المجموع هو الدال -وقد استقر التشريع بعد انقطاع الوحي- فتحصل عندنا العام وما اتصل به من الكلام وما انفصل عنه، فإن دلالته تعرف من المقاصد الاستعمالية وليس هناك إخراج لشيء، وإنما هو بيان لقصد المتكلم من عموم اللفظ لكي لا يتوهم السامع منه غير ما ذكر، فاللفظ المتصل بالعام لا يخصص من محصول الحكم شيئًا لا لفظًا ولا قصدًا، وكذلك المنفصل ليس تخصيصًا حقيقيًا، وإنما هو بيان لمقصود المتكلم من عموم الصيغة (3) وذلك يعرف من مقصد الشارع، ومقصد الشارع يعرف من مجموع نصوصه وهو وضع واحد لا متعدد، ولا تخصيص فيه لا في اللفظ ولا في الإِرادة، فالحاصل: أن ما يلحق بصيغ العموم سواء كان متصلًا أو منفصلًا إنما هو بيان لوضع الصيغ في أصل الاستعمال فهو تفسير أشبه البيان الذي يأتي عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه (4).
وفائدة هذا البحث عند الإِمام الشاطبي كما يلي:
1 -
أن عمومات القرآن والسنة -وهي عمدة الشريعة- حجة على
(1) كما صنع أكثر الأصوليين حيث خصصوا آية: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} بالعقل لأنهم أدخلوا ذات الباري في العموم ثم أخرجوها بالعقل، والعموم عند الشاطبي هنا عموم استعمالي حسب المقصد اللغوي والشرعي، فلا نحتاج على هذه الطريقة إلى إخراجها إذ أنها لم تدخل أصلًا. انظر من كتب الأصول الإِحكام للآمدي 2/ 282، سورة الأحقاف: آية 25.
(2)
كما صنع أكثر الأصوليين في آية {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} فقالوا الحس هنا أخرج السماوات والأرض والمياه. انظر الإِحكام للآمدي 2/ 282.
(3)
الموافقات 3/ 181 - 182.
(4)
المصدر السابق 3/ 182.