الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
الفرق بين "الفقه" و "الشريعة
"
عرفنا مما سبق أن الشريعة هي "نصوص الكتاب والسنّة"، وأن الفقه هو العلم بالأحكام العملية المجمع عليها والمختلف فيها التي استنبطها المجتهدون من الأدلة الشرعية التفصيلية، وبناء على هذا فإن "الشريعة" غير "الفقه".
وأناقش هنا أموراً، في ثلاثة مباحث:
الأول: جواز إطلاق لفظ "التشريع" على "الاجتهاد" ولفظ الشريعة على "الفقه":
ذلك أنه إذا جاز إطلاق لفظ "التشريع" على "الاجتهاد" فكان "المجتهد""مُشرعاً" فإنه يجوز أيضاً أن نطلق لفظ الشريعة على "الفقه" لأنه ثمرة الاجتهاد الذي هو عمل المجتهد. والصواب عدم جواز ذلك والدليل عليه أن الأصوليين قد اتفقوا على أن محل "الاجتهاد"(1) هو الأدلة الشرعية، وأن عمل المجتهد
(1) تعريف الاجتهاد في اللغة: جاء في لسان العرب الجَهْد والجُهْد الطاقة، قال ابن الأثير:"قد تكرر لفظ الجَهد والجُهد في الحديث وهو بالفتح المشقة. وقيل المبالغة والغاية، وبالضم الوسع والطاقة، وقيل هما لغتان في الوسع والطاقة، فأما في المشقة والغاية فالفتح لا غير"، ويقال لمن جد في عمله جَهَدَ يجهد جَهْداً واجْتَهَدَ، قال الأزهري:"الجَهْد بلوغك غاية الأمر الذي لا تألوا على الجهد فيه تقول جهدت جهدي واجتهدت رأي ونفسي حتى بلغت مجهودي" مادة جهد. =
هو الاستنباط والكشف، يُعرف ذلك من النظر في تعريفات الأصوليين، منها:
الاجتهاد "استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية"(1).
الاجتهاد "استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم"(2).
الاجتهاد "بذل المجهود في العلم بأحكام الشرع"(3).
الاجتهاد "بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة"(4).
الاجتهاد "بذل المجهود في استخراج الأحكام الشرعية، فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه"(5).
الاجتهاد "استنفاذ الطاقة في طلب حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم" ومصدر ذلك هو الشرع (6).
الاجتهاد "بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني"(7).
الاجتهاد "استفراغ المجهود في استنباط الحكم الشرعي الفرعي من دليله"(8).
والذي يظهر من هذه التعريفات مجتمعةً، أن الاجتهاد الشرعي لا يمكن
= والاجتهاد افتعال مأخوذ من الجهد والطاقة، ويقال التجاهد، وكلاهما بذل الوسع والمجهود، فالاجتهاد بذل الوسع في طلب أمر من الأمور، مادة جهد اللسان، والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير 1/ 137.
(1)
منهاج الأصول في علم الأصول للقاضي البيضاوي مع شرحي البدخشي والأسنوي 2/ 191 - مطبعة محمد علي صبيح بمصر.
(2)
حاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 420.
(3)
روضة الناظر لإبن قدامة 190، المطبعة السلفية 1385 هـ.
(4)
المستصفى مع فواتح الرحموت 2/ 350.
(5)
شرح المنار لإبن ملك 2/ 823.
(6)
الإِحكام في أصول الأحكام لإبن حزم 18/ 487 - 1480، تحقيق محمد أحمد عبدالعزيز - مكتبة عاطف 1398 هـ.
(7)
فواتح الرحموت بشرح مُسَلَّم الثبوت 2/ 362 مع المستصفى للغزالي.
(8)
مرقاة الأصول 2/ 464.
تصوره إلّا بوجود المجتهد، وبالرجوع إلى أدلة الشرع. فلا بد من بذل الجهد واستفراغه وهذا عمل المجتهد، ولا بد من وجود أدلة شرعية لرجوع المجتهد إليها، أمران ضروريان لا يتحقق الاجتهاد بدونهما، فالاجتهاد إذاً طريق للكشف عما تضمنته "الشريعة" من أحكام فالمجتهد سواء كان إماماً كأبي بكر رضي الله عنه أو مفتياً كأحد علماء الصحابة ليس له إلّا الكشف عن الحكم وتطبيقه، ولا يملك أي سلطة تشريعية، ومهمته حراسة أحكام الله تعالى من أن تُضيّع أو تُبدّل (1)، ولذلك فإن إقامة الكتاب شرط لطاعة الإِمام في اجتهاده، وكذلك في طاعة المجتهد في قضائه وفتواه، وهذا محل إجماع بين المسلمين (2).
وفي هذا دليل يؤيد ما ذكرته سابقاً من أن مهمة المجتهد سواء كان إماماً أو قاضياً أو مفتياً هي الاجتهاد في التعرف على حكم الله من مصدره الذي هو الشريعة ثم تطبيقه (3)، وليس لأحد منهم حق التشريع، وسواء أكان المجتهد فرداً أو جماعة كأهل الحل والعقد وهم المجمعون على أمر من الأمور الشرعية "فالحاكم هو من صدر منه الخطاب وهو الله تعالى، فهو الذي يشرع الحكم
(1) على طريق العودة إلى الإِسلام 57 - 62 - الدكتور محمد سعيد البوطي - مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى.
(2)
صحيح مسلم شرح النووي 12/ 222 ط 2، 1392 هـ دار الفكر - بيروت وإذا أطلق لفظ الكتاب في مثل هذا الموضع شمل السنة، وقد ورد هذا الشرط في السنة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اسمعوا وأطيعوا وإن اسْتُعْمِلَ عليكم عبد حبسي كأنّ رأسه زبيبه ما أقام فيكم كتاب الله" ومثله حديث أم الحصين رضي الله عنها: "
…
إنْ أمِّرَ عليكم عبد مُجدّع حسبتها قالت أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا" ومثله في رواية الترمذي. انظر الأحاديث في كتاب الأحكام باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/ 121 حديث رقم 7142، وعند مسلم في كتاب الإِمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، 12/ 222.
(3)
قد يكون التطبيق لغير المجتهد، كما يطبق المسلم الفتوى على نفسه وهو ليس بمجتهد - انظر الاعتصام 2/ 161.
وينشئه وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم هو تبليغ هذا الحكم إلى الناس، وعمل المجتهدين من بعده هو اقتباس هذا الحكم من الأدلة التي نصبها الشرع لمعرفته" (1).
فعمل المجتهد إذاً لا يتعدى هذه الصورة، فهو إما أن يستنبط الحكم أو يطبقه على الواقعة (2).
ولهذا نصب د. الأفغاني -في رسالته "الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر"- فصلاً عنوانه "الاجتهاد ليس تشريعاً" قرر فيه -بعد أن بيّن تعريف الاجتهاد وأورد كلام الأصوليين فيه- أن الاجتهاد هو الاستنباط من الأدلة فقال:
"يتضح مما قدمنا من تعريف الاجتهاد أنه ليس بتشريع للأحكام وإنشائها (3) وأن المجتهد ليس مشرعاً ومنشئاً لها، فإن الاجتهاد هو بذل الجهد من الفقيه في استخراج الحكم الشرعي من دليله الشرعي، والمجتهد هو: الذي يبذل جهده في استخراج الحكم الشرعي من الدليل الشرعي فوظيفته الكشف والإِبانة"(4).
والآن بعد هذه الدراسة يمكنني أن أذكر أهم الفروق بين التشريع والاجتهاد -وهي مبنية على قواعد متفق عليها كما بينته سابقاً.
1 -
إن المشرع -وهو الله سبحانه- منشئ للأحكام، وإن المجتهد مستنبط للحكم وكاشف عنه.
2 -
إن المشرع -وهو الله سبحانه وتعالى له الطاعة والاتباع لذاته،
(1) أصول الفقه د. حسين حامد حسان 134.
(2)
الاعتصام 2/ 161.
(3)
الأولى أن يقول: "وانشاء لها".
(4)
الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 152، د. سيد محمد الأفغانستاني، الناشر دار الكتب الحديثة مصر - الطبعة بدون.
وأن ما سواه في مقام العبودية سواء أكان رسولًا، أو من المجتهدين إماماً أو قاضياً أو مفتياً فرداً أو جماعة فالشارع متبوع والمجتهد تابع.
3 -
أن الشريعة معصومة ورسولها معصوم، والمجتهد ليس بمعصوم إلّا إذا أجمع المجتهدون على أمر من الأمور الشرعية (1).
4 -
أن المشرع لا يُسْأل عما يفعله، والمجتهد يسأل عما يفعل (2)، ذلك أن الله هو الحق وهو العليم الحكيم.
{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (3).
أما البشر فهم غير معصومن إلّا الرسل عليهم السلام.
5 -
أن المشرع له حق النسخ والتبديل -كما كان له حق التشريع- وقد انقطع هذا بانقطاع الوحي - وأما المجتهد فليس له شيء من ذلك لا تغير ولا تبديل ولا نسخ ولا تعطيل، بل عليه الانقياد والإِذعان لحكم الله سبحانه، وذلك فرض على البشر أجمعين.
وبهذا يتضح خطأ بعض الباحثين الذين يقسّمون التشريع إلى قسمين: تشريع ابتداء وهو حق الله، وتشريع ابتناء وهو حق المجتهدين (4).
والصواب أن عمل المجتهدين لا يسمى تشريعاً ابتناء بل هو اجتهاد مبني على التشريع الذي هو الوحي، وهذا مقتضى المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للاجتهاد.
(1) سيأتي بإذن الله تعالى الحديث عن عصمة الإجماع في فصل مستقل.
(2)
أي يسأل عن الحجة التي أوجبت له أن يقول بهذا الحكم مع الأدب في السؤال وطلب إزالة الأشكال إن وجد.
(3)
سورة الأنبياء: آية 23.
(4)
أصول الشرعية الإِسلامية مضمونها وخصائصها 26 - الدكتور علي جريشة الطبعة الأولى مع أنه يفضل أن لا تُطلق "الشريعة" على "الفقه" ص 9 وهذا قصد طيب ولكنه لا يتحقق على الوجه المطلوب إلّا على ما قدمته من بيان الفرق بين الاجتهاد والتشريع.
ولعل بعض من يذهب إلى هذا التقسيم قد تأثر بما ورد عند بعض المحققين من تجويز إطلاق لفظ "المشرع" على "المجتهد" وتقسيم الشرع إلى ثلاثة أقسام:
الأول: شرع منزل وهو الكتاب والسنة.
الثاني: شرع مؤول وهو اجتهادات العلماء المجتهدين.
الثالث: شرع مبدل "وهو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها، والظلم البين، فمن قال هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع كمن قال أن الدم والميتة حلال، ولو قال هذا مذهبي ونحو ذلك"(1).
وأبدأ بالتعرّف على وجهة نظر الشاطبي وذلك من كتابه الموافقات، عنون الإمام الشاطبي بقوله مسألة "المفتي قائم في الأمّةِ مقام النبي صلى الله عليه وسلم"(2). ثم بيّن أن هذا المقام هو مقام التعليم والإِنذار وتبليغ الأحكام والاجتهاد في استنباطها وتطبيقها على الحوادث.
واستدل على إثبات هذا المقام بأن العلماء هم ورثة الأنبياء كما ورد في الحديث (3)، فهم ورثته ونائبون عنه في التبليغ كما في الحديث "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب"(4) ثم بين خطورة منزلة المفتي حيث ذكر أن الأمة ترجع إلى علمائها ويجب عليها اتباعهم لأنهم يأمرونها بالمعروف، فالعالم الذي يأمر
(1) مجموع الفتاوى الكبرى - انظر 3/ 268 - 11/ 264 - 19/ 308.
(2)
الموافقات 4/ 162 - 163.
(3)
قطعة من حديث رواه الترمذي في العلم باب ماجاء في فضل الفقه على العبادة 5/ 48 - 49 - وأبو داود 3/ 317، وابن ماجه 1/ 81 كلهم رواه عن أبي الدرداء وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 5/ 302.
(4)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، كتاب العلم 1/ 191.
بالمعروف يجب اتباعه، والمفتي في هذه المنزلة، فلا بد أن يطابق فعلُه قولَه (1) وبنى على هذه المسألة مسألة أخرى بين فيها ما يجب على المفتي ليكون قدوة لغيره وأسوة طيبة (2).
فالمسألة الأولى في بيان منزلته، والتي بعدها في بيان ما يجب عليه وقد وضعه الشارع في هذه المنزلة.
وتقسيم الشاطبي في بيان منزلة المفتي وأنه وارث مُعَلِّمْ ونائب مُبلّغ لا كلام فيه، ثم قال:"المفتي شارع من وجه، لأن ما يبلغه من الشريعة إمّا منقول عن صاحبها، وإمّا مستنبط من المنقول، فالأول يكون فيه مبلغاً، والثاني يكون فيه قائماً مقامه في إنشاء الأحكام، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع"(3).
وإلى هنا - فإن النص في غاية الأحكام وهو حاصل ما تقرر سابقاً من أن إنشاء الأحكام إنّما هو للشارع، وأن عمل العالم الوارث لعِلْم النبي هو التعليم والإنذار والتبليغ واستنباط الأحكام وتطبيقها على الحوادث الجديدة، وعمله هذا هو الاجتهاد بالمعنى العام (4) الذي يجمع ذلك كله.
ثم إنّ الشاطبي عرض بعد هذا التقرير الحسن إلى النظر في جواز إطلاق لفظ "الشرع" على عمل المجتهد، فقال: بعد النص السابق مباشرة "فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع واجب اتباعه
…
" (5).
والظاهر من عبارة الشاطبي: أنه جزم بأن "إنشاء الأحكام إنما
(1) انظر المقدمة الثامنة من كتاب الموافقات 1/ 34.
(2)
انظر المسألة الثالثة 4/ 167 وقد صرح ببنائها على ما قبلها فقال: "تُبنى على ما قبلها وهي أن الفتوى لا تصح من مخالف لمقتضى العلم".
(3)
الموافقات 4/ 163.
(4)
أقصد بالمعنى العام أي الاجتهاد في تَعلّم العلم وتعليمه والدعوة إلى الله سبحانه والاجتهاد في استنباط الأحكام لمن قدر عليه.
(5)
الموافقات 4/ 163.
هو للشارع" على سبيل الحصر ثم قال: "فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام
…
" وهذا فيه شيء من الاحتمال لسببين:
الأول: أنه خلاف ما جزم به من قبل على سبيل الحصر.
الثاني: أنه علّقَهُ بقوله "فإذا كان
…
".
وبهذا يتبين أن الشاطبي يجزم على سبيل الحصر بالقضية الأولى دون الثانية وسبب ذلك أن القضية الأولى مقطوع بها عنده، وإنما ذكر ما بعدها ليبين خطورة منزلة المجتهد وأنه يجب اتباعه لأنه إمّا مبلغ عن الشرع وإما مستنبط منه، ولذلك ختم مسألته بقوله:"وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي (1) وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره (2) كالنبي ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ولذلك سموا أولي الأمر، وقُرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) والأدلة على هذا المعنى كثيرة"(4) وبَيّنٌ في هذا النص أن الإِمام الشاطبي لم يصف المجتهد بأنه منشئ للأحكام وشارع لها، بل وصفه بأنه مخبر ومطبق للأحكام على الحوادث، وتجب طاعته كما تجب طاعة أولى الأمر بشرطها (5).
وقد سبق جزمه بأن إنشاء الأحكام إنما هو لله، وتعليقه للمسألة بقوله:"فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام .. " وبهذا يتبين لي أن مقصود الشاطبي
(1) قصد الشاطبي مخبر عن النبي أي إما في حياته فعنه صلى الله عليه وسلم أو عن من سمعه وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام يكون الإِخبار عما بلغه من الكتاب والسنة.
(2)
أي بحسب اجتهاده والحكم الشرعي الذي توصل إليه.
(3)
وهذه الطاعة شرط القرآن لها وكذلك السنة أن تكون في المعروف لا في المعصية. انظر ص 90.
(4)
الموافقات 4/ 163.
(5)
وشرط طاعته على المكلف أن يطابق قولَه فعلُه، ولا تخالف فتواه النص والإِجماع فإن علم المكلف منه ذلك لم تجز له متابعته، بل الواجب عليه متابعة من اتصف بالصفات التي ينبغي أن يلتزم بها أهل العلم وهذا هو مقصد الشاطبي. انظر المقدمة الثانية عشرة، الموافقات 1/ 52 وما بعدها.
هو ما قرره في آخر النص وإنّما عرض للمجتهد بتلك الطريقة ليبين خطورة منزلته وأن عليه أن يحكم الوحي على نفسه اعتقاداً وعملاً على التمام والكمال، وبهذا يتبين أن تسميته "شارع من وجه" بهذا التقييد إنّما هي تسمية لفظية لا تناقض قوله من أنّ إنشاء الأحكام وشرعها إنّما هو لله سبحانه. هذا من وجهة قصد الإمام الشاطبي رحمه الله.
وأما من وجهة النظر المطلق في التسمية فإني لا أرى صحتها لا من الناحية اللغوية ولا من الناحية الاصطلاحية وذلك لما بينته سابقاً (1).
ولا يقال لا مشاحة في الاصطلاح إذا سلم المقصد، بل فيه مشاحة وخاصة في المصطلحات التي تختص بالأمور الاعتقادية ومنها مسألتنا هذه (2) بل إن المشاحة تنبغي فيما هو أهون من ذلك، فإن مخالفة المصطلح للمعنى اللغوي والمعنى الشرعي توجب رده وتصحيحه، أما بالنسبة للتقسيم المذكور في كلام ابن تيمية فهو ليس تقسيماً مستنداً على أصل علمي، بل صرح هو في موضع بأنه مما جرى به عرف الناس وفي الموضع الآخر ذكر أنه مما ورد في كلام الناس (3)، ولم يصرح بأنه مذهب أحد من أهل العلم.
والصحيح خلاف هذا التقسيم، فأما القسم الأول فإطلاق لفظ الشريعة عليه ظاهر، وأما القسم الثاني وهو آراء العلماء المجتهدين فالذي ينبغي أن يُطلق عليه هو اصطلاح "الفقه الإِسلامي"(4).
(1) انظر ما سبق 57 - 58.
(2)
انظر التمهيد لتجلية هذه العقيدة وهي أن التشريع وهو إنشاء الأحكام إنما هو لله سبحانه لا يشاركه فيه أحد من خلقه لا نبي مرسل ولا ملك مقرب.
(3)
مجموع الفتاوى الكبرى 3/ 268، 19/ 308، 11/ 264.
(4)
أما ما ورد في عرف الناس أو كلامهم من أن "الشرع المبدل" الذي هو الكفر كما صرح ابن تيمية فهل يسمى شريعة أم لا؟ والأقرب إلى الصواب تسميته كذلك لأن شرائع الشرك والكفر -أنشأت بغير إذن من الله- وابتدأها من لم يكن مؤمناً بالله ورسله فهي حينئذ شريعة باعتبار المعنى اللغوي، وفي شرائع الكفر يصور الإنشاء للأحكام، وأما في دائرة الإِسلام وهو ما نحن فيه فإما إنشاء للأحكام وهو حق الله وذلك هو الشريعة كتاباً وسنة، وإما استنباط منهما وذلك هو الفقه.
الثاني: مناقشة القول بأن الشريعة والفقه بينهما العموم والخصوص من وجه:
فقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "النسبة بين الفقه والتشريع العموم والخصوص من وجه، فيجتمع الفقه والتشريع في الأحكام التي أصاب المجتهد فيها حكم الله ويفترق الفقه عن التشريع في الأحكام التي أخطأ فيها المجتهد، وتفترق الشريعة عن الفقه في الأحكام التي تتعلق بالناحية الاعتقادية والأخلاقية وبقصص الأمم الماضية"(1).
ويُناقش هذا الكلام حسب ما قررته سابقاً، وحاصله أن الشريعة هي نصوص الكتاب والسنة. وإصابة المجتهد للحكم لا تجعله من نصوص الكتاب والسنة بل إن ما أصاب فيه المجتهدون وما أخطأوا إنما هو الفقه، والمؤلف صرح بذلك حيث قال بعد هذا الذي قرره:"أما الفقه فهو آراء المجتهدين من علماء الأمة"(2).
وهناك من الباحثين من ذهب إلى خلاف الرأي السابق وذكر أن في التسوية بين الفقه والشريعة في إطلاق لفظ أحدهما على الآخر، أو أن يكون بينهما العموم والخصوص من وجه تساهل: ثم قال: "ومرد ذلك هو أن المجتهدين لا يقصدون التشريع باجتهاداتهم وإنما يستهدفون الوصول إلى وجه الصواب في احكام المسائل التي تُعرض عليهم ويرومون محاولة الوقوف على مراد الشارع في كل مسألة اجتهادية لأنهم يؤسسون اجتهادهم على مبادئ الشريعة العامة (3) وقواعدها الأصولية"(4).
(1) تاريخ الفقه الإِسلامي - د. عمر سليمان الأشقر 19، مع أنه أشار إلى أن معنى "التشريع" الابتداء في الشيء، ونقله عن ابن كثير وهذه الإشارة لم أجدها -حسب علمي- في أكثر كتب تاريخ الفقه والشريعة والمداخل لدراسة الشريعة، ولكنه لم يؤسس عليها شيئاً في هذا الموضع، انظر كتابه خصائص الشريعة الإِسلامية.
(2)
تاريخ الفقه الإِسلامي 19.
(3)
ويؤسسونها على الأدلة الجزئية كذلك.
(4)
مفهوم الفقه الإِسلامي وتطوره وأصالته 18 - 19.
وعلى هذا الذي اخترته يجب الاقتصار على إطلاق لفظ الشريعة والتشريع الإِسلامي على كلام الله وكلام رسول صلى الله عليه وسلم، وأما ما يستنبطه المجتهدون منهما فهو من "الدين" ومعنى ذلك أنه ملزم للمجتهد ومن تابعه على ذلك (1)، أما من ناحية التسمية فيسمى "الفقه" ولا يشارك الكتاب والسنة في اسم "الشريعة" لأنها إنما وردت خاصة بكلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما أوحاه الله لرسوله عليه السلام هو "الشريعة" وما استنبطه المجتهدون منها هو "الفقه".
الثالث: وصف "الفقه" بأنه تشريع إلهي أو بأنه تشريع إسلامي، أو بأنه تشريع إسلامي وضعي:
وقد أشار بعض الباحثين إلى هذا فقال (2):
"ويطلق على التشريع المستمد من مصدره الإلهي التشريع السماوي بينما يوصف التشريع الذي يسنه الإِنسان بأنه تشريع وضعي وبناء على هذا المعنى فإن التشريع الإِسلامي ينقسم من حيث مصدره إلى قسمين: تشريع إلهي محض: ويشمل القواعد التشريعية المستمدة من النصوص الثابتة كالقرآن والسنة (3)
…
وتشريع إسلامي وضعي ويشمل الَاراء الفقهية الواردة عن الفقهاء المجتهدين
…
وحاصل ما جاء في هذا النص ما يأتي:
1 -
أن التشريع السماوي هو المستمد من المصدر الإِلهي.
2 -
أن التشريع الوضعي هو ما يسنه الإِنسان.
(1) سيأتي زيادة بيان عند الحديث عن منزلة الأحكام المختلف فيها إن شاء الله.
(2)
المدخل للتشريع الإِسلامي، نشأته وأدواره 11.
(3)
القاعدة الفقهية ما هي إلا ضابط لفروع فقهية كثيرة، يُسهِّلْ على الفقيه الرجوع إلى تلك الفروع، ولا تصلح للاستدلال ابتداء، اللهم إلّا ما ورد النمر بها كقاعدة "لا ضرر ولا ضرار" وما ماثلها، انظر القواعد الفقهية وأثرها في الفقه الإِسلامي للأستاذ علي أحمد غلام 168 وما بعدها.
3 -
أن القواعد التشريعية من التشريع الآلهي المحض، وأن اجتهادات المجتهدين من التشريع الإِسلامي الوضعي.
4 -
أن معنى إسلامي وضعي -كما ورد في النص السابق عند المؤلف- أي من التشريع الإِسلامي ومن وضع الإِنسان.
والجواب عن هذا القول كما يلي:
أولاً: أن "القواعد التشريعية" هي "من الفقه الإِسلامي" وهي مستمدة من القرآن والسنة فكيف تكون تشريعاً إلآهياً محضاً؛ وقد بينت سابقاً أن الشريعة هي "نصوص الكتاب والسنة" والفقه هو استنباط المجتهدين من الأدلة، والقواعد من الفقه، والكاتب يؤكد على أنه من التشريع المحض وهو خلاف الصواب وخطأ محض.
ثانياً: أما قوله بان الفقه الإِسلامي "إسلامي وضعي" أي من المصدر الآلهي "التشريع السماوي" ومن وضع الإِنسان أي "التشريع الوضعي" فمضطرب جداً، وما يذهب إليه هذا الكاتب مناقض صراحة لإِجماع المسلمين لأن الفقه الإِسلامي مصدره الكتاب والسنة فمنهما يُؤخذ وبهما يُصحح ولا شرعية له بغير ذلك بته، بل لم يكن فقهاً إسلامياً إلّا برجوعه إلى شريعة الإِسلام، فإذا لم يرجع الفقهاء إلى هذين المصدرين الكتاب والسنة فلا عبرة بما يقولونه ولا شرعية له، بل إن ما يذهب إليه البشر من "فهم" لا يستمدونه من هذين المصدرين يعتبر فهماً غير إسلامي، أي لا شرعية له في دين الله، ولهذا كانت القوانين الوضعية وما تزال خارجة عن الشرع الإِسلامي والسبب في ذلك أنها اتستمد من الوحي، فهي ملغية ابتداء (1). فما كان من وضع البشر أي من وضع "العقل" أو كما يسميه الكاتب "التشريع الذي يسنه الإِنسان" أي التشريع
(1) ولا يقال إن فيها أحكاماً يمكن أن يقرها الإِسلام؛ لأنا نقول أن إقرار الإِسلام لبعض شرائع الجاهلية الأولى -مع تعديلها وإدخالها في منهجه .. لتصبح منه وتأخذ شرعيتها من شرعيته- لا يقتضي أنه جاء ليقر الجاهلية ولا يلغيها، بل ألغاها ابتداء لأنها لا شرعية لها في دين الله، وكذلك الحال في القوانين الوضعية.
الوضعي لا يمكن أن يسمى "تشريعاً إسلامياً" ولا "فقهاً إسلامياً". وحينئذ يمكن أن نتصور هذا الاضطراب الشديد، والاختلال في الفهم عندما نقول عن "الفقه الإِسلامي" الذي هو مستنبط من الأدلة الشرعية بالإِجماع أنه "تشريع إسلامي وضعي"!!
والحق أن الفقه الإِسلامي فقه مستمد من الشريعة، وقيد الشرعية في نعريفه متفق عليه كما أسلفنا (1) ولا صلة له بالتشريع الوضعي، ولا يجوز لأحد أن يصفه بأنه "إسلامي وضعي"، فهذه عبارة خاطئة، ومناقضة لتعريف "الفقه الإِسلامي" وحقيقته، ولا بأس بالتذكير بأقوال بعض أهل العلم وإن كان ما ذكر سابقاً كافياً في الرد على مثل هذه الآراء، قال ابن تيمية: "وليس لأحد من المجتهدين غرض في أن يثبت للأفعال أحكاماً باعتقاده ولا أن يشرع ديناً لم يأذن به الله
…
وإنما مطلوبه أن يعتقد حكم الله ودينه" (2) فـ "الفقه اسم للعلم الحاصل للمجتهدين المستنبطين للأحكام من أدلتها التفصيلية" (3).
وأذكّر هنا أيضاً بما قلته سابقاً من أن تحديد المصطلحات أمر ضروري وكذلك ربطها بمعناها اللغوي والاصطلاحي دون مجاوزته، حتى تستقيم المصطلحات وتستقر المعاني الشرعية، ويسد الباب سداً محكماً في وجه التأثيرات الفكرية للمذاهب المخالفة للإِسلام (4).
(1) انظر ص 60 - 61.
(2)
الرسائل المنيرية - الرسالة الثامنة 1/ 161.
(3)
حاشية سعد الدين على شرح مختصر ابن الحاجب 25.
(4)
وعدم تقيد بعض الدارسين للإِسلام سواء عقائده أو أصوله الفقهية بالمصطلحات الشرعية أدى إلى وقوع الاختلاف والتنازع، ومن قال لا مشاحة في الاصطلاح يجب عليه أن يقيد ذلك بعدم مخالفة المصطلحات للأصل اللغوي والشرعي وإلّا ضاعت المعاني اللغوية والشرعية وسط اضطراب المصطلحات، فإذا جاء باحث يردها إلى معانيها اللغوية والشرعية، قيل له لا مشاحة في الاصطلاح، والحق أن المصطلح الذي يناقض المعنى اللغوي والشرعي فيه مشاحة بل يجب رده كما أشرت سابقاً وبيان الصواب، والله أعلم.
ولا بأس هنا من التنبيه على ما أشار إليه البعض من مقارنة خفية بين الفقه الإِسلامي والقوانين الوضعية، فقال عن "الفقه الاسلامي" وله صفة الشمول ولكن على نحو أقل مما للشريعة وأكثر مما للقوانين الوضعية" (1).
وهذا القول غير صواب لأن الفقه مظهر من مظاهر الشمول (2) لهذه الشريعة فكما لا يجوز عند هذا الباحث أن تقارن الشريعة الإِسلامية من حيث شمولها بالقانون الوضعي، فكذلك الفقه (3)، لأنه ثمرة من ثمارها فهي قاعدة له وأصل وهو ثمرة لها وفرع.
والحاصل أن إدراك خصائص الشريعة وخصائص الفقه الإِسلامي أمر ضروري جداً لكي نخلص من التأثيرات الفكرية للمذاهب المعاصرة، ولكي نبتعد ونحذر من الوقوع في الخلط بين خصائص الفقه الإِسلامي والقوانين الوضعية حتى مجرد شعورنا بتقارب طبيعتهما وأهدافهما.
وبعد هذه الدراسة يتبين لي الأمور التالية:
1 -
أن الشريعة هي الوحي كتاباً وسنة، والفقه أفهام المجتهدين.
2 -
أن الشريعة معصومة، لأنها هي الوحي، والوحي بقسميه الكتاب والسنة معصوم، أما الكتاب فلأنه كلام الله، وأما السنة (4) فلأنها وحي من عند الله معنىً، واللفظ من عند رسوله صلى الله عليه وسلم.
(1) المدخل لدراسة الشريعة 66.
(2)
سيأتي بيان هذه الحقيقة في الفصول القادمة إن شاء الله.
(3)
من المعلوم عند القانونيين أن القانون تنتهي حياته بإلغائه أو نسخه وذلك إبطال له، والفقه الإِسلامي ثمرة يانعة باقية ما بقيت هذه الشريعة، فكيف يقارن بالقوانين والحال هذه. انظر المدخل للعلوم القانونية 235. وسأذكر أهم الفروق بينهما في موضعه من البحث إن شاء الله.
(4)
السنة تشمل السنة القولية والفعلية والتقريرية، والعصمة ثابتة للسنة مع إمكان وقوع الاجتهاد من الرصول وتصحيح الوحي له. ومعنى هذا أن السنة بجميع أنواعها تشرك =
3 -
أن الفقه الإِسلامي علم يشمل مسائل الإِجماع والخلاف.
4 -
أن الفقه الإِسلامي غير معصوم من الخطأ في مسائل الخلاف وأما مسائل الإِجماع فهي معصومة وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
5 -
أن الفقه الإِسلامي مصدره الشريعة كتاباً وسنة، وقيد "الشرعية" متفق عليه بين الأصوليين، فهو يستمد شرعيته من الإِسلام، بخلاف القوانين الوضعية وغيرها من الأفهام البشرية.
* * *
= مع القرآن في وصف الإِكمال والعصمة، لأنه لا نسخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لقوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .. سورة المائدة: آية 3. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.