الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
كيفية تحقق الثبات والشمول في الأحكام التي لم يتحقق فيها إجماع
إن "الاجتهاد" الذي تحدثت عنه سابقًا، ثم تعرفنا على أهم طرقه ابتداء من العمل بالعموم، والقياس، ثم العمل بالمصالح المرسلة، وتبينا كيفية تحقق الثبات والشمول من خلال العمل بها، إن هذا الاجتهاد منه ما يؤدي إلى الاتفاق على معرفة الحكم الشرعي، ومن ثم الإِجماع عليه - وقد سبق بيان منزلته من الشريعة وكيفية تحقق الثبات والشمول فيه - ومنه ما لا يؤدي إلى الاتفاق، بل تتفاوت أنظار المجتهدين وذلك للأسباب التي أشرت إليها من قبل (1). وهذه الأحكام المتفق عليها وغير المتفق عليها تكوّن في مجموعها "الفقه الإِسلامي" ونتحدث هنا عن الجزء الثاني من هذه الأحكام ونتعرف على كيفية تحقق الثبات والشمول فيها، ومن خلال ذلك نتعرف على منزلة الفقه الإِسلامي تأصيلًا على ما سبق بيانه من الفرق بين "الشريعة" و"الفقه"، ويتضح لنا الموقف الوسط من بين مواقف التفريط والإِفراط التي وقع فيها بعض الدارسين "للفقه الإِسلامي"(2).
(1) انظر ما سبق ص 545.
(2)
من طبيعة الترتيب المنطقي للبحث أن يكون هذا "البحث" خلاصة لبيان منزلة الفقه الإِسلامي - وخاصة الأحكام التي لم يتفق عليها - وذلك لأن جميع البحوث السابقة منها ما هو بيان لمنزلة الشريعة - وذلك يساعد عل معرفة منزلة الفقه - ومنها ما هو بيان لحقيقة الاجتهاد وطرقه وذلك مبين لعمل المجتهدين - من خلال العمل بطرق الاجتهاد - بالصورة المعتدلة التي ظهرت لنا عند دراسة المسائل الأصولية، وكل ذلك =
ويدخل تحت هذا العنوان الأحكام التي تعددت فيها الأقوال نتيجة لتفاوت أنظار المجتهدين وتفاوت قدراتهم، سواء منها ما اختلف فيها على قولين (1) أو ثلاثة أو أكثر، وبلفظ آخر يدخل تحته ما سوى المجمع عليه.
= يعطينا فكرة واضحة عن آثار الاجتهاد الشرعي وإيجابيته .. لينتهي بنا المطاف إلى معرفة الإِجماع في الفقه الإِسلامي .. فلم يبق إلا المواضع المختلف فيها .. وهنا تكتمل الصورة وتتضح منزلة الفقه الإِسلامي. ومن هنا يكون هذا "المبحث" تأسيسًا على ما سبق وتتمة لما بقي.
(1)
ينصب الأصوليون مسألة تحت عنوان "إذا اختلف الصحابة على قولين المقتضى نفي الثالث هل يجوز إحداث ثالث" فمنهم من ذهب إلى المنع ويُنسب هذا إلى جمهور الأصوليين، انظر كشف الأسرار 3/ 234 - 235، 236، وتيسير التحرير 2/ 250، والإِحكام للآمدي 1/ 198 وشرح جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/ 197، ومختصر ابن الحاجب 2/ 40 - 41، وإرشاد الفحول 86، وحاصل ما عندهم أن عدم ذهاب الصحابة لقول ثالث يدل على عدم وجود الدليل له فلا يجوز إحداثه، ولا يُظن وجود دليله الشرعي وعدم علمهم به. ومنهم من أجازه مطلقًا واستدل بأنها مواضع مختلف فيها وقد أحدث التابعون قولًا ثالثًا في مسائل الاجتهاد، انظر إرشاد الفحول 86، والإِحكام للآمدي 1/ 198، ومختصر ابن الحاجب 2/ 40 - 41. وفضل آخرون فأجازوا إذا لم يؤد إحداث الثالث إلى رفع العمل بالقولين معًا، انظر الإِحكام للآمدي 199، وشرح جمع الجوامع 2/ 197، تيسير التحرير 2/ 250، ومختصر ابن الحاجب 2/ 41.
وقد كنت فصْلتُ البحث في هذه المسألة واخترت المنع، ثم تبين لي أن سبب ترجيحه غير قوي، لأنه مبني على عدم العلم بقول ثالث للصحابة، وعدم العلم به ليس دليلًا على عدم وجوده، وقوي عندي إمكان وجود الثالث لأن سكوت المخالفين للقولين واعتقادهم للثالث لا محظور فيه، ولأن المسألة اجتهادية فقد يكون عند المجتهد قول فيها لم يستكمل بعد النظر فيه، أو استكمله ولم ينشره، أو نشره ولم يعلم به المجتهدون الآخرون، أو علموه ولم ينقل.
فمن المعلوم أن مسائل الاجتهاد لم يُنقل فيها لنا جميع أقوال الأئمة، لا من الصحابة ولا من غيرهم، مجموع الفتاوى 20/ 250. هذا مع علمنا بتورع الصحابة ومن بعدهم من السلف عن التصريح بالفتيا، وإن بعضهم ليحيلها إلى غيره وعنده من العلم ما يكفي لها ولمثلها، فليس إذًا عدم العلم بالقول الثالث دليلًا على عدم وجود قائل به، =
وقبل أن ندرس ونبين منزلة هذا القسم نشير بإيجاز إلى الفرق بين الخلاف المذموم شرعًا وغير المذموم وكيف يقع غير المذموم مع وجوب الرد إلى الكتاب والسنّة.
فأقول: الخلاف المذموم هو ما حمل عليه الهوى والتعصب، ولم يلتزم فيه الناظر ضوابط منهج الاستدلال الشرعية، أو إلتزمها ولم يستفرغ وسعه في طلب الحق.
وغير المذموم هو ما كان بضد ذلك، والدليل على عدم ذمه وقوعه بين
= ومن ثم لا يلزم من الذهاب إلى قول ثالث له شد من الشريعة تخطئه جماعة الصحابة، لأنا لم نقطع بأن جماعتهم ليس عندهم إلّا هذين القولين، وهنا نفرق تفريقًا واضحًا بين ما نقل فيه إجماعهم - وقد قدمنا الكلام في الإِجماع - وبين المسائل الاجتهادية. وأؤكد ما قلته آنفًا إن الاختلاف على قولين ليس له حكم الإِجماع، لأنه يختلف عنه من حيث إمكان تجدد الاجتهاد فيه، وهذا أهم فارق بينهما، تجعل ما اختلف الصحابة فيه على قولين ألصق بمسائل الاجتهاد، وبيان ذلك من عدة أوجه:
الأول: إمكان تجدد الاجتهاد فيه من حيث الرجوع إلى قول واحد وترك القول الثاني.
الثاني: إمكان تجدد الاجتهاد فيه من حيث زيادة بعض الصحابة أنفسهم لقول ثالث، وذلك من خلال نظر شرعي مستأنف في أدلة المسألة.
الثالث: إن استئناف الاجتهاد من الصحابة أنفسهم والذهاب إلى قول ثالث لا يعتبر شذوذًا.
ومن هذه الأوجه يتأكد لنا دخول هذه المسألة في مسائل الاجتهاد لاختلافها عن طبيعة الإِجماع، وإن كانت تشبهه عند أصحاب القول الأول في عدم جواز إحداث قول اجتهادي ثالث، فلنلحقها بمسائل الاجتهاد المختلف فيها، لصدق هذا الوصف عليها، ولنحتفظ لها بمنزلة خاصة بين مسائل الاجتهاد المختلف فيها، تشبه منزلة قول الصحابي، عند أحمد والشافعي.
وهذا كله مبني على عدم التيقن من حصر الخلاف في قولين، ومبني أيضًا على عدم إمكان هذا الحصر لا في جيل الصحابة ولا في الأجيال التي تليه، ويترتب عليه عدم القول بتخطئة جماعة المجتهدين، مع فتح باب الاجتهاد كشفًا عن حكم آخر، أو تصحيحًا لقول سابق، واختيار الأقرب إلى نصوص الكتاب والسنّة، والله أعلم.
الصحابة - رضوان الله عليهم - (1) ولم يقتض ذلك ذمًا لهم وحاشاهم، ولم يكن كرههم للخلاف - ومنزلتهم في الدين معلومة وتوفر شروط الاجتهاد والصدق فيهم مقطوع به، لم يكن ذلك كله مانعًا من وقوع الخلاف في المسائل الاجتهادية. وأيضًا فالصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يردون إلى الكتاب والسنة كما أمرهم الله سبحانه في قوله وأمر المؤمنين {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
…
} والرد يرفع الخلاف ولكن بشرط أن تتفق أفهامهم للنص المردود إليه، أما إذا لم يتفقوا فلا يرتفع، على أنه بالنسبة للسنة المطهرة - وبعض الآيات - يختلف الرادون على إثبات النص نفسه، أما من حيث السنّة فالاختلاف في السند، وأما من حيث الآيات فالاختلاف في القراءة، وهذه يترتب عليها اختلاف في الفهم، فمن رأى صحة السند أوجب الرد إليه على ما فهمه ومن لم ير ذلك لم يوجب الرد، ولم تبلغ جميع الأحاديث الصحيحة الأئمة كلهم كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية (2).
فالصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يردون إلى الكتاب والسنّة، ومع ذلك وقع بينهم تفاوت في فهم بعض الأحكام، ولم يكن ذلك بمذموم في الشرع، ولا بمنتقص من منزلتهم، فهم القدوة لجميع الأجيال من بعدهم لأنهم السباقون في الفضل علمًا وعملًا واعتقادًا وصدقًا وجهادًا (3)، وبعد أن عرفنا الفرق ..
(1) انظر الأمثلة الدالة على وقوعه في رفع الملام عن الأئمة الأعلام، مجموع الفتاوى 20/ 233 - 238.
(2)
المصدر نفسه 20/ 238.
(3)
ولا يعني ذلك أن الخلاف واقع في الشريعة، فالشريعة لا خلاف فيها ولا تضاد كما وصفها الله سبحانه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .. بل هي محكمة معصومة. انظر الموافقات - المسألة الثالثة 4/ 74 .. ولا يعني أيضًا أن الحق يضيع بين الأمة وأن ذلك يوجب عدم التصحيح وبيان الصواب من الخطأ، كلا، أما الحق فإنه لا يضيع بين الأمة قطعًا وقد سبق بيان ذلك ص 118، وأما التصحيح فمتعين وهو مهمة الاجتهاد، وسيأتي بيان أن الاجتهاد كما يكون كشفًا واستباطًا للحكم يكون كذلك تصحيحًا لعمل المجتهدين فنعتقد عدم التأثيم لهذا النوع من الخلاف وعدم الذم لأهله مع اعتقادنا وجوب المراجعة والتصحيح وبيان الصواب.
نذكر بعض المقدمات المسلمة عند أهل العلم ثم نبني عليها دراستنا لكيفية تحقق الثبات والشمول في مسائل الاجتهاد المختلف فيها، سواء ما كان منها مبنيًا على نفسير بعض الدلالات أو مبنيًا على العمل بالأقيسة أو المصالح ..
وهذه المقدمات هي:
المقدمة الأولى:
إن الاجتهاد فرض لازم على من توفرت لهم ملكة الاجتهاد، وأنه لا ينقطع العمل به ولا يستقيم أمر هذه الأمة إلا به (1). وأن على المجتهد العمل بما أداه إليه اجتهاده لا يجوز له إلّا ذلك ..
المقدمة الثانية:
أن المجتهدين كلفوا بهذه المهمة وهم بشر يصيبون ويخطئون وأنه لا عصمة للواحد منهم، وعصمة الإِجماع إنما هي لجماعتهم (2) ..
وموقفنا العدل من علمهم أننا لا نعصمهم ولا نؤثمهم لأن كل واحد منهم استفرغ جهده في طلب الحق، فإذا أخطاه فهو مأجور، لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمرو بن العاص "أنه سمع رسول الله يقول: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (3).
وهذا يحفظ لنا أمرين:
الأول: الحفاظ على الشريعة أن ينسب إليها ما ليس بصواب.
الثاني: الحفاظ على حق المجتهدين على الأمة، ولهم عليها حقوق كثيرة، منها أن تشهد الأمة بما شهدت به هذه الشريعة لهم من استحقاق الثواب والأجر والمحمدة في حال الصواب والخطأ.
والحاصل أن "المجتهد" لا يُعصّم ولا يُؤثّم، وهذه قاعدة ذهبية، أثبتها
(1) انظر ما سبق ص 211.
(2)
انظر ما سبق ص 546.
(3)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13/ 318.
شيخ الإِسلام بتطبيقات كثيرة، دلت على وقوع الخطأ من المجتهدين، فلا بد إذن من التصحيح (1)، مع اعتقاد عدم ذمهم، وهذا الذي قاله رحمه الله: لا خلاف فيه بين الأمة، ولم يشذ عن ذلك إلا بعض أهل الأهواء (2).
المقدمة الثالثة:
إن الإِجماع لايمكن أن يتحقق في كل مسألة، فلابد من أن ينظر المجتهدون كل بحسب طاقته وموقعه الذي هو فيه، وأكثر المسائل ينظرها المجتهدون وهم فرادى ذلك أن جمع العلماء كافة للنظر في كل مسألة - مع مخالفته لطبيعة المجتمع الإِسلامي - كذلك فإنه مستحيل عادة ولم يكلف الشرع به هذه الأمة، وأقصى ما في الوسع جمع نفر منهم.
فتحصل من هذه المقدمات المسلمات، أن المجتهد مكلف بالاجتهاد، وأن الإِجماع الذي تثبت له العصمة لا يمكن تحققه في كل مسألة، وأن المجتهد وحده غير معصوم فعمله قد يكون صوابًا، وقد لا يكون كذلك، وهذا العمل الفردي هو المُكَوِّن للمسائل الاجتهادية التي تقابل مواضع الإِجماع ..
وإذا أمكن معرفة ثبات الحكم المجمع عليه، فليس لأنه عمل ناتج عن الاجتهاد بل لأنه عمل ناتج عن الإِجماع الذي اجتمعت عليه جماعة المجتهدين الذين أثبتت الشريعة لإِجماعهم العصمة، فهو إذن حكم مجمع عليه ثبتت العصمة له من الشريعة، فعلمنا أنه صواب وحق، ومن هنا قلنا أنه حكم شرعي ثابت ..
أما الاجتهاد الفردي فله شأن آخر ولنذكر الآن بعض صفاته ومنها:
(1) مجموع الفتاوى 20/ 231 - 232، وانظر كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" فتح الباري 13/ 317، ولا يلزم من رده تأثيمه إذا بذل وسعه فأخطأ، 13/ 318 - 319، وقد ترجم الإِمام البخاري في الموضعين بما يفيد الأمرين معًا.
(2)
مجموع الفتاوى 20/ 250، 251، 252.
صفات الاجتهاد الفردي:
1 -
الاجتهاد الفردي ضرورة لإِقامة الحياة الإِسلامية، وذلك للتعرف على حكم الله سبحانه وتعالى، ولا يسد مسده شيء آخر.
2 -
الاجتهاد الفردي فهم مجتهد - وهو من مكونات الفقه الإِسلامي والشريعة لم تشهد بعصمته من الخطأ، والثبات فرع العصمة.
3 -
إن المجتهد وإن لم يعتقد عصمة اجتهاده، إلّا أنه يلزمه العمل به ولا يجوز له إلّا ذلك، وهذا مقتضاه أن هذا الحكم عنده صواب وثابت في حقه وإلّا لما لزمه العمل به.
4 -
إن المجتهد إذا تبين له من العلم ما يوجب تغيير اجتهاده، وجب عليه تغييره، لأنه علم أن اجتهاده الأول غير صواب. والاجتهاد الذي انتقل به إلى الحكم الآخر له نفس المرتبة التي كانت للاجتهاد الأول، وهي المذكورة في الصفة الثالثة.
فتحصل من هذا أن فهم المجتهد - في مسائل الاجتهاد - ملزم له ويجب عليه العمل به مع القطع بنفي العصمة عنه، وهذا يقتضي أمرين:
الأمر الأول: أنه لا يعتبر من أحكام الشريعة المعصومة الثابتة الملزمة لجميع المجتهدين (1).
الأمر الثاني: أنه يعتبر من أحكام الفقه الإِسلامي وهو ملزم للمجتهد وثابت عنده لأنه صواب في اعتقاده، ويأخذ شرعيته وثباته من شرعية الاجتهاد وثباته إلّا أن يغير المجتهد اجتهاده.
والفرق بين ثبات الحكم المعصوم .. وبين ثبات الحكم الاجتهادي الفردي أن الأول ثابت ثباتًا مطلقًا من حيث الزمان والمكان، لا يقيده شيء، وثابت من حيث كونه لازمًا لجميع الأمة، لأنه شرع أبدي معصوم لا يتصور تغيره.
(1) سيأتي معنا أنه يمكن أن يأخذ صفة الإِلزام إذا اختاره الحاكم المسلم وحكم به.
وأما الثاني فهو ثابت ثباتًا مقيدًا بالنسبة للمجتهد يأخذ ثباته من ثبات المجتهد على اجتهاده، وهو لازم له ولجميع من تابعه عليه، وذلك لأنه فهم شرعي غير معصوم يمكن تغيره.
وهذا الثبات النسبي تقويه عوامل أخرى وتؤكده نذكر منها:
1 -
أن الاجتهاد الشرعي يدور حول تحقيق مقاصد الشريعة، وتختلف أنظار المجتهدين وتتفاوت، وكل واحد منهم يحوم حول تحقيق تلك المقاصد، ولشمولية تلك المقاصد وسعتها فإن أنظار المجتهدين كثيرًا ما تتفاوت فيذهب كل مجتهد إلى تحقيق جانب من تلك الجوانب (1) ..
ونقول هنا أن الثبات وإن لم يكن لعين الحكم كما قلنا في الحكم المعصوم، إلّا أنه مع ذلك يدور في دائرة الشرعية، من حيث شرعية الاجتهاد وتحقيق مقاصد الشريعة، ويثبت عند المجتهد ويلزمه العمل به ومن تابعه وهو شرع مُتعَبدٌ به عندهم إلّا أن يعدل عنه الجتهد إلى اجتهاد آخر كما قلنا من قبل.
2 -
أن الاجتهاد الشرعي قد يدور حول تفسير نص معين، وهذا التفسير وإن تعدد إلّا أنه محصور قطعًا، فاللفظ المشترك مثلًا وإن اختلفت أنظار المجتهدين في تفسيره إلّا أنه لا يخرج عن أوجه معدودة محصورة، فمتى اختار المجتهد وجهًا من هذه الأوجه لزمه وأصبح محددًا وثابتًا، ولزمه العمل به، وهذا يؤكد الثبات النسبي في الحكم الفردي الاجتهادي.
3 -
العامل الثالث الذي يؤكد الثبات وينقلنا إلى بيان الشمول في الحكم الاجتهادي الفردي وهو اختيار الحاكم المسلم لأحد الآراء الاجتهادية، وهذا الاختيار يترتب عليه لزوم الحكم المختار للأمة ومن فوائده ما يلي:
(أ) أن هذا الاختيار يخرج الحكم المختلف فيه من حيّز الاختلاف وما يترتب عليه من عدم الإِلزام للأمة جمعاء - حيث يكون الاجتهاد ملزمًا
(1) الموافقات 4/ 81.
للمجتهد فقط ومن تابعه عليه - يخرجه من ذلك كله ليكون ملزمًا للأمة لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف في المسألة (1).
(ب) أن هذا الاختيار يقوي جانب الثبات في هذا النوع من الاجتهاد فبعد أن كان ثباته نسبيًا، محدودًا بالجهة التي نتج عنها الاجتهاد - وهي المجتهد - وبمن يتابعه عليه - اتسعت دائرته ليصبح ملزمًا للأمة جمعاء، فيكون ثباته ليس محصورًا في دائرة الاجتهاد الفردي، بل يشمل الأمة ويثبت في حقها بمجرد حكم الحاكم به، ويبقى بينه وبين الاجتهاد الجماعي فرق مهم، وهو أن اختيار الحاكم لا يوجب العصمة لهذا الحكم بخلاف الاجتهاد الجماعي، فإنه موجب للعصمة كما قدمنا، غاية ما في الأمر أن اختيار الحاكم - وإن لم يثبت العصمة للحكم - إلّا أنه يوسع دائرة ثباته ولزومه، وهذا مهم من الناحية التطبيقية.
وبعد أن عرفنا معنى الثبات في الاجتهاد الفردي الذي لا عصمة له، والفرق بين حالة اختيار الحاكم وعدمها، انتقل إلى معرفة كيفية تحقق الشمول، وأبدأ من حيث انتهى الحديث عن الثبات فأقول:
ان إدراك شمولية هذا النوع من الأحكام تظهر بجلاء في الناحية التطبيقية فالاجتهاد الفردي عمل متجدد دائمًا لا ينقطع ولا ينبغي له، وإذا ضعف مجتهد لسبب من الأسباب قوي غيره والفرض كما سبق وأن بيناه، أن المجتهدين كثر في هذه الأمة، فاستمرار هذا النوع من الاجتهاد يثري الفقه الإِسلامي ثراء لا شبيه له، فهو عمل شرعي مبرراته مستمرة وأدواته متحققة وله من جهد المجتهدين السابقين في الأمة معينٌ لا ينضب، وله في هذه الشريعة المباركة مصدر عظيم لا ينفد عطاءه ثم تأتي مرحلة أخرى مع استمرارية هذا الجهد، وهي عمل طبيعي أيضًا ألا وهي عملية التصحيح، ذلك أن الاجتهادي الفردي - مع
(1) انظر الفروق 2/ 103 الفرق السابع والسبعون: للقرافي، دار العارف، بيروت، ومعنى أنه يرفع الخلاف أي في المسألة التي حكم فيها الحاكم بعينها، وحينئذ يكون ملزمًا للأمة، وبه تستقر قاعدة الحكم لفض الخصومات والمنازعات.
أهميته وضرورته - غير معصوم، فلابد من التصحيح لما عسى أن يقع من أخطاء اجتهادية، سواء صححها المجتهد الذي وقع منه هذا الخطأ، أو قام بذلك غيره من المجتهدين، ويستمر هذا وذاك في عمل واحد يمتزج بعضه ببعض يدخل في مسمى الاجتهاد، فالاجتهاد كشف عن الحكم وإظهاره، أو تأكيد لصوابه أو بيانٌ لخطئه، وهذا هو الذي كوّن الفقه الإِسلامي وحقق شموليته.
أثر الاجتهاد في الفقه الإِسلامي:
1 -
أن الاجتهاد هو القاعدة التي تقوم عليها شرعية الفقه الإِسلامي فهو ليس منعزلًا عن الشرعية (1)، كما أنه ليس منعزلًا عن صفة الإِلزام والجزاء، والذي يدرك منزلة الاجتهاد يدرك شرعية أحكام الفقه الإِسلامي وكونها ملزمة يقع عليها الجزاء الدنيوي والأخروي، ذلك أن المجتهد ومن تابعه لا يجوز لهم أن يدعوا العمل بما ظهر لهم صوابه، أضف إلى ذلك أن الاجتهاد بما أنه تكليف من الله فإن أول ما يترتب عليه الأجر عندما يقع بشروطه الشرعية، وقد وقع الأجر في حالتي الصوات والخطأ لقول النبي صلى الله عليه وسلم.
ويترتب عليه أن نتيجته ملزمة لمن رأى صوابه من مجتهد أداه لذلك اجتهاده أو متابع تابعه على ذلك، فالاجتهاد فرض لا يجوز التفريط فيه وكذلك نتيجته .. ويترتب عليه أيضًا أن هؤلاء الذين ثبت عندهم ذلك يلزمهم العمل به ويعاقبون على تركه إن تركوه، ويثابون على فعله إن فعلوه، وهذا لا يكون إلّا إذا علموا أنه حكم وجب عليهم التزامه تعبدًا لله، ومن هنا ندرك بجلاء شرعية الفقه الإِسلامي ولزومه للأمة، كل مجتهد بحسب اجتهاده وكل متابع بحسب ما تابع عليه، هذا إذا لم يختر الحاكم ذلك الحكم الاجتهادي فإن اختاره أصبح ملزمًا للأمة كلها، عليه يقع الجزاء الدنيوي والأخروي، فهو من حيث
(1) هنا نصل إلى النتيجة في موضعها المناسب ونذكر ما يترتب عليها خاصة بعد أن بينا الفرق بين الشريعة والفقه، وبينا الشرعية للفقه الإِسلامي، انظر ص 60 - 98 وبهذين الموضعين يرتبط موضع آخر عند مناقشة المسترقين ومن تابعهم في موقفهم من الشريعة والفقه. انظر كتاب موقف المستشرقين من ثبات الشريعة وشمولها.
وقوع الجزاء كالحكم المعصوم - ومن حيث ثباته يختلف عنه بقدر معلوم كما بيناه
سابقًا.
2 -
أن الاجتهاد هو القاعدة أيضًا لشمولية الفقه الإِسلامي سواء ما كان منه كشفًا عن الحكم ابتداء، أو ما كان منه تصحيحًا لمسيرة الاجتهاد ونتائجه - وهنا ندرك خطورة أمرين اثنين:
الأول: ما يزعمه البعض من قفل باب الاجتهاد، وهنا ينقطع على اعتقادهم كل من الكشف أو التصحيح، ويجمد الفقه الإِسلامي.
الثاني: ما يقع فيه متعصبة المقلدة حيث لا يرون مراجعة اجتهادات المجتهدين، إما برفع منزلتهم فوق ما أعطاهم الشارع، وإما بزعم فقدان الأمة القدرة على ذلك، وبهذا يقطعون عملية التصحيح ويجمد كل عمل اجتهادي على ما فيه من الأخطاء، ذلك أنا قطعنا بعدم عصمة المجتهد ومقتضى ذلك وقوع الخطأ منه، فإذا لم يستمر التصحيح استمر انتشار الخطأ، وجمد الفقه الاسلامي على الخطأ، وأثقله عن مواكبة مسيرة المجتمع المسلم المتجددة ولا يمكن أن نتصور الشمول تصورًا صحيحًا عند هذين الفريقين (1).
إن نظرية هؤلاء ترجع إلى اعتقاد سقيم يتمثل في الامتناع عن استمرارية الاجتهاد، ويقع في المقابل في اعتقاد أشد سقمًا منه ألا وهو اعتقاد عدم جواز مراجعة جهد المجتهد، وكلا الاعتقادين لا يقل خطورة عن اعتقاد بعض المحدثين نزع الشرعية عن الفقه الإِسلامي باعتبار أنه من وضع المجتهدين. وهذا تفريط وإفراط، أما الإِفراط فهو الغلو المنهي عنه - وقد وقع فيه المتعصبة من الفقهاء، وأما التفريط وهو إهدار قيمة الفقه الإِسلامي، وقد وقع فيه أولئك
(1) حتى لو قال المتعصبون من المقلدة أن التخريج والتفسير لكلام الفقهاء يمكن أن يحقق شمولية الفقه الإِسلامي، فماذا يقولون في جمود الفقه على الأخطاء التي تكثر فيه ولا بد! إلّا أن يقولوا بعصمة المجتهدين وهنا ينقطع الطريق بيننا وبينهم.
الباحثون الذين يجهلون طبيعة الاجتهاد ومن ثم جهلوا منزلة الفقه الإِسلامي (1).
ومسلك هؤلاء وهؤلاء مسلك خاطئ تظهر خطورته من حيث تفريغ الفقه الإِسلامي من أهم صفاته، وهي الشمول، وإيقاف أثره الشرعي وإيجابياته العملية، ليقبع إما على نفسه يحفظه المتعصبة من المقلدة دون أن يعطوه حقه، ويفيدوا المجتمع الإِسلامي من شموليته، ولا شمول إلّا باجتهاد - إما كشفًا أو تصحيحًا - وهؤلاء ينفرون منه أشد النفور، أو لينخلع عن شرعيته لكي يُدمج مع القوانين الوضعية كما يفعل بعض الباحثين المحدثين الذين زعموا أنه من وضع الفقهاء، ويطوّرونه بزعمهم كما يشاؤون لا يقيدهم الاجتهاد الشرعي الذي ألزمت الشريعةُ به الأئمة الفقهاء (2).
وسيبقى الفقه الإِسلامي - الذي يكوّن أكثَر أحكامه الاجتهادُ الفردي يحظى بما حظي به هذا الاجتهاد من الشرعية والثبات والشمول على ما قدمنا بيانه، وسيقبع أصحاب التفريط والإِفراط في جهالتهم لا يضر الفقه الإِسلامي منها شيئًا، وقد ظهرت مرحلة الاجتهاد كشفًا وتصحيحًا في هذا العصر وينبغي أن تستكمل مسيرتها ملتزمة بتلك القاعدة الذهبية "وجوب الاجتهاد ولا نعصم ولا نؤثم" وفي ذلك منار هداية لمن أراد الصواب والاستقامة.
ففي وجوب الاجتهاد رد على أهل الإِفراط الذين غلوا في الأئمة وغلوا في نقدير منزلة الاجتهاد، وضعفوا منزلة العلماء المتأخرين حتى صوروا الاجتهاد من المستحيلات، وترتب على ذلك منع الكشف عن الأحكام الشرعية للوقائع المتجددة، ومنع التصحيح لأعمال المجتهدين.
وفي وجوب الاجتهاد رد على أهل التفريط الذين فرطوا في منزلة الفقه الإِسلامي، فإن الاجتهاد الشرعي موجب لإِثبات الشرعية للفقه ليكون فقهًا
(1) انظر ما سبق ص 96.
(2)
انظر كتاب موقف المستشرقين من ثبات الشريعة وشمولها.
إسلاميًا له منزلته المعلومة، ويشترك في نتيجته من حيث الجزاء مع "الشريعة الإِسلامية" نفسها فالنظر في الشريعة مثل النظر في "الفقه" له شروطه وضوابطه الشرعية، ونتيجته تشترك في كثير من الأحكام كما بينا سابقًا.
وكذلك الحال في رفع العصمة ومنع التأثيم، فلا نشهد بالعصمة ولا نقارب فنغلوا في بيان منزلة الأئمة - ومن ثم نغلوا في بيان منزلة الاجتهاد - فنقع فيما وقع فيه أهل الإِفراط.
ولا نؤثمهم أو نسقط "الشرعية"(1) عن اجتهاداتهم وفي ذلك إهدار لقيمة الفقه الإِسلامي وتشكيك في جهد المجتهدين، ووقوع فيما وقع فيه أهل التفريط.
فلا بد إذن من الحذر مما وقع فيه الفريقان، والاقتداء بالسلف الأول في إدراك حقيقة الاجتهاد كشفًا وتصحيحًا وفي تحديد الموقف من الفقه الإِسلامي وأعلامه، تمامًا كما وجبت متابعتهم والاقتداء بهم في موقفهم من بيان منزلة الشريعة وكيفية الاستنباط منها.
وإذا أحسنا الاقتداء والمتابعة في توازن واعتدال استطعنا أن نقف الموقف العدل من أنفسنا ومما ورثناه في العصور المتأخرة - بعد القرون المفضلة - ومن ثم نستطيع أن نَثْبُتَ على الاستقامة في فهم هذا الدين عقيدة وشريعة ونسلم بعون الله من إسراف المتعصبة وجمودهم، ومن جهل الذين نزعوا عن الفقه صفة
(1) إسقاط الشرعية نوع من التأثيم لأن مقتضاه أن الفقهاء كانوا مخالفين عن الشرعية فيما قالوه فهم آثمون.
والحق في خلاف ذلك كما بينا وسيأتي رد مفصل على آثار الغزو الفكري في انتشار هذه الشبهة في كتابات المستشرقين ومن تابعهم وهي شديدة الصلة بموضع الثبات والشمول في الشريعة الإِسلامية، حيث اتخذ هؤلاء شبهة التغيير سبيلًا إلى دمج القوانين الوضعية البشرية بالشريعة الإِسلامية، عن طريق بعض الأفكار التي تصف الفقه الإِسلامي بأنه وضع بشري، وسنعالج شبه المستشرقين ومن تابعهم ونرد عليها مبينين أهم الفوارق بين طبيعة القوانين الوضعية و"الفقه الإِسلامي". انظر كتاب موقف المستثرقين من ثبات الشريعة وشمولها.
الشرعية ووصفوه بأنه فقه وضعي، وتستمر عملية الاجتهاد كشفًا وتصحيحًا بقدر المستطاع، لِتدخلَ جميعُ الوقائع الجديدة تحت حكم الشريعة، ولتتم عملية التصحيح للأخطاء، وبهذا نستطيع أن نحول بين المسلمين وبين الشبه التي قام بتوزيعها في داخل العالم الإِسلامي "الفرق الضالة" و"المذاهب الفكرية المعاصرة"، والتقت كثير من أهدافهم على فتنة "التبديل والتغيير"، ومخالفة مقاصد الشريعة، وترك اتباع المنهج الرباني الذي أرسل به النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يخرج العالم الإِسلامي من فتنتهم، ولا يسلم الفكر الإِسلامي منها إلّا إذا صبرنا على تصحيح الاعتقاد، وحافظنا على مقاصد الشريعة، وكانت طريقة تفكيرنا وحكمنا على الأشياء والأحداث هي الطريقة التي تعلمها السلف الصالح من الجيل القدوة جيل الصحابة - رضوان الله عليهم -، الذي جعله الله سبحانه خير أجيال هذه الأمة، وحينئذ يتحقق لنا فهم "الإِسلام" وتطبيقه تطبيقًا صحيحًا، وذلك هو طريق النجاة في الدنيا والآخرة.