الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
الاستقراء يثبت أن هذه البينات والجوامع لا بد من العلم والعمل بها معًا
ويشهد لذلك الاستقراء الذي يوضح أن المسائل الشرعية التي دلت عليها تلك البينات والجوامع هي علمية قبل أن تكون عملية، فالذي أثبت العمل هو نفسه الذي أثبت العلم، وقد أشار الإِمام ابن القيم إلى هذا المعنى (1)، ونحن هنا نفصله ونوضحه ونورد من الأحكام العملية التطبيقية ما يدل على ذلك، ونختارها من أبواب شتى لتكون أكثر دلالة على المقصود، من ذلك:
1 -
التحاكم إلى شريعة الله: فإنها وإن كانت في ظاهرها عملية إلا أنها علمية كذلك، فهي عقيدة وعلم قبل أن تكون تطبيقيًا عمليًا، فلا بد أن يصدق المرء أن الحاكم هو الله سبحانه وأن شريعته هي الحق والصدق، وأن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام قد بلغها كما أراد الله سبحانه، وأن التحاكم إليها والرضى بها عقيدة لا ينجو الإِنسان من عذاب الله إلا بها.
2 -
إقامة فريضة الجهاد: فهي فريضة عملية، يسبقها اعتقاد وعلم بأن الله فرضها على المسلمين، وجعلها من معالم الدين، وأنهم إذا أقاموها أطاعوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واستحقوا الثواب في الآخرة دار الجزاء، وإن لم يقيموها عند
(1) انظر مختصر الصواعق المرسلة 489، لإبن القيم اختصره محمد الموصلي، ط 1، 1405 هـ دار الباز للنشر. وفيه يقول رحمه الله عن الأمة في الصدر الأول:"فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث (يعني أخبار الأحاد .. ) في الخبريات العلميات كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه دينًا. فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته"489.
تحقق الاستطاعة أو يعزموا على إقامتها عند القدرة استحقوا العقاب في الدنيا والآخرة.
3 -
تحريم الزنا ووجوب إقامة الحد: فإنه قبل أن يكون أمرًا عمليًا فإنه أمر علمي اعتقادي، وإلا فكيف يقيمه من لم يصدق ويؤمن بأنه الله حرمه وأنزل آيات بينات، وأنه الحق وما سواه باطل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلّغه كما أمر الله، فهو حكم علمي عقدي قبل أن يكون حكمًا عمليًا.
4 -
تحريم الخمر ووجوب العقوبة على شاربها: وهو أيضًا حكم علمي قبل أن يكون عمليًا، وإلّا فكيف يمتنع الإِنسان عن شربها تعبدًا لله ما لم يعتقد أن الله حرمها وجعل لمن يتركها تعبدًا الأجر والثواب.
وكيف يقيم الإِمام العقوبة على شاربها ما لم يؤمن ويصدق أن الله حرمها وأمر بإقامة الحد على من شربها .. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صدق في تبليغ أمر ربه.
5 -
تحريم القتل ووجوب القصاص على من قتل محمدًا عدوانًا: فهذا حكم عملي علمي، إذْ لا بد من الاعتقاد بأنه حكم الله سبحانه، أنزله بعلمه رحمة منه وعدلًا.
6 -
تحريم الغيبة: كيف يمتنع المسلم عنها تعبدًا لله مالم يعلم أن الله حرمها وكرّهها لعباده، وجعل على فاعلها العقوبة حيث توعده على ذلك.
7 -
وجوب غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه والدعاء له: كيف يتحقق ذلك من المسلمين ما لم يعلموا أن هذه الأحكام قد أوجبها الله عليهم ووعدهم بالأجر والمثوبة.
8 -
وجوب الصلاة إلى القبلة في الفرض لمن قدر عليه: كيف يلتزم المسلم بذلك ما لم يعتقد أنها عمود الدين، وأنها الصلة بينه وبين ربه الذي فرضها عليه وأمر رسوله بتبليغها له وتعليمها إياه، وأن الرسول أدى الأمانة كما أراد الله.
9 -
تولي المؤمنين بعضهم بعضًا: وهو أمر عملي يتمثل في تطبيقات كثيرة، ولا يتحقق إلّا أن يعلم المسلمون ويعتقدوا أن الله صبحانه جعل ذلك من الدين الذي يقبله ويرضى عنه ويثيب عليه، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام صدق في تبليغه وتطبيقه، وأن الولاء إنما هو لأهل الإِسلام وليس بين المؤمن والكافرين ولاء ولا محبة.
10 -
إقامة حقوق المرأة من تعليمها دينها وحسن معاشرتها والنفقة عليها على قدر الطاقة، وقوامة الرجل عليها بالمعروف وحقها في الإِرث
…
كيف يقيم الرجل ذلك ما لم يعتقد أن الله هو الذي حكم بذلك من فوق سبع سماوات، تنزّل بذلك القرآن وبلغه الرسول وبينه للناس.
وقل مثل ذلك في جميع الحقوق التي أوجبها الله على المؤمنين بعضهم لبعض مثل حقوق الجار .. وحقوق الطريق .. وحقوق الرجل على المرأة، وحقوق الإِمام على الرعية، وحقوق الرعية على الإِمام وحقوق الأموات على الأحياء.
وقل مثل ذلك في جميع الأحكام سواء التي تخص الاقتصاد أو الجنايات أو السير والجهاد أو السياسية والحكم .. فالشريعة دالة من أولها إلى آخرها على أن الله أوجب العلم والعمل في التكاليف التي جاءت بها.
والاستقراء يفيد اليقين في هذا الباب (1) والطريق لمعرفة العلم والعمل في هذا كله هو اتباع الأدلة النقلية وهي دلالات بينات تفيد الأمرين معًا،
(1) ويؤكد هذا الاستقراء أنك لا تجد في الإِسلام فصلًا بين العلم والعمل لا في نصوص الشريعة ولا في واقع الجيل الأول في خيى القرون فإنه تعلَّم العلم والعمل جميعًا .. فلما نشأت الفرق التي تأثرت بآراء الفلاسفة وساعد على ذلك الاستغراق في الجدل - الذي ما ضل قوم بعد هدى إلّا وقعوا فيه كل ذلك أدى إلى الاشتغال بالفلسفة العقلية التجريدية فقسمت أدلة الشريعة الواحدة إلى ما يوجب العلم والعمل - هذا إذا عملوا بموجبه -! وإلى ما يوجب العمل دون العلم، ثم فصل الأرجاء بين الإِيمان والعمل فوهنت قبضة المسلمين على التمسك بالعمل بهذه الشريعة رويدًا رويدًا حتى صار الأمر في زماننا هذا إلى استبدال القوانين الوضعية بها.