الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
أسباب التغير وتصوير مذهب المخالفين
التغيير عندهم سببه تغيّر المصالح والأعراف (1) والعوائد (2)
وقبل أن أتحدث عن صلاحية هذه الأسباب لتغيّر الأحكام يحسن بي أن أصور مذهب المخالفين ..
(1) جاء في اللسان: " .. العرف والعارفة والمعروف واحد ضد النكر، وهو كل ما تعرفه النفس من الخير. (اللسان مادة "عرف" 9/ 239).
وكل ذلك يوحي بأن معنى العرف هو كل ما تعرفه النفوس من الخير وتتابع عليه ومنه قوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ .. } .
وقريب من المعنى اللغوي ما قصده الفقهاء - في الجملة - حيث تدور تعريفاتهم لمعنى "العرف" حول ما اطمانت إليه النفوس وألفته عن طريق الاستعمال الشائع المتكرر قولًا أو فعلاً. ومن أمثلة ذلك: اشتراط المسلمين بعض الشروط في البيع، واستصناعهم الثياب - وتعاملهم بذلك، ووقف بعض المنقولات وقبض بعضهم نصف الصداق قبل العقد، واعتياد بعضهم كشف رؤوسهم كأهل المغرب، ونحو ذلك. انظر في ذلك العرف والعادة في رأي الفقهاء، عرض نظرية في التشريع الإِسلامي بقلم أستاذي في قسم الدراسات الشرعية أحمد فهمي أبو سنة - مخطوط بدار الكتب المصرية، 2864/ 1949.
(2)
والعادة: الديدن، فكل ما استمر عليه الإنسان ودأب يسمى عادة، وجمعها عادات وعوائد. اللسان مادة "عود" 3/ 316 - 317. والعادة في عرف الفقهاء يشترط فيها التكرار في الحدوث، قولًا أو فعلًا، صدر من الفرد أو الجماعة سببه مكتسب أو غير مكتسب، مثل حرارة الإقليم وبرودته، فإن لهما أثراً في العادة على إسراع البلوغ وإبطاؤه، وطبيعة الأرض فإنه يترتب عليها عادة اشتغال الناس بالتجارة بنوع من الأموال، وقد ذكر د. أحمد فهمي تعاريف كثيرة اختار منها أشملها لمقصود الفقهاء فإن الفقهاء قصدوا من بحث العرف والعادة جعلهما قاعدة تُبنى عليها الأحكام العملية. انظر 10 - 11 - 12. ولذلك اشترط في تعريفها حدوث التكرار في القول أو الفعل من الفرد أو الجماعة بسبب مُكتَسب أو غير مُكتَسب وقد يسمى غير ذلك عادة أو عرفاً والمقصود هنا النظر فيما يكون قاعدة للحكم الفقهي.
تصوير مذهب المخالفين:
يرى بعض الباحثين المحدثين أن الصحابة عللوا الأحكام سواء بالعلل المستنبطة أو المنصوص عليها، وعملوا بالمصلحة والحكمة - وهي ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر، ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة وكان من نتيجة تعليلهم هذا أن غيّروا بعض الأحكام تبعاً لتغيّر المعنى الذي لأجله شُرع الحكم وفي هذا رد على من منع تبدل الأحكام بتبدل المصالح، ووقف عند المنصوص، وإن أصبح لا يحصل المقصود منه أو لحق الناس من أجله الحرج والمشقة.
والسر في ذلك - والله أعلم - أن أصحاب رسول الله نظروا إلى الشريعة في مجموعها، ملاحظين مبادئها العامة، وقواعدها الشاملة كلها في آن واحد، فلم يجمدوا، وأما هؤلاء المانعون (1) فنظروا إلى النصوص الجزئية مفككة كأن كل واحد منها جاء بشرع أبدي لا يتغير، ولكن الأمر الذي لا يغفل عنه هنا، هو أن المتتبع لمسالكهم في هذا التغير يجدهم لم يندفعوا فيه بمجرد ما يلوح أنه مصلحة، بل كانوا يجعلون الأصل هو مادل عليه النص، وأنه الذي يجب التمسك به، كما يؤخذ ذلك من عباراتهم:"كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله"، أو "كيف نفعل ذلك مع أن النص يفيد كذا" الخ .. ولا يعدلون عن هذا الأصل إلّا إذا دعت حاجة ملحة، ولا يسلمون التغير إلّا بعد تقليب الأمر على وجوهه، والموازنة بين مصالحه ومفاسده حتى إذا ما بان لهم الراجح عملوا به والله أعلم" (2).
والأحكام - فيما سوى العبادات - تتغير بتغير المصالح والأزمان (3)، ويقول في موضع آخر: "وشيء جديد لم يظهر في تعليل القرآن وهو أن من
(1) يقصد والله أعلم من يخالفه فيما قرره سواء نفاة التعليل أو القائلين به الذين يشترطون شروطاً معينة للعمل بالمصلحة فإن كان هذا مراده، فإن كلامه هذا لا يستقيم إذ أن الذين يعملون بالمصلحة ويلتزمون بضوابطها الشرعية لا ينظرون إلى النصوص مفككة، بل ينظرون لها جملة ويتعرفون على عللها ومقاصدها.
(2)
تعليل الأحكام 71.
(3)
المرجع نفسه 56 - 64.
الأحكام ما يدور مع المصلحة ويتبدل بتبدلها، والسبب في ذلك - على ما يظهرِ والله أعلم - أن هذا النوع من الأحكام مفوض لرأي الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره إماماً للمسلمين
…
" (1).
ثم يتحدث عن هذا التبدّل فيقول أنه تبدل في التطبيق فقط، فالرسول صلى الله عليه وسلم فُوض إليه الحكم في كثير من الأشياء "وخاصة ما يتعلق بالهيئة الاجتماعية كالمعاملات والعادات وما شابههما حسبما يراه ملائماً للمصلحة، وهو مع ذلك لم يخرج عن كونه شرعاً أصله محكم لا يتبدّل، والذي يتبدل فيه إنما
هو التطبيق فقط
…
" (2).
وقال في موضع آخر تحت عنوان تبذل الأحكام بتبدل المصالح: نتيجة البحث: "عُلم مما سبق موقف المصلحة من النص، وأنها إذا تعارضت معه في أبواب المعاملات والعادات التي تتغير مصالحها أُخذ بها، وليس هذا إهداراً للنص بمجرد الرأي بل هو عمل بالنصوص الكثيرة الدالة على اعتبارها، وأما إذا كانت المصلحة المستفادة من النص لا تتغير فلا يترك النص أصلاً، وأنه لا يتصور تعارض بينهما فضلًا عن أن يترك النص بها
…
" (3).
ثم استدل على إثبات مراده هنا بأن هذا هو مذهب الصحابة وذكر لذلك تطبيقات من فروعهم أراد بها إثبات هذه النسبة، واستدل بوقائع كثيرة وقرر مستنبطاً منها ما يلي:
1 -
"ولقد وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره بما يترتب عليه من ضرر يلحق المسلمين بسببه فيقرهم على ذلك صلى الله عليه وسلم"(4).
2 -
"أن من الأحكام ما يدور مع المصالح ويتبدل بتبدلها، ومن أنكر
(1) المرجع نفسه 34.
(2)
المرجع نفسه 34.
(3)
المرجع نفسه 322.
(4)
المرجع السابق 32.
ذلك فقد خالف إجماع الصحابة" ويقصد إجماعهم على تغير الأحكام تبعاً لتغير المصالح (1).
3 -
قال عن عمر رضي الله عنه: "فقد منعهم -أي أهل الذمة من العمل -أي في الذبح للمسلمين - مع نص الكتاب على حل ذبائحهم"(2). ويقصد أن عمراً أوقف العمل بنص الآية.
ومع أنه يصف الصحابة بمعارضة الرسول صلى الله عليه وسلم
…
إلّا أنه يفسر مقصوده فيقول: "والذي نقصده هو إثبات أنهم -أي الصحابة- فعلوا شيئاً لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعاً لاقتضاء المصلحة، ولا يليق بهم أن يخالفوا فعل رسول الله إلّا إذا علموا أن هذا مقصد الشريعة، ففعلهم هذا عين الموافقة، ولكنا سميناه مخالفة في موطن محاجة الخصم الذي لو سلّم معنا هذا المبدأ "مبدأ التعليل وإن بعض الأحكام يتبع المصلحة لما أطلقنا لفظ المخالفة على شيء من فعلهم" (3).
5 -
" .. أن من تتبع أحوال الصحابة الذين هم القدوة في كل شيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير لواحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل واستثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن"(4).
وقد جاء كلامه هذا في معرض الرد على من اشترط إرجاع المصلحة إلى أصل معين ليشهد لها مبيناً أن هذا أمر مخترع لم ينقل عن أحد من الصحابة (5).
6 -
"
…
ولكن الواقع الذي لا ينكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عملوا بالمصلحة في أبواب المعاملات وما يتعلق بالنظام الاجتماعي، وإن كانت
(1) المرجع السابق 37 - 38.
(2)
المرجع السابق 43.
(3)
المرجع السابق 61.
(4)
المرجع السابق 293.
(5)
المرجع السابق 293.
في مقابلة النصوص، واشتهر ذلك عنهم في وقائع كثيرة وهم في ذلك لم يكونوا جناة على الشريعة كيف وهم الذين أقامهم الله حراساً عليها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعهم في ذلك التابعون وتابعوهم ثم الأئمة من ورائهم".
"فإن قيل إن ما وقع من ذلك لم يصح النص فيه عند الصحابي ولا الإِمام أو صح ولكنه رآه غير حتم، أو كان حتماً ولكن المخالفة راجعة إلى وصف منفك، قلنا مجرد احتمالات ممكنة، وليس كل ما ورد من هذا النوع يمكن تخريجه على هذه الوجوه وتلك الدعوى لا تسلم إلّا إذا صحبها استقراء وحصر لذلك، وهو لم يوجد بعد"(1).
ويفهم المؤلف بعد ذلك كله أن المصلحة دليل كباقي الأدلة، فهو لا يتصور وجود مصلحة ملغية في هذا الباب "لأن المصلحة -كما يقول هو- إذا ثبت كونها دليلاً شرعياً في الجملة -كما سنثبته بالأدلة في البحث الآتي - كانت كباقي الأدلة الأخرى، في أن مجرد المعارضة لا يسوغ تسمية الدليل بالملغي .. "(2).
وحاصل ما في هذه النصوص أن المؤلف يقرر الآتي:
أولاً: أن الصحابة عللوا الأحكام وعملوا بالمصلحة والحكمة ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة، وكانوا يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن، مع اضطراب في تقرير هذه القضية عنده ستأتي الإِشارة إليه.
ثانياً: أن الصحابة عملوا بالمصلحة في أبواب المعاملات وما يتعلق بالنظام
(1) المرجع السابق 302، ظاهر من مخهج المؤلف أن كتابه - تعليل الأحكام - مبني على ما نقله عن الصحابة من تطبيقات، وهو يظن أن الأمثلة التي جمعها تدل على مقصوده، ويطالب مخالفه في دعواه أن يستقرأ هذه الأمثلة ويخرجها على غير تفسيره هو، وهذا ما أسال الله عليه العون والتوفيق .. وإذا خرجت التفسيرات عن تفسيره بالأدلة الواضحة سقط كل ما بناه عليها والله المستعان.
(2)
المرجع السابق 282.