الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
العقل لا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد
إن الأدلة القرآنية - كما مر سابقاً - بينت كمال هذه الشريعة، وكذلك أثبت الاستقراء أنها جاءت لتحقق مصالح العباد، والعقل لاحق له في التشريع، لا في إنشاء الأحكام ابتداء ولا في درك المصالح والمفاسد.
ولأهمية هذه المسألة في أصول الفقه ولأن عدم إدراكها على حقيقتها سبب من أهم الأسباب التي أدت لرفع ضوابط المصلحة في الشرع، فترى بعض الباحثين يحكمون المصلحة في النص فيقدمون عليه ما يخالفه، بل إن بعضهم بذهب إلى تغيير النصوص بها، ولهذا كان من المستحسن أن نبين أن العقل لا يتقدم بين يدي النقل، ولا يمكن أن يستقل بإدراك المصالح والمفاسد (1).
والأدلة على ذلك كثيرة وقد سبق ذكر بعضها منها:
أولًا: ما تقرر فيما سبق أن التشريع - وهو إنشاء الأحكام - إنما هو حق الله الخالص لا يشاركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وذلك لأن عقول البشر لا يمكن أن تدركه، وإلّا لما بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين (2).
ثانياً: إن الشرع إذا حد حداً فإنما قصد أن يقف الإِنسان عنده بعقله
(1) ذكرت هذه المسألة في هذا الموضع - مع إمكان إلحاقها بالتمهيد السابق في أول البحث وذلك لشدة أثرها سلباً أو إيجابا على موضوع المصلحة فأحببت أن تكون قريبة منه والموضع هنا مناسب لبسط الكلام فيها.
(2)
انظر ما سبق ص 22 - 44.
وقلبه وجوارحه - فلا يتعداه، فلو جاز للعقل أن يتخطى ما حده الشرع لما كان لما حده الشرع فائدة، فإذا تعدى العقل ما قرره الشرع كان الحكم للعقل وذلك في الشريعة باطل فما أدى إلى مثله.
فلا يجوز للعقل أن يتخطى ماحده الشرع زاعماً أنه إنما يتبع المصلحة ويريد الإحسان والتوفيق، بل الحكم الأول والأخير للشريعة.
ثالثاً: إن المحسن والمقبّح هو الشرع، فما جعله الشرع حسناً فهو حسن ومصلحة فهو مصلحة - وما جعله قبيحاً فهو قبيح .. وما جعله مفسدة فهو مفسدة، والعقل البشري لكي يحقق الاستسلام لمنهج الله لا بد أن يخضع لحكم الشريعة ويستسلم، فلو تعدى العقل ما حده الشرع لكان محسناً ومقبحاً - ومدركاً للمصلحة والمفسدة، وهذا باطل فما أدى إليه يأخذ الحكم نفسه، فالعقل إذاً لا يحسن ولا يقبح ولا يتعدى ما حكمت به الشريعة.
رابعاً: إنه لو جاز للعقل أن يتعدى ما حده الشرع لأدى ذلك لِإبطال الشريعة بالعقل، فلو حكم العقل ببطلان حكم الشرع (1) في مسألة واحدة وأمضينا حكمه وجاز له أن يتعدى حدًا واحداً - ويبطل حكماً واحداً - لجاز له تعدي جميع الحدود لأن الشريعة حدت حدوداً للمكلفين - في الأقوال والأفعال والاعتقادات فإذا جاز تعدى حداً واحداً جاز تعدي سائر الحدود لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله، وإبطال الشريعة بالعقل محال فما أدى إليه مثله في الحكم.
وهذه العقيدة - وهي أن العقل ليس بشارع فلا يجوز له إبطال الشرع البتة - يقررها الإِمام الشاطبي ويجزم بأن العقل لا يتعدى ما حده الشرع ولا يبطله - قال رحمه الله: فلو جاز للعقل إبطال حد واحد جاز له إبطال سائر الحدود وهذا لا يقول به أحد لظهور محاله (2).
(1) ومثله القول بأن العقل يحكم بإيقاف حكم النص كما ستأتي الإِشارة إليه.
(2)
الموافقات المقدمة العاشرة 1/ 49. وقد سبق الإِشارة إلى شيء منه ص 286.
وأجاب رحمه الله عن الاعتراضات التي يمكن أن ترد على هذا التقرير وترجع إلى ثلاثة أمور.
الأول: أن هذا يتضمن إبطال القياس، لأن الوقوف مع ظواهر النصوص من غير زيادة ولا نقصان هو مذهب الظاهرية وهذا يقتضي رد القياس.
وأجاب رحمه الله: وقد سبقت الإِشارة إلى شيء منه - بأن القياس الشرعي نظر في أمر شرعي، مأخوذ من الأدلة الشرعية، يُبنى عليها ويُضبط بها، فإذا ألحقنا المسكوت عن حكمه بالمنصوص عليه، فإن الثاني منصوص عليه بحكم الشرع - فأين حكم العقل - وكذلك إذا أخذ المسكوت عنه حكماً يماثل حكم المنصوص فإنما يأخذ حكماً شرعياً - فأين حكم العقل - وإذا كان للعقل هنا تصرف وهو معرفة وجود علة الحكم في المسكوت عنه بعد استنباطها من المنصوص عليه، فإن هذا تصرف تحت نظر الشرع وليس العقل فيه مستقلًا ولا منشئاً "بل هو مهتد فيه بالأدلة الشرعية يجري ما أجرته ويقف حيث وقفته"(1).
الثاني: أن الأصوليين قد أثبتوا للعقل التخصيص مثاله قوله - تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فخصص العقل العموم هنا فلم تدخل ذات البارئ سبحانه، وتصرف العقل في النقص من النص كالتصرف بالزيادة عليه لأنها بمعناه، والنقص والزيادة إبطال للحد الذي حده الشرع إما بالنقص منه أو بالزيادة فيه، فإذا لم يكن النقص منه - بتخصيص عمومه - إبطال للحد فكذلك الزيادة (2).
الثالث: أن من القواعد الأصوِلية جواز تخصيص النص أو الزيادة عليه، إذا كان المعنى المناسب واضحاً وسابقًا للفهم عند ذكر النص.
(1) الموافقات 1/ 50 - 51، وانظر ما سبق ذكره ص 408.
(2)
المصدر السابق 1/ 50 - 51. وقد سبق جوابه في فصل العموم.
مثاله: قوله عليه السلام "لا يقضي القاضي وهو غضبان"(1)، فالمعنى الجلي السابق للفهم هو"المنع لأجل التشويش" فألحقوا به جميع المشوشات وخصوا يسير الغضب من الحديث فأجازوا القضاء معه، وهذا تصرف بالعقل في النقل، فإنكار تصرفات العقول في أمثال هذا إنكار للمعلوم في أصول الفقه (2).
ويجيب الشاطبي بجوابين:
الأول: أن الأصوليين يلحقون المسكوت عنه بالمنطوق، وهذا شائع في باب القياس، وقد ألحقوا كل مشوش بالغضب قياساً، وأما إخراج يسير الغضب عندهم فسببه فهم معنى التشويش "ومعلوم أن الغضب اليسير غير مشوش فجاز القضاء مع وجوده بناء على أنه غير مقصود في الخطاب هكذا يقول الأصوليون في تقرير هذا المعنى وإن مطلق الغضب يتناوله اللفظ لكن خصصه المعنى"(3).
وليس في هذا تحكيماً للعقل، بل إنما هو اتباع للمعنى الوارد في النص.
الثاني: وهو جوابه واعتمد فيه على وضع اللسان، وحاصله: أن معنى الحديث "أن القاضي لا يجوز أن يقضي وهو شديد الغضب أو ممتلئ من الغضب" ودليله من وضع اللسان: أن غضبان - اللفظ الوارد في الحديث - على زنة فعلان، وهو يقتضي الامتلاء، لأن أسماء الفاعلين تقتضي الامتلاء مما اشتقت منه، فالغضبان هو الممتلئ غضباً، ومثله "ريان"، و"عطشان" وأشباه ذلك (4).
فالشارع إنما نهى عن قضاء الممتلئ غضباً، وأما الغضب اليسير فلا يمنع من القضاء وهذا بمقتضى اللفظ لا بحكم المعنى فلا تخصيص.
(1) الحديث سبق تخريجه ص 402.
(2)
الموافقات 1/ 50.
(3)
المصدر السابق 1/ 51.
(4)
المصدر السابق 1/ 51.
وأما إلحاق كل مشوش بالغضب فعن طريق القياس الشرعي، فأين نصرف العقل هنا (1).
وبهذا يتقرر أن النظر في الأدلة نظر في أمر شرعي والعقل ليس بشارع فلا ينبغي له أن يتعدى النص الشرعي، بل العقل تابع للشرع وخاضع تحت حكمه، وليس له أن يستقل بإدراك المصالح والمفاسد، فلا حق له في إنشاء الحكم، أو تخصيص نص الشارع فضلًا عن إيقافه أو إلغاء مدلوله أو نسخه.
* * *
(1) المصدر السابق 1/ 51 - 52.