الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهم لا يتبعون إلّا الظن ليس عندهم علم، ولو كانوا عالمين بأنّه ظن راجح لكانوا قد اتبعوا علماً لم يكونوا ممن لا يتبع إلّا الظن والله أعلم" (1).
والذي يتحصل من هذه المناقشة:
1 -
الفقه الإِسلامي أحكامه معروفة لعلماء الأمة، منهم من عرفها على سبيل العلم، ومنهم من عرفها على سبيل الظن الذي علم رجحانه.
2 -
الفقه الإِسلامي يشمل الأمور المعلومة من الدين بالضرورة.
3 -
إنّ المجتهد إمّا أن يتبع الأدلة التي يتحصل له منها اليقين فهو حينئذ متبع للعلم، وما ينتج عن ذلك من الفقه يكون علماً، وإمّا أن يتبع الأدلة التي يتحصل له منها اعتقاد رجحان شيء على شيء فهو حينئذ متبع للاعتقاد الراجح وهو علم بالرجحان لا مجرد اتباع الظن وما يتفق للنفس بدون دليل مرجح، وما ينتج عن ذلك من الفقه يكون علماً أيضاً.
فالفقه الإِسلامي من المعلوم لا من المظنون.
وبعد تقرير هذا المعنى يستحسن التعرف على الأصل العلمي لمصطلح القطعي والظني، لمعرفة صحة ما نسبه المتكلمون لعلمهم "علم الكلام" حيث قالوا عنه إنّه قطعي.
الفرع الخامس
مقارنة بين "علم الكلام" و"علم الفقه
"
تبين لنا مما سبق أن الرازي يجعل الفقه من الظنيات ويخص علم الكلام باسم العلم، وهذا بناء على ما شاع بين علماء الكلام ومن تأثر بهم أن "الكلام" من العلم القطعي الذي لا تداخله الظنون لأنه هو الطريق لإِثبات الاعتقاد، ولأن العقيدة لا تداخلها الظنون، بل هي جزم وقطع فإن ما يثبتها (2) عندهم
(1) مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 120.
(2)
والقول بأنه الأداة للتعرف على صفات الله سبحانه، وسيأتي ما يدل على ذلك إن شاء الله.
وهو "علم الكلام" يتسم بالصفة نفسها، وفي المقابل شاع عن العلوم الأخرى ما يوحي بالتوهين من شأنها ومما نحن فيه علم الفقه.
وأناقش المعنى الذي تضمنه هذا المصطلح من حيث اللغة والشرع وموقف السلف وشهادة الواقع، لنرى مقدار ما يحمل من الصحة أو مقدار ما يحمل من الفساد، وقبل البدء في ذلك نشير إلى أنه مصطلح خاص بالمتكلمين.
قال أبو الخطاب: إن تخصيص لفظ العلم بالقطعيات هو اصطلاح المتكلمين، والتعبير هو باللغة لا بالاصطلاح الخاص (1)، وننظر الآن في دلالة اللغة والشرع وموقف السلف وشهادة الواقع.
1 -
دلالة اللغة: تفيد اللغة أن لفظ العلم يتناول اليقين والاعتقاد الراجح .. ويشملها لفظ المعرفة، والعلم ضد الجهل، ومن عرف شيئاً فقد علم به، سواء عن يقين أو اعتقاد راجح فلا يقتصر لفظ العلم على الدلالة على "اليقين" بل يشمله ويشمل مطلق المعرفة فمن ارتفع جهله بشيء فقد علم به، والعلم بعد ذلك درجات سواء علمه يقيناً أو رجحاناً (2).
2 -
الاصطلاح الشرعي: فقد ورد لفظ "المعرفة" و"العلم" في مواضع كثيرة في القرآن منها:
(1) الاستقامة 1/ 54.
(2)
انظر المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 1/ 509 - 510 ومما جاء فيه قوله "العلم اليقين، يقال عَلِمَ يَعْلَمُ إذا تيقن، وجاء بمعنى المعرفة أيضاً كما جاءت بمعناه ضُمِّنَ كل واحد معنى الآخر لاشتراكهما في كون كل واحد مسبوقاً بالجهل" 509، وقد يُضَمَّنُ معنى شعر فتدخل الباء، فيقال عَلِمْتُه وعَلمتُ به وأَعْلمْتهُ الخبرَ وأعْلَمْتُه به، 510، وفي اللسان "والعِلْمُ نقيض الجهل" 12/ 413 "وعَلمْتُ الشيء أعلَمُه عِلْماً عرفته" 12/ 417، والعلم درجات فالله سبحانه وتعالى يوصف بأنه عالم فهو العليم والعالم والعلّام قال تعالى:{وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} وقال: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} وهذه الصفة تليق بجلاله من غير تكيف ولا تشبيه ولا تعطيل ليست كصفات المخلوقين ويقال للإِنسان عالم، ويوصف بأنه ذو علم، وذلك مع اختلاف درجات العلم وصفته 12/ 416. وعلم الله لا يسبق بالجهل بخلاف علم البشر.
(أ) إطلاق لفظ "المعرفة" على العلم فقد وصف القرآن أهل الكتاب بأنهم يعرفون الحق الذي أُنْزل على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كما يعرفون أبناءهم، قال تعالى:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (1).
فيعلمون أنّ الإله وهو الله وأن النبي هو محمد بن عبد الله (2)، ويعلمون أن قبلتهم وقبلة أبينا إبراهيم البيت الحرام (3).
(ب) إطلاق لفظ العلم الذي هو ضد الجهل، كما في قوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} (4)
وهذا المعنى يؤكد ما ورد في لغة العرب من أن العلم ضد الجهل وما عرفه الِإنسان فقد علم به، والعلم بعد ذلك درجات، منه ما يكون يقيناً كاملاً ومنه ما يكون دون ذلك؛ أي اعتقاداً راجحاً، ودرجات اليقين تتفاوت تفاوتاً كبيراً (5).
(ج) قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (6).
فقد بينت هذه الآية أن الاستنباط من النصوص -التي مجموعها يمثل الكتاب والسنة- يفيد العلم. والفقه هو "العلم بالأحكام الشرعية العملية المُسْتَنْبطة من أدلتها التفصيلية".
(1) سورة الأنعام: آية 164.
(2)
جامع البيان 7/ 164.
(3)
جامع البيان 2/ 24 - 25.
(4)
سورة الحج: آية 3، وجعل الإِمام الطبري العلم هنا ضد الجهل 17/ 115.
(5)
الكوكب المنير 1/ 61، 62.
(6)
سورة النساء: آية 83.
وقد بينت آنفاً أن العلم درجات، والفقه الإِسلامي يشتمل على "العلم" سواء كان هذا العلم علم يقين أو علم رجحان، فتخصيص "الكلام" بالعلم لا دليل عليه من شرع ولا تشهد له اللغة.
وننتقل بعد هذا إلى بيان موقف السلف من "الكلام" -الذي يُراد له أن يختص باسم "العلم" ومن أجل ذلك نُزع اسم العلم عن "الفقه"- نعرض موقفهم لنرى أين يصنّفون ما يُسمى بـ"علم الكلام" هل يدخلونه في "العلم" أم يخرجونه من دائرته، وفي ذلك بيان لمنزلة "الفقه الإِسلامي" عند السلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة ومن تبعهم بإحسان.
3 -
موقف السلف منه: إنّ ما يسمى "علم الكلام" الذي انتشر على أيدي بعض الفرق أَمْر حادث قد اجتمع أئمة العلم من السلف على التحذير منه وذم أهله، لأنه يخالف منهج الاستدلال الإِسلامي، الذي يقوم على القواعد الشرعية واللغوية ومقاصدهما وفهم العاملين بهما من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، بعكس علم الكلام فإنه مسلك عقلي مجاف لتلك القواعد، أصله الفكر اليوناني الفاسد المنحرف عن شرائع الأنبياء، والفساد لا يؤدي إلّا إلى مثله.
واليك أبرز نصوص الأئمة التي نهت عن "علم الكلام":
منها: ما نقله أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" وقد نقله عنه ابن تيمية في كتابه الاستقامة: وفيه أن الناس قد اختلفوا في تعلّم علم الكلام، فقال جميع أهل الحديث من السلف وأئمة الفقهاء أمثال الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري، رحمهم الله جميعاً أن علم الكلام بدعة وحرام (1).
ومن أقوالهم لأن يلقى اللهَ العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من
(1) الاستقامة 80 - 81، إحياء علوم الدين 1/ 163 - 164، مطبعة السعادة.
أن يلقاه بشيء من الكلام (1) وقال رجل للحسن بن زياد اللؤلؤي (2) أكان زفر (3) ينظر في الكلام، فقال سبحان الله ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم همهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم (4).
وقال ابن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يُعدّون عند الجميع في جميع الأمصار من طبقات العلماء وإنّما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالاتقان والميز والفهم (5).
وهذه النقول الثابتة البينة تفيدنا أمرين:
الأول: أن علم الكلام بدعة.
الثاني: أن جميع أئمة السلف شهدوا بذلك.
ونعالج هنا شبهة كَثُر ترديدها مفادها أن ما لم يفعله السلف وأحدثه الخلف لا ينبغي رده لأن السلف لم يفعلوه، وأن البدعة لا تكون محرمة في كل حال.
والجواب عن ذلك أن يُقال ليس لازماً أن يكون عمل الخلف هو عمل السلف في كل شىِء. فإن عمل الخلف ينقسم إلى أقسام:
(1) انظر المصدرين السابقين، والنص النقول للشافعي رحمه الله 2/ 332، الاعتصام 333.
(2)
ولي القضاء ثم استعفى عنه، وكان يختلف إلى أبي يوسف وإلى زفر، توفي سنة 204 هـ، تاج التراجم 22، والإِعلام 2/ 205.
(3)
هو زفر بن الهذيل بن قيس التميمي، من أصحاب أبي حنيفة ولي قضاء البصرة وتوفي بها ومن أقواله:"نحن لا نأخذ بالرأي ما دام أثر وإذا جاء الأثر تركنا الرأي" ولد سنة 110 - وتوفي سنة 158 هـ، تاج التراجم في طبقات الحنفية 28، ابن قطلوبغا، الناشر مكتبة المثنى ببغداد سنة 1962 نشر ببغداد، والأعلام 3/ 78.
(4)
الاعتصام 2/ 333.
(5)
الاعتصام 2/ 333، جامع بيان العلم لإبن عبد البر. 5/ 92 - 96 وقف على طبعه إدارة الطباعة المنيرية 1398 هـ - بيروت - لبنان.
1 -
ما كان من الأمور المادية العملية كبناء المجتمعات واستخدام إنتاج العلم المادي فهذا أخذ الخلف به -وإنْ لم ياخذ به السلف- أمر واجب أو مندوب شريطة أن لا يكون فيه مخالفة للشرع.
2 -
ما كان من الأمور الدينية الاجتهادية التي نُقل الخلاف فيها عن السلف فهذا لا بأس على الخلف أن يجتهدوا ويتخيروا الأقرب إلى الصواب مما نُقل إليهم من الأفهام.
3 -
ما كان من الأمور الدينية التي نص أئمة السلف على أنها بدعة (1) فهذه لا سبيل إلى المراجعة فيها وجعلها شرعاً وذلك لأنها على هذا النحو لا تكون سنة إلى يوم القيامة.
والدليل على هذا: أن علماء السلف إذا قالوا عن أمر من الأمور الدينية أنه بدعة فقد جزموا بأنه لا شاهد له من الشرع بتة، فلا يمكن أن يستنبط له معنى شرعي أبداً، فالكتاب وهو القرآن لا يشهد له، والسنة بمعناها العام (2) لا تشهد له، والإجماع لا يشهد له، والقياس الشرعي لا يشهد له، وبالجملة فإنه لا يوجد شيء في الشريعة يشهد له.
وعلى هذا فإن الذين يحاولون إثبات شرعية أمر من الأمور قال أئمة السلف بأنه بدعة إنما يحاولون شططاً، ويتبعون سراباً، فإن أمراً اتفق أئمة السلف على أنه لا شاهد له في الشريعة يستحيل شرعاً أن يجد الناس بعدهم له أصلاً شرعياً، فإذا قالوا عن علم الكلام أنه "بدعة" فهذا يقتضي كونه بدعة إلى يوم القيامة، ومن حاول البحث من الخلف لإِيجاد شاهد له من الشرع فلن يجد أبداً، اللهم إلّا شبهة لا تنفعه في شيء، وهذا المعنى لا ينبغي التنازع فيه إذ أنه يستحيل شرعاً أن يكون شاهد من الكتاب أو السنة أو الإِجماع أو القياس -بما
(1) أقتصر هنا على بيان القسم الثالث لأنه متصل بمسألة البحث في هذا الموضع، وأرجئ القسمين الأوليين إلى موضعهما من البحث إن شاء الله.
(2)
يدخل فيها السنة القولية والفعلية، وإقراره عليه الصلاة والسلام وسنة الخلفاء الراشدين وما كان عليه الصحابة، وبالجملة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
فيه المصالح المرسلة - على أمر من الأمور ثمِ يقول أئمة السلف عنه أنه بدعة، فإذا وصفوه بذلك فقد جزموا أنه كذلك أبداً.
وهذا له شبيه عند الفقهاء فإن أئمة السلف من الصحابة والتابعين ومن تابعهم إذا نصوا على أن الزني حرام، وعقوق الوالدين حرام، والقذف حرام، فإنه كذلك إلى يوم القيامة، فكما لا يجوز لأحد أن ينظر في الكتاب والسنة والإِجماع والقياس والمصالح المرسلة لكي يجد شاهداً على جواز شيء من ذلك، فإنه لا يجوز لأحد أن ينظر فيها ليجد شاهداً على مشروعية أمر نص السلف على أنه بدعة، وهذا أصل عظيم جداً، ما خالفه أحد إلّا جانبه الصواب ودخل في أودية البدع أو تاه بقدر مخالفته لذلك الأصل (1).
وعليه فإن ما نقله أبو حامد الغزالي وغيره من أن أئمة السلف وصفوا علم الكلام بأنه بدعة يفيدنا يقيناً أنه كذلك إلى يوم القيامة ولا سبيل لإِيجاد شاهد له من الشرع بالصحة، وإن هذا الحكم يشمل بالتالي المصطلحات التي يقوم عليها هذا العلم وذلك لأن العلم لا ينفك عن مصطلحاته، بل هي زبدته وخلاصته، وأن كل ما بني على تلك المصطلحات فهو فاسد أيضاً أو قل إنه بدعة، ومن ذلك ما نحن فيه من إخراج "الفقه" عن مسمى العلم، وإخراج الأحكام المعلومة بالضرورة منه، وكذلك ربط الاجتهاد الناتج عن القياس وخبر الواحد والظواهر بغير الدليل الشرعي وجعله ظناً مبنياً على ما اتفق لنفس المجتهد دون اعتبار مرجح شرعي، وكل هذا الفساد ومثله كثير مما لا يتصل بمسألتنا هذه مبني على ذلك المصطلح الذي أفرزه ما سمّي بـ "علم الكلام"(2).
4 -
شهادة الواقع: يقال إنّ مصطلح القطعي والظني إنما جيء به للمحافظة على كليات الشريعة وإبعاد الخلاف عن أصولها، وهنا نحتكم إلى
(1) انظر تبرؤ أئمة الكلام منه في آخر حياتهم، انظر أبو حامد الغزالي والتصوف 419، تأليف عبد الرحمن دمشقية دار طيبة - الرياض وما بعدها ورجوع الغزالي عن مذاهب المتكلمين، والإِحياء 1/ 168.
(2)
ستأتي الإِشارة إلى ذلك إن شاء الله، عند مناقشة مسلك المضعفين لأدلة الشرعية.
الواقع لنقرر في جزم أن هذه المقالة ليست بصواب، ذلك أنه من العلم الذي لا شك فيه بتة أن هذا المصطلح لا حفظ كليات الشريعة، ولا أبعد الخلاف عن أصولها، بل هو السبب في ذلك، والدليل الذي يثبت ذلك يتكون من شقين:
الأول: أن أصحاب هذا المصطلح من أهل الكلام هم أشد الناس اختلافاً وتنازعاً وتكفيراً وتبديعاً لبعضهم البعض، فإن فرق المتكلمين (1) المختلفة المتباغضة أثبتت بواقعها المشهود أن ما تزعم أنه علم قطعي إنما هو فساد وشر وظنون مرديات وأهواء متقلبات (2)، أما "الفقه الإِسلامي" كما هو عند الصحابة وأئمة السلف ومن سار على نهجهم وتجافى عن أصول المتكلمين فإنه العلم الحقيقي، بل هو أحق باسم العلم من "الكلام"(3). فقد غرق علم الكلام في خضم الفلسفات الأجنبية عن الإِسلام وسلم الفقه الإِسلامي من هذه المحنة، يقول د. محمد فوزي فيض الله: "إن الفقه الإِسلامي يمثل الفكر الإِسلامي الأصيل والروح الإِسلامية الأصيلة، فقد ابتنى على الكتاب والسنة وعلى غيرهما (4) مما أقامه الشارع دليلاً يهتدى به في التشريع حينما لا يوجد نص فيهما.
وقد التزم الأئمة المجتهدون والفقهاء رحمهم الله تعالى هذه الأدلة التي نصبها لهم الشارع فلم يتأثروا في اجتهادهم وفقههم بمؤثرات أجنبية، وكانوا أمناء على هذه الشريعة وهذا الفقه العظيم فلم يدسوا فيه أفكاراً ولا أحكاماً دخيلة، وهذا بخلاف علم الكلام فقد دخلته الفلسفات الأجنبية في مادته وفي صورته وفي طريقة بحثه فانطوت فيه مباحث لا تمت إلى الدين بصلة ولا قرابة، كمباحث ما وراء الطبيعة، ومباحث الجوهر والعرض، والحسن والقبح، وقضايا المنطق وأشكاله وما إليها.
(1) انظر تعيين الفرق، الاعتصام 2/ 206 وما بعدها.
(2)
وانظر شهادة الغزالي من أن علم الكلام هو الذي أثار الشرور والفتن، انظر كتاب أبو حامد الغزالي والتصوف، 422، وقد نقل نصوصاً متعددة تدل على هذا فراجعه، مع أنه قد صرح في أول حياته أن علم الكلام ضروري لحراسة كليات العقيدة 49.
(3)
الاستقامة 1/ 54.
(4)
أي من القياس والإجماع فهما من الطرق التي يتعرف بها على الحكم الشرعي.
أما الفقه الإِسلامي فقد قام على الكتاب والسنة والأدلة التي نصبها الشارع نفسه لأحكامه فدار الفقه في مدارسه ومذاهبه كلها حول هذه الأدلة دون ما سواها، ومن يرجع إلى كتب الفقه يجد المصنفين التزموا أن يذكروا -في الغالب- إزاء كل حكم دليله من الكتاب والسنة أو الإِجماع أو القياس، ومن قبل أشرنا إلى أن الفقه هو العلم بالحكم الشرعي ودليله من الشرع، وأن الحكم المجرد من الدليل لا يسمى فقهاً بالاصطلاح العلمي الدقيق وإنما هو فتوى وتقليد" (1).
الثاني: أن هذا المصطلح قد أفسد كليات الشريعة خلاف ما كان أصحابه ينتظرون منه، وإليك بعض آثاره التطبيقية لتعلم صدق هذا القول من ذلك:
1 -
أنه جعل أحكام الشريعة العملية من الظن لا من العلم.
2 -
أنه وهن من عمومات الشريعة وأغلبها عمومات (2).
3 -
إنّ نفي التعليل وإنكار القياس إنّما هو بسبب الخوف من آثار علم الكلام (3).
4 -
أن العقل دخل حكماً مضاهياً للشرع فنفى بعض الأصول العقائدية، ووضع مناهج للنظر فاسدة أدت إلى تغير الأحكام العملية ومن قبلها الأحكام العقدية حتى زعمت المعتزلة - وتبعتها متكلمة الأشاعرة أن أدلة القرآن والسنة ظنية، وما وقع ذلك كله إلّا بسبب علم الكلام (4)!!!
5 -
أنه هو السبب في انتشار الفلسفة والجدل وانهيار الكليات الشرعية الآمرة بالألفة والمحبة والاجتماع وترك التنازع والفرقة.
(1) التعريف بالفقه الإِسلامي ص 16 - 17، الدكتور محمد فوزي فيض الله، نشر وتوزيع مكتبة دار التراث - الكويت.
(2)
سيأتي بيان ذلك في دراسة خاصة.
(3)
سيأتي بيان ذلك في دراسة خاصة.
(4)
سيأتي بيان ذلك في فصل خاص. إن شاء الله.
ولقد كان موقف السلف من "الكلام" كافياً في درء خطره لو أن أنصاره قاموا وتفكروا في اجتماع أئمة السلف ومنهم مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وسفيان وغيرهم على ذم علم الكلام، وهل يُرجى منه حفظ لكليات الدين؟! وفي هذا موعظة لمن أراد أن يتوقى من الانحراف فيحذر من كل ما وصفه أئمة السلف بأنه بدعة.
وإن هذه الشواهد لكفيلة بأن تمنحنا دفعة قوية وعزيمة صادقة لتنقية مصطلحاتنا العلمية من آثار "علم الكلام".
ولنعلم بعد ذلك أن ما يسميه علماء الكلام بـ "العلم" لم يعرفه الصحابة، وأن ما وصفوه بأنه "ظن "علم" وهو "الفقه" هو الأمر المعلوم عند الصحابة رضوان الله عليهم، علموا أحكام أفعال العباد من الوحي، وعلموها للناس، ونشروها، وأخذها عنهم تلامذتهم، وعلموها لمن بعدهم، يعرفونها بأدلتها، ويعلمون وجه ارتباطها بالشريعة علماً بيّناً يفرّقون به بين الحق والباطل ويحكمون به مجتمعاتهم في جميع المجالات
…
وهذا هو العلم الذي بنى عليه الأئمة المعتبرون أمثال مالك وأحمد والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم أصولهم، فقد عرفوا الأحكام بأدلتها وانتشر الفقه الإِسلامي على أيديهم في بقاع الأرض، وكانت أحكامه معلومة قطعاً عند الأمة، وخفاء بعضها على بعض أهل العلم لا يلزم منه أن تلك الأحكام ليست معلومة، ولذلك لم يفقد من علم الفقه شيء، ولم يصبح الحق مضيعاً في هذه الأمة بل إن ما يجهله أحد العلماء يعرفه الآخر، وما يعرفه أحدهم على وجه الظن، يعرفه آخر على سبيل العلم وهكذا.
ولما نشأ علم الكلام واشتغل الناس به اتبعوا الظنون والأهواء وتفرقت بهم السبل، حتى حق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك، وتفترق
أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة" (1)، ولا نجد هذه الفرق في الفقه الإِسلامي (2)، ولوكان ظناً كظنون علم الكلام لافترق الناس فيه ذلك الافتراق الواسع الذي محق الأصول والفروع، ولم يكن الخلاف بين أهل الفقه في بعض الجزئيات يحمل تلك النتيجة التي أفرزها علم الكلام، ذلك أن الفقهاء كانت تجمعهم أصول فقهية عظيمة، ويتفقون على جملة الأحكام الشرعية، فأصول المسائل الدينية بيّنة ظاهرة معلومة لا خلاف فيها، ويبقى الخلاف في بعض مسائل الاجتهاد وذلك لأسباب كثيرة معلومة (3)، ومع ذلك فإن الصواب لم تجهله الأمة في هذه المسائل بل الحق فيها معلوم وإن اختلف فيها الناس وتفاوتت فيها مداركهم.
وقد شبه الإِمام ابن تيمية الخلاف بين أهل الفقه من أهل السنة بالخلاف في الجزئيات الذي وقع في شرائع الأنبياء، فأصول الأنبياء واحدة في التوحيد وأصول الشرائع، وخلافهم في تلك الجزئيات لا يخرجهم عن مسمى الأمة الواحدة، لأن الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإِجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإِسلام المحض وهم أهل السنة والجماعة (4)، وذلك كله من بركة اتباع العلم لا اتباع الظن، ووقوع الخلاف في بعض الجزئيات لا يُغيّر من هذا المعنى، ولذلك فإن الفقه الإِسلامي الذي تلقته الأمة عن علماء الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة
(1) رواه الترمذي 5/ 25 وقال حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، وابن ماجه في سننه 1321، وقد روي معنى هذا الحديث عن عوف بن مالك وأنس بن مالك ومعاوية بن أبي سفيان وسعد وعبد الله بن عمرو.
(2)
نعم لا تجدها كما هي عند فرق المتكلمين، ومع الاعتراف بوقوع التعصب للمذاهب ووقوع النزاع بين أتباعها والانتصار لها بالحق وبالباطل إلّا أن هذا لا أصل له يؤيده عند الأئمة المعتبرين من أئمة السلف، بخلاف فرق المتكلمين فذلك من أسسهم العقدية .. ولا يبعد أن يكون المسؤول عن ذلك هو علم "الكلام" لأن التعصب سببه انتشار الرأي المذموم والجهل بالسنة وهذه من صفات المتكلمين.
(3)
انظر أسباب الخلاف بين الفقهاء في كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإِسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى 20/ 231 وما بعدها ..
(4)
مجموع الفتاوى الكبرى 19/ 116 - 117 - 118 - 119 - 121.
المشهورين ومن حذا حذوهم واتبع آثارهم علمٌ أوجب لأهله الهداية والألفة وأبعدهم عن الضلالة والفرقة والظنون، وهذا معلوم من سيرة فقهاء الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، فإنك لا تجدهم متباغضين متفرقين يتبعون الظن، بل تجدهم متوالين متحابين أهل سنة واحدة في الاعتقاد ومتفقين على فهمهم لأصول الشريعة وإن تفاوتت علومهم وإدراكاتهم لبعض مسائلها الجزئية، وذلك على الضد من حال علماء الفرق الجدليين فإن الخلاف بينهم أشبه بالخلاف بين أهل الشرك من اليهود والنصارى كما أشار إلى ذلك الحديث، فهو خلاف في أصول الشريعة تبعه فرقة وتباغض وتكفير وتبديع واختلاف في أصول الأحكام، وذلك كله ناتج عن مخالفة السنة في الاعتقاد والعمل، واتباع علم الكلام، وشتان بين العلم الذي تورثه هذه الشريعة لأهلها وبين ما ورثه علم الكلام للفرق الضالة (1).
ولعل في هذا تذكرة لمن أراد أن يعرف الفرق بين علم "الفقه" وعلم "الكلام" وأن أصحاب تلك المذاهب المقصّر منها والغالي قد جهلوا حقيقة الفقه، وأوقعتهم مصطلحات علم الكلام في تلك المقالات.
ولا يقال أن "للكلام" منفعة وهي دفع الشبه عن العوام، وقد بين الغزالي أنه ليس له سوى هذه المنفعة (2).
ولا يمنعني انتشار سلطان المتكلمين في قرون كثيرة أن أقول أن إثم علم الكلام أكبر من نفعه، وقد أشار الغزالي إلى وجوب الحيلولة بين العوام وبين
(1) انظر في المقابلة بين الأمرين وآثارهما، كتاب الاعتصام 2/ 231 - 232، ولا يقال أن علماء الكلام اتفقوا على بعض الأصول وذلك مثل إثبات وجود الله، وإثبات الرسالة والمعاد، واحتكموا إلى العقل في كل ذلك، لأنا نقول أن إثبات الوجود لا يحتاج إلى كل ذلك الجدل فقد أثبته الكفار من قبلهم. وأما المعاد فمع إثبات أصله فقد اختلفوا فيه اختلافاً عجيباً، وأما أصلهم الذي يتلقون منه وهو العقل فقد اختلفوا في ماهيته
…
ولذلك لما انحرفوا عن منهج الرسل في التلقي وتقرير أمور الدين لم يزدادوا إلّا فرقة
…
ولم ينفعهم اتفاقهم في بعض الأمور
…
(2)
الإحياء 1/ 168.
"الكلام" ولم يستثني إلّا بعضاً منهم أصابته البدعة ولا يمكن رفعها إلّا بالمجادلة، ومع ذلك فقد تحفظ في ذلك خوفاً من شرور علم الكلام (1)، وهو شبيه باستعمال بعض الأئمة له عند ضرورة مناظرة أئمة البدع، وليس له بعد ذلك من منفعة، يقول الغزالي: "وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ماهي عليه، وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبط فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدث .. ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين
…
" (2).
وبعد فقد أطلت في إقامة هذا الأصل وتوطيده لأن كثيراً من مسائل البحث الخاصة بمنزلة الفقه الإِسلامي سوف تبنى عليه، ولكل منها موضع يناسبه .. ونسأل الله العون والسداد.
* * *
(1) المصدر السابق 1/ 167.
(2)
المصدر السابق 1/ 168 وسأذكر إن شاء الله في الموضع المناسب ما قاله بعض أهل العلم عن رجوع الغزالي إلى كتب الحديث يطلب فيها معرفة الحقائق وإعراضه عن الطرق الأخرى.