المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالثالاعتماد على "العقلى واتباع المتشابه - الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

[عابد السفياني]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيدفي أهم خصائص الشريعة الإِسلامية بوجه عام

- ‌الباب الأولالشريعة الإِسلاميةثباتها وشمولها وحجيتها

- ‌الفصل الأولالشريعة الإِسلامية والفقه الإِسلامي

- ‌المبحث الأولالتعريف بمصطلح الشريعة الإِسلامية

- ‌المطلب الأولالمعنى اللغوي

- ‌المطلب الثانيالمعنى الشرعي

- ‌المبحث الثانيتعريف "الفقه الإِسلامي" وبيان الفرق بينه وبين "علم الكلام

- ‌المطلب الأولتعريفه في اللغة

- ‌المطلب الثانيتعريف الفقه في الاصطلاح وهل هو علم أو ظن

- ‌الفرع الأولذكر أهم التعريفات

- ‌الفرع الثانيالقيود المتفق عليها

- ‌الفرع الثالثاستخراج أهم القيود المختلف فيها وهل الفقه من المعلومات أو من الظنيات

- ‌الفرع الرابعالمناقشة

- ‌الفرع الخامسمقارنة بين "علم الكلام" و"علم الفقه

- ‌المبحث الثالثالفرق بين "الفقه" و "الشريعة

- ‌الفصل الثانيالمقصود من الثبات والشمول والأدلّة على ذلك

- ‌المبحث الأولالمقصود من الثبات والأدلة على ذلك

- ‌المطلب الأولمعنى الثبات في اللغة

- ‌المطلب الثانيالدليل الأول على ثبات الشريعة

- ‌المطلب الثالثالدليل الثاني

- ‌المطلب الرابعالدليل الثالث

- ‌المطلب الخامستطبيقات على منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - في المحافظة على ثبات الأحكام

- ‌المبحث الثانيالمقصود من الشمول والأدلة على ذلك

- ‌المطلب الثانيالدليل الأول على الشمول

- ‌المطلب الثالثالدليل الثاني على الشمول

- ‌المطلب الرابعالدليل الثالث على الشمول

- ‌الفرع الأولذكر كلام المفسرين في معنى الإكمال

- ‌الفرع الثانيذكر كلام الشاطبي في معنى الإِكمال

- ‌الفرع الثالثحاصل كلام أهل العلم في معنى الإِكمال

- ‌الفرع الرابعذكر بعض الشبه والجواب عنها

- ‌الفصل الثالثالاحتجاج بالأدلة النقلية

- ‌المبحث الأولقوّة الأدلّة النقلية

- ‌المطلب الأول

- ‌المطلب الثانيالاستقراء يثبت أن هذه البينات والجوامع لا بد من العلم والعمل بها معًا

- ‌المطلب الثالثالشريعة هي الحجة على الخلق على الإِطلاق والعموم

- ‌الفرع الأولذكر رواية البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما

- ‌الفرع الثانيذكر حديث معاذ كما رواه مسلم

- ‌الفرع الثالثذكر روايتي البخاري عن البراء وأنس رضي الله عنهما

- ‌المطلب الرابعذكر اتفاق الصحابة والتابعين على ذلك كما نقله الثقات من أهل العلم

- ‌المطلب الخامسذكر أوصاف الشريعة

- ‌الفرع الأولأوصاف الشريعة كما بينها الشاطبي

- ‌الفرع الثانياعتراض وجوابه

- ‌المبحث الثانينشأة القول بتضعيف الأدلة النقلية

- ‌المطلب الأولحقيقة هذه المقالة وموقف الخوارج والمرجئة منها

- ‌المطلب الثانينشأة هذه المقالة على يد المعتزلة

- ‌الفرع الأولمقالة واصل بن عطاء رأس المعتزلة (80 - 151)

- ‌الفرع الثانيتطور فكر المعتزلة على يد أبي الهذيل العلاف(توفي سنة 232 ه

- ‌الفرع الثالثتطورها مرة أخرى على يد النظام

- ‌المبحث الثالثأهم الأسباب التي ساعدت على انتشار القول بالظنية

- ‌المطلب الأولموقف الخوارج من رد السنة

- ‌المطلب الثانيموقف الفلاسفة وبيان وجه ارتباط تلك البدعة به، وذكر شبهة المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة

- ‌المطلب الثالثمناقشة شبهة المخالفين والجواب عنها بأكثر من وجه

- ‌الباب الثانيالاجتهاد وأهم طرقه وقضيّة الثبات والشمول

- ‌الفصل الأولالاجتهاد وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولحكمه وحكمته وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المبحث الثانيأنواع الاجتهاد وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولتنقيح المناط

- ‌المطلب الثانيتخريج المناط

- ‌المطلب الثالثتحقيق المناط

- ‌المبحث الثالثأذكر أهم شروط الاجتهاد وأثرها على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولالعلم بلغة العرب

- ‌المبحث الرابعضوابطه وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولالبناء على غير أصل

- ‌المطلب الثانيالجهل بلغة العرب

- ‌المطلب الثالثالاعتماد على "العقلى واتباع المتشابه

- ‌الفصل الثانيالعموم وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولمقارنة بين الإِعجاز الكوني والإِعجاز التشريعي وبيان سماته

- ‌المبحث الثانيالعموم اللفظي

- ‌المطلب الأول

- ‌الفرع الأولطريقة الإِمام الشاطبي

- ‌الفرع الثانيالاعتراضات التي ذكرها وأجاب عنها

- ‌الفرع الثالثاعتراضات أخرى وجوابها

- ‌المطلب الثانيطريقة المتكلمين ومناقشتها

- ‌الفرع الأولذكر طريقة المتكلمين

- ‌الفرع الثانيمناقشة الحنفية والإِمام الشاطبي والإِمام ابن تيمية لطريقة المتكلمين

- ‌الفرع الثالثمناقشة ابن تيمية لطريقة المتكلمين ومقارنتها بمذهب الشاطبي

- ‌الفرع الرابعتحليل طريقة المتكلمين وبيان الفرق بينها وبين طريقة السلف كما يمثلها الشاطبي

- ‌الأول: أصل رفع الحرج:

- ‌الثاني: قاعدة سد الذريعة

- ‌الفصل الثالثالقياس وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولطريقة الإِمام ابن القيم

- ‌الفرع الأول الأدلة من الكتاب والسنة:

- ‌الفرع الثانيعمل الصحابة بالقياس أو التفريق بين الرأي المذموم والرأي المحمود

- ‌المبحث الثانيطريقة الإِمام الشاطبي

- ‌المطلب الأولالأدلة على إثبات القياس

- ‌المطلب الثانيجوابه عن أقوال المعاوضين

- ‌المطلب الثالثالإِجماع

- ‌المبحث الثالثتطبيقات على أركان القياس وبيان شرط التعليل بالحكمة

- ‌المطلب الأولتطبيقات على أركان القياس

- ‌الفرع الأول

- ‌الفرع الثاني

- ‌الفرع الثالث

- ‌الفرع الرابعتحقيق مذهب الإِمام الشاطبي في التعليل بالحكمة

- ‌الفرع الخامسبيان أثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الثالثالقياس منهج شرعي لا مسلك عقلي

- ‌الفصل الرابعالمصلحة وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولتعريف المصلحة والتأكيد على الضوابط الشرعية فيه

- ‌المبحث الثانيالعقل لا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد

- ‌المبحث الثالثالمصلحة ودلالتها على الثبات

- ‌المبحث الرابعالمصلحة ودلالتها على الشمول

- ‌المطلب الأولتحرير موضع النزاع

- ‌المطلب الثانيأسباب التغير وتصوير مذهب المخالفين

- ‌ المطلب الثالث

- ‌المطلب الرابعبيان موقف الصحابة - رضوان الله عليهم - من النصوص

- ‌المطلب الخامسمناقشته في رده لضوابط المصلحة عند الأصولين

- ‌المطلب السادسمناقشة اعتباره المصلحة دليلاً مستقلاً

- ‌المطلب السابععدم فهم بعض الباحثين لمعنى "التعبد" في الشريعة ومناقشته فيما نقله عن الشاطبي

- ‌المطلب الثامنالفرق بين العبادات والعاديات

- ‌المطلب التاسعمناقشة ما نسبه بعض الباحثين إلى الإِمامين: ابن القيم والشاطبي

- ‌الفرع الأولفيما نسبوه إليهما

- ‌الفرع الثانيالمناقشة

- ‌المطلب العاشرموقف الشريعة من العادات والأعراف والمصالح

- ‌الفصل الخامسمواطن الإِجماع ومواطن الخلاف وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولكيفية تحقق الثبات والشمول في الحكم المجمع عليه

- ‌المطلب الأولالاعتراض الأوّل وجوابه

- ‌المطلب الثانيالاعتراض الثاني وجوابه

- ‌المطلب الثالثالاعتراض الثالث وجوابه

- ‌المبحث الثانيكيفية تحقق الثبات والشمول في الأحكام التي لم يتحقق فيها إجماع

- ‌خاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌المطلب الثالثالاعتماد على "العقلى واتباع المتشابه

وضعت هذه الشريعة على الدوام والثبات .. والتزم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اقتداء به - منهجاً للاستنباط منها يحفظ مقاصدها ويعرّف الناس بها ويحافظ على ثباتها، ويحول بين الناس وبين الإِحداث فيها وتغيرها.

ونختم هذا الموضع بذكر نصيحة الإِمام الشافعي للمسلمين عامة - نتبعها ما ذكرناه من وصاة الشاطبي تأكيداً وإعانة على الخير وإيصاداً لأبواب الشبه التي أصابت كثيراً من الناس بسبب غفلتهم عن تلك النصيحة، يقول الإِمام الشافعي: "وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها.

فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة: نصيحة للمسلمين، والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركه، وإدراك نافلة خير لا يدعها إلا من سفه نفسه، وترك موضع حظه، وكان يجمع مع النصيحة لهم قياماً بإيضاح حق وكان القيام بالحق ونصيحة المسلمين من طاعة الله، وطاعة الله جامعة للخير" (1).

‌المطلب الثالث

الاعتماد على "العقلى واتباع المتشابه

"

هذا من أكبر الأسباب التي أدت إلى الإِحداث في الشريعة وتغيير أحكامها، فأدخل فيها ما يضادها، وأخرج منها ما هو من صلبها فلا أدرك المتبعون لعقولهم و"المتشابه" لا ثباتها ولا شمولها، وخالفوا عن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تابعهم على ذلك من فقهاء أهل السنة الذين يعتقدون أن الحاكم بإطلاق هو الله سبحانه، أما العقل فهو محكوم بالشريعة، فالمشرع واحد وهو الله، وكل ما سواه مخلوق في مقام العبودية وقد سبق تقرير هذا المعنى.

(1) الرسالة: مسألة رقم 170 - 171.

ص: 275

وقد مجد الشيخ محمد عبده العقل فقال: إن على الإِنسان أن يتبع عقله حتى يدرك بالبراهين الصحيحة الحق، ثم يرجع بعد ذلك إلى الوحي فإن وجده موافقاً فليحمد الله، ويلزم التصديق والتسليم بدون فحص فيما تكنه الألفاظ إلا فيما يتعلق بالأعمال على قدر الطاقة.

وإن لم يجده موافقاً فليتبع حكم العقل، ولا يبحث عن مراد الله ولا رسوله لأنه لا يعلم مراد الله ورسوله إلّا الله ورسوله، وليقل:"آمناً به كل من عند ربنا"(1).

فالعقل إذاً هو المعول عليه ابتداء ثم بعد ذلك نرجع إلى الوحي فإن وافق قلنا الحمد لله، وإن لم يوافق اكتفينا بالقول "كل من عند ربنا" وآمنا في الوقت نفسه بحكم العقل المخالف للوحي.

وهذا القول ظاهره خلاب، وإذا تحققت منه لم تجده شيئاً. ذلك أن العقل من خلق الله ولا شك وقد كرم الله به الإِنسان عن الحيوان .. إلّا أنه مع هذه المنزلة التي منحه الله إياها، قد جعله الله محكوماً بحكم الوحي، فجعل للوحي

(1) وقارن بما سبق تجد هذا الكلام شديد الشبه بكلام المعتزلة ص 193، بل يزيد عليه شراً كما حقق ذلك الدكتور سليمان دنيا حيث يقول مقارناً بين مسلك المعتزلة ومسلك الشيخ محمد عبده الذي نقلته في المتن أن مناط التكليف عند المعتزلة هو العقل ويبقى للنصوص عندهم حق استنباط الأحكام منها ما دام العقل لا يعارضها "وهذا الحق ضائع تماماً بالنسبة للمنهج الذي ذكره الشيخ محمد عبده لأنه لا ينظر إلى النصوص إلا في نهاية المطاف كما صرح بذلك الشيخ محمد عبده نفسه في النص السابق فإن وجدها مطابقة لما أثبته العقل حمد الله، وإن وجدها غالفة، آمن بأنها من عند الله، من غير أن يكون لها أية دلالة على معنى محدد، ومعنى الإِيمان بها في هذه الحال، أن المؤمن لا يلتزم حيالها بأمر من الأمور، وما أيسر هذا على الفيلسوف إن كان ذلك ينجيه من وصمة الخروج على الأديان والتنكر لها .. " الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين، المقدمة 58 - 59 - 62 تقديم وتحقيق الدكتور سليمان دنيا دار إحياء الكتب العربية - الطبعة الأولى 1337 هـ، وقد وفق فضيلته في اختيار هذا العنوان لكتابه هذا أعظم توفيق، وقد أحسن في تتبع نصوص الشيخ محمد عبده، الدالة على مسلكه في الاستدلال والتي تحدد موقفه من العقل وكشف تناقضها. انظر 2/ 719 هامش رقم واحد.

ص: 276

منزلة أعظم من منزلة العقل، فمن أراد أن يحترم عقله ويحافظ على المنزلة التي منحها الله له فليتبع الشرع ويحاكم عقله إليه.

فالله سبحانه عندما خلق لإبن آدم عقله كرمه بحيث جعله محكوماً بأمر الله، وجاءت الرسل صلوات الله وسلامه عليها بهذه البديهية .. وحَكّمت الوحي على أنفسها وعقولها ودعت الناس لذلك، فإن يكن العقل من آثار الله -أي من مخلوقاته- والوحي هو كلام الله، فذلك حق وصدق.

وعلينا بعد ذلك أن ننظر لنعرف أيهما أعلى مرتبة، الوحي أم العقل، ومن الحاكم؛ وحينئذ سيكون الجواب أن الوحي أعظم مرتبة وأنه حاكم على العقل وإذا أدى العقل مهمته وهو تحاكمه إلى الوحي لن يكون هناك تعارض بته، لأن العقل المتعبد بالوحي لا يمكن أن يعارضه.

ولقد أحسن فضيلة الأستاذ الدكتور سليمان دنيا حيث قال مناقشاً للشيخ محمد عبده في تحديده لمهمة العقل: قال: "وعندي أن الشيخ محمد عبده إذا كان لم ينقص العقل حقه فهو قد جاوز به حده"(1). وهذه المجاوزة هي تقديم البرهان العقلي على النص الشرعي، فإذا وافق النص الإِلهي العقل قلنا الحمد لله، وإن خالفه النص الإِلهي، حكمنا بحكم العقل، ولا يعط النص أكثر من قوله:"إنك من عند الله"(2). ويقول فضيلته: "ذلكم هو كل ما في الأمر، أما النصوص الإِلهية وما تنطوي عليه من آراء فأمرها دائر بين: أن تكون موافقة إلى ما تأدت إليه هذه البراهين (أي العقلية) أو أن تكون مخالفة لها، والأمر في كلتا الحالتين سهل يسير في نظر الشيخ محمد عبده، فإنها إن كانت موافقة، فقد كفى الله المؤمنين القتال، وإن كانت مخالفة فلا قتال أيضاً، لأنه يكتفي بأن يقول آمنت بما جاءت به إلى جانب الإِيمان بما تأدت إليه البراهين"(3) وينكر عليه الدكتور سليمان دنيا هذا التناقض فيما زعمه من الإِيمان بما أدت إليه البراهين

(1) الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين: المقدمة 9.

(2)

الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين: المقدمة 58.

(3)

المصدر نفسه: المقدمة 59.

ص: 277

من جهة وبما جاء من عند الله في حالة التعارض. فيقول: "ولا يخدعنا قول الشيخ محمد عبده فليطرق عن التأويل ويقول آمنا به كل من عند ربنا فإن ذلك إيمان بألفاظ جوفاء لا معنى لها، ما دام قد آمن من طريق آرائه بآراء تعارض هذه الألفاظ معارضة تامة"(1).

وعلى أمثال هذه الشبه اعتمد مذهب العقلانيين في العصر الحديث، اتباعاً لمسالك الفرق المنحرفة، وانتشرت المذاهب المخالفة لشريعة الإِسلام (2).

ولا يقال ما وجه الربط بين العقيدة والشريعة في هذا الجانب لأنا نقول: إن العقل إذا اتُّخذَ طريقاً لمخالفة العقيدة بالتأويل فإن الأمر سهل على أصحابه أنْ يتخذوه طريقاً لمخالفة الشريعة بالتأويل، وهؤلاء لا يحتاجون أكثر من أن يقول أن هذا الأمر مصلحة فيتبعونه ويدخلون تحت أذيال التأويل باتباع المتشابهة ويردون ما توجبه النصوص وما تقرر في الإِجماع، والنتيجة واحدة وهي تقديم آرائهم على أحكام الشريعة، كما قدموها على ما جاءت به العقيدة، بل الأمر أخطر من ذلك كما يصوره فضيلة الدكتور سليمان دنيا حيث يقول:"ثم إن لمنهج الشيخ محمد عبده جانباً آخر، له خطورته أيضاً، ذلك أنه طريق تفريق للأمة لا طريق تجميع، ذلك أنه إذا اعتمد كل إنسان على نفسه وعقله فقط فقلما ينتهي واحد إلى مثل ما ينتهي إليه الآخر، وهؤلاء هم الفلاسفة، لأن كل واحد منهم يعول على نفسه وعقله فقط، نجدهم في الغالب متفرقين قلما يلتقون على شيء واحد من كل الوجوه"(3).

وسأذكر بعض التطبيقات التي اعتمدت على نتائج العقل البشري والتي يزعم أصحابها أنهم يريدون تحقيق المصلحة. وسيظهر لنا - بعد دراسة هذه

(1) المصدر السابق: 60.

(2)

انظر المقصود بالعقلانية ص 188 ومثل هذا المذهب المستشرقون ومن تأثر بهم وانظر كتاب موقف المستشرقين ومن تابعهم من الثبات والشمول.

(3)

الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين المقدمة 64، وانظر فصل العقلانية من كتاب مذاهب فكرية معاصرة 500.

ص: 278

التطبيقات - خطورة هذا المسلك وآثاره السيئة في هذا العصر على إبعاد الشريعة الإِسلامية عن التطبيق وإقامة الحياة المعاصرة على أحكام القوانين الوضعية.

ونختار هنا إحدى الفتاوى في مجال النظام الاقتصادي، فقد أفتى الشيخ محمد عبده بمشروعية ما سُمي "بصناديق التوفير"، واعتمد هو ومن تابعه على هذه الفتوى على أن الربا المحرم هو ما كان أضعافاً مضاعفة، وتعلقوا بقوله تعالى:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1).

فالمحرم عندهم هو ما كان أضعافاً مضاعفة، أما الفائدة المحددة بعشرة في المئة أو بأقل فليست من الربا المحرم (2).

وقد أصبحت هذه الفتوى قاعدة للاتجاه العصراني وبسببها استحوذت النظرة الغربية على مفهوم الاقتصاد الإِسلامي، وعليها وعلى أمثالها من الشبه انتشر النظام الربوي.

وبتمجيد النظر العقلي، وتقديم حكم العقل على حكم الشرع، والمحاولات المستمرة لمقاربة أحكام الشريعة الإِسلامية للأحكام الغربية طلباً للتوفيق بينها، والتماساً للشبه لكي يتم هذا التقارب .. تحقق لأرباب القوانين الوضعية ما أرادوا حيث جعلوها حاكمة على الشريعة وحاولوا جاهدين تطويع الشريعة لقبولها تحت اسم المصلحة واتباع حكم العقل.

وفي الحق أن التزام منهج النظر الإِسلامي الصحيح مانع قوي من تسرب آثار الفكر الغربي إلى أحكام الشريعة الإِسلامية .. كما أنه مانع قوي من وقوع أمثال هذه الفتوى، فالربا محرم بنصوص الكتاب والسنة وهذه مسلمة بديهية

(1) سورة آل عمران: آية 130.

(2)

تفسير القرآن الحكيم الشهير بالمنار 4/ 123 - 124 - تأليف محمد رشيد رضا دار المعرفة بيروت، الطبعة الثانية، وقد تضمن هذا الكتاب أكثر آراء محمد عبده.

ص: 279

طيلة أربعة عشر قرناً

وقد كان منهج النظر الإِسلامي الذي لم يتسلط عليه العقل الفاسد حارساً لهذا الحكم، فالإِجماع منعقد على حرمة الربا قليله وكثيره، وعقول العلماء مذعنة أمام هذا الحكم الشرعي، ولم يستطع حتى زعماء الاعتزال - الذين مجدوا العقل - أن يذهبوا هذا المذهب، ولكن التطرف في تقديم العقل على الشرع - وتغطية ذلك بكثير من الشبه، هو الذي فتح الباب على مصراعيه لهيمنة الفكر الأوروبي والنظام الغربي على الاقتصاد ومناهجه، حتى احتاج الأمر إلى الدعوة إلى صحوة تنهض بالاقتصاد الإِسلامي تنتشله من أحكام القوانين الوضعية وترده إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وما زالت هذه الصحوة تشكو من أمثال هذه الفتاوى ومن آثار المسلك العقلي المخالف للنصوص .. الذي به غُيرت الأحكام وبُدّلت، ووُضِعتْ مواضعها أحكام لم تشهد الشريعة بصحتها.

وقد انتقل إلينا هذا المسلك الفاسد من آثار الفلسفة اليونانية على أيدي المعتزلة ومن حذا حذوهم - ومن آثار الفكر الأوروبي الحديث ذي الأصول اليونانية (1) - واتبع أصحابه "المتشابه" فضلوا وأضلوا.

ولننظر الآن في مسألة أخذ الفائدة الربوية، ونتتبع أصلها - مع العلم أن الربا محرم في شرائع الرسل السابقين صلوات الله وسلامه عليهم لقوله تعالى عن أهل الكتاب:

{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} (2).

وقد بدأ تحليله على أيدي طواغيت الفكر في أوروبا في مواجهة رجال الدين النصراني الذين كانوا يحرمون الربا، فقد استخدم المرابون "الفائدة" ..

(1) قارن بين مسلك المعتزلة ومن تبعهم وقد سبق ذكره وبين مسلك هؤلاء انظر ص: 161 - 187 إلى 188، 192 - 202.

(2)

سورة النساء: آية 161. وانظر تحريمه على الأمم وكيف احتال على تحليله اليهود وغيرهم - الربا وأثره 29 - 48.

ص: 280

فمعجم اكسفورد عرف الربا بقوله: "هو مزاولة إقراض المال بمعدلات فائدة فاحشة وخاصة بفائدة أعلى من المسموح به قانوناً"(1).

والعقل هو العدة الوحيدة التي يلجأ إليها أساطين الفكر الأوروبي إذا أرادوا أن يقتحموا ما بقي لديهم من القيم الدينية (2).

وبهذه العدة وحدها حاول القائلون بجواز الفائدة أن يزعزعوا أهم أركان الاقتصاد الإِسلامي .. وقد وقف في وجه هذا التيار كثير من العلماء .. وخاصة ما تحققه الدراسات في الاقتصاد الإِسلامي في الآونة الأخيرة.

فهذا المؤتمر الثاني للمصرف الإِسلامي تتضمن قراراته في الفقرة الأولى: "أن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تابعهم هو من الربا المحرم شرعاً"(3).

وأما عن شبهة القائلين بحل هذه الفائدة فقد تكفل بالجواب عنها أحد البحوث المقدمة لهذا المؤتمر ..

وحاصل الجواب: أن الآية تصور لنا حالة من حالات الربا في الجاهلية .. وهي أن المرابي يقول للمدين اما أن تؤدي وإما أن تربي .. وكلما حل الأجل .. قال له ذلك فتتضاعف الفائدة .. فهذه هي الأضعاف المضاعفة (4).

وأما النظر في حل الفائدة التي لا تتضاعف فيرجع به إلى مثل قوله تعالى:

(1) الموسوعة الاقتصادية 264 كتاب الربا وأثره على المجتمع الإِنساني 67، للدكتور الأشقر - دار الدعوة.

(2)

انظر كتاب موقف المستشرقين .. من ثبات الشريعة وشمولها دراسةً وتطبيقاً.

(3)

الربا وأثره على المجتمع الإِنساني 167.

(4)

الجامع لأحكام القرآن 4/ 202.

ص: 281

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1).

وإلى مثل قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2).

ولم يقل سبحانه إلّا إذا كانت الفائدة غير مضاعفة، فالآية نص في أن الزائد على رأس المال ربا وإن كان فلساً واحداً (3)، وهذه الآيات الدالة على تحريم الربا قليله وكثيره دلت في الوقت نفسه على تعطيل المفهوم في قوله تعالى:

{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (4).

وهنا نحاول أن نتلمس الأدلة على السبب الذي قلنا أنه الحامل على هذه الفتوى وذلك لكي نزيل الشبهة القائلة بأن هذا اجتهاد والمجتهد مأجور صاحبه وإن أخطأ .. ونربط في الوقت نفسه بين هذا الذي تقرر في هذا الموضع وبين ما قدمناه سابقاً من أن التزام منهج النظر الإِسلامي مانع من تغيير الأحكام وتسليط العقل عليها بالتأويل والتحويف، واتباع المتشابه والإِعراض عن المحكم.

ونبدأ في بيان ذلك فنقول إن الحكم الذي ثبت الإِجماع عليه معصوم وثابت إلى يوم القيامة ولا يجوز النظر فيه بتة، وأن مخالفته مسلك فاسد .. وإن من يحق له الاجتهاد الشرعي لا يجوز له أن ينظر في مسألة قد تم الإِجماع عليها (5).

(1) سورة البقرة: آية 278.

(2)

سورة البقرة: آية 278.

(3)

الربا وأثره على المجتمع الإِنساني 69 - 70.

(4)

سورة آل عمران: آية 130. والاعتصام 1/ 185.

(5)

سيأتي معنا إن شاء الله فصل مستقل في بيان عصمة الإِجماع وبيان أثر ذلك على الثبات والشمول.

ص: 282

ولا يتحقق من أحد مخالفة. مثل هذا الإِجماع إلّا أن يوصف بوصفين:

الأول: أنه مجاف للمنهج الإِسلامي الصحيح في الاستدلال، متبع لمسالك النظر المخالف للشرع.

الثاني: أنه طاعن فيما استنبطه العلماء ونقلوه لمن بعدهم جيلاً بعد جيل، واصف له بالخطأ زعاماً أن الحق معه هو.

الثالث: أن الاجتراء على مثل هذا المسلك لا يكون إلا ممن اتبع المتشابه وترك المحكم وهذا هو شأن الزائغين الذين حذر الله منهم (1).

هذا في منهج النظر .. أما مسألتنا التطبيقية فقد نقل العلماء الثقات الإِجماع عليها، ولم يفرقوا بين الربا قليله وكثيره في التحريم (2).

ونؤكد بعد هذا العرض التطبيقي أن تغيير الأحكام الإِسلامية وتقديم غيرها عليها من أحكام القوانين الوضعية .. ومحاولة التلبيس على العوام بدعوى جواز الاجتهاد .. حتى اهتز مفهوم الثبات وأصبحت دعوى المعاصرة والإِصلاح مطية لزعزعة ثبات الشريعة .. إن هذا كله إنما جاء بسبب اتباع مسالك غربية في النظر من مثل ما ذكرناه من تمجيد العقل واتباعه ومحاكمة الوحي إليه.

والحق أن أمثال هذه الفتاوى لم ينتجها الاجتهاد الشرعي .. وأن الاجتهاد الشرعي بضوابطه التي قدمنا وبسلامته من هذه المسالك الفاسدة هو السند الحقيقي للحفاظ على ثبات الأحكام الشرعية ووضع سد مانع بين شريعة الإِسلام وأهواء الذين لا يعلمون، وينبغي أن نبذل الجهد المستطاع لكشف

(1) انظر الاعتصام 1/ 51، 53 - 54 - 99 - 100 - 238 - 239. ومما يدل على محافظة العلماء على هذه الشريعة ما قاله الإِمام الشافعي في كتابه الرسالة:" .. قلنا أما ما كان نص كتاب بين أو سنة مُجْتَمعٍ عليها فالعذر فيها مقطوع ولا يسع الشك في واحد منهما، ومن امتنع من قبوله استتيب" مسألة 1259.

(2)

انظر المغني 4/ 3 وانظر الرد على شبهة المعارضين للإِجماع في الربا وأثره على المجتمع 55 وما بعدها والمغني 4/ 3 وما بعدها.

ص: 283

المسالك الفاسدة التي انتشرت قديماً وحديثاً في الفكر الإِسلامي لنقطع الطريق على الغزو الفكري الحديث بما يحمله من عقائد وأنظمة (1).

وعلى هذا الأساس نفسه تمكنت العلمانية - فخالفت في الأصول والفروع - وحكمت بأهوائها على أحكام الشريعة الإِسلامية في أكثر الفروع بالإِبطال مثل أحكام الجنايات "وحكم شرب الخمر" و"الزنى" و"الربا" و"الردة" و"أكثر الأحكام التي تخص المرأة من الحجاب والاختلاط والإِرث" و"الأحكام العامة التي تخص الدولة وسياسة الحروب" .. وغير هذه الأمثلة كثير.

حتى حكمت - باسم المصلحة - على الشريعة الإِسلامية بالإِبطال إلا في بعض المواطن مثل ما يسمونه "بالأحوال الشخصية". ونادى بهذا المذهب كثير ممن ينتسبون إلى الإِسلام، واجتمع على نصرته أعداء الشريعة الإِسلامية وهم في كل ذلك يزعمون أن الإِسلام مجد العقل، وله حق العمل بالمصالح بعد التعرف

(1) حرص الأوروبيون دعاة العلمانية "اللادينية" على نصر هذا المسلك ودعمه بكل نفيس يقول كرومر في تقريره السنوي عام 1905 في الفقرة (7) التي كتبها بعنوان "الشيخ محمد عبده: قال وهو يتحدث عن الشيخ وأتباعه: "

وفكرتهم الأساسية تقوم على إصلاح النظم الإِسلامية المختلفة دون إخلال بالقواعد الأساسية للعقيدة الإِسلامية، فهم وطنيون حقاً بمعنى أنهم راغبون في ترقية مصالح مواطنيهم وإخوانهم في الدين، ولكنهم غير متأثرين بدعوة الجامعة الإِسلامية ويتضمن برنامجهم - إن كنت قد فهمته حق الفهم - التعاون مع الأوروبيين لا معارضتهم في إدخال الحضارة الغربية إلى بلادهم". - الإِسلام والحضارة الغربية 78 - 79، وقد أثبت البحث العلمي أنه لم تسلم القواعد الإِسلامية للعقيدة الإِسلامية، انظر رسالة الدكتوراه: عقيدة الشيخ محمد عبده عرض ونقد، جامعة أم القرى مخطوط، ولم تسلم النظم الإِسلامية كما ظهر لنا في هذا الموضع، وانظر رسالة ماجستير العلمانية نشأتها وتطورها 575 - 576 - 577 - 578 - 579 للدكتور سفر الحوالي - طبعة جامعة أم القرى - الطبعة الأولى 1402 هـ. ورسالة ماجستير بعنوان: مفهوم تجديد الدين 242 - 243. بسطامي سعيد - الطبعة الأولى 1405 هـ - دار الدعوة - الكويت.

ص: 284

عليها، وهو الرائد والقائد والحاكم بأن هذه مصلحة أو مفسدة - فإذا اختار العلمانية .. فقد حكم بحكم الشرع .. لأن الشريعة أمرت بإتباع المصالح، والقوانين الوضعية التي هي بعض ثمار العلمانية اللادينية مصلحة بزعمهم، وقد أدى هذا المذهب إلى إبطال أكثر أحكام الشريعة الإِسلامية .. واتسع الخرق على الراقع عندما حاول بعض الكتاب أن يوفق بين أحكام العلمانية وأحكام الشريعة فاضطرهم ذلك إلى إقحام العقل واسطة .. للبلوغ إلى مقصودهم فكان أن اتسع باب التأويل العقلي حتى جعل بعض الباحثين حكم الربا وحكم الردة وحكم الولاء والمناصرة وحكم الجهاد .. وكثير من أمثال ذلك يستوي فيها حكم الشريعة الإِسلامية والعلمانية "اللادينية". ومن أراد أن يتصور ثباتاً لهذه الشريعة وأنها حاكمة على الإطلاق والعموم فلا بد أن يدرك طبيعة العقل وقدرته وما هو الحد الذي حده له الشرع، وما هي وظيفته التي حددها له .. وحينئذ يؤمن إيماناً حقيقياً بحاكمية هذه الشريعة على الإِطلاق والعموم على البشرية كلها وعلى جميع ما تمتلكه من مورثات العقل - سواء ما ورثته من العصور السابقة أو من العقول اللاحقة - تحكم بصحة ما تراه صحيحاً من نتاج العقل البشري، وتحكم ببطلان ما تراه باطلًا .. هذا هو الإِسلام الذي جاءت به الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، ولأجل تجلية هذه العقيدة لا بد من زيادة البيان لموقف الإِسلام من نتاج العقل البشري - كما وضح ذلك فقهاء أهل السنّة والجماعة - ونتيجة ذلك هو العلم اليقيني بثبات أحكام الشريعة الإِسلامية، وأنه ليس "للعقل" مطلقاً أن يقدم بين يديها لا بالنسخ ولا التغيير ولا التبديل، بل هو محكوم بحكمها خاضع لسلطانها.

ونثبت ذلك -هنا- بعدة أدلة - مبينين أن من لم يدرك ذلك وقع لا محالة في تيار البدع الذي لم ينقطع (1) ولا يخرجه منه إلا أن ينسلخ من آثار

(1) البدع عند فقهاء أهل السنّة تنقسم إلى ما هي كفر مخرج وإلى ما ليس بكفر مخرج وإلى ما هو مختلف فيه هل هو كفر مخرج أم لا، الاعتصام 2/ 37.

وباعتبار هذه القسمة قلت أن تيار البدع لم ينقطع وذلك بأقسامه الثلاثة، ومن هنا تتضح خطورة البدع لا على أنها خلاف في بعض المسائل العقائدية -كما هو شأن الفرق- =

ص: 285

المسالك الفاسدة قديماً وحديثاً، وبعد أن أعدت ورددت قاصداً التنبيه على خطورة هذه المسالك على ثبات الشريعة أعرض الأدلة على بيان فساده والله المستعان.

أولاً: ما قرره فقهاء أهل السنّة والجماعة من أن العقل لا يستقل بالتحسين والتقبيح وأنه لو فرض كذلك لأدى ذلك إلى إبطال الحدود التي حدها الشارع، وإذا أبطل حد واحد جاز إبطال السائر لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله، وهذا مؤد إلى إبطال الشريعة، وهو باطل قطعاً (1)"وعامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح فهو عمدتهم وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع فهو المقدم في نحلهم بحيث لا يتهمون العقل، وقد يتهمون الأدلة إذا لم توافقهم في الظاهر حتى يردوا كثيراً من الأدلة الشرعية"(2).

ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى وهو خالق العقل الإِنساني قد جعل للعقول حداً لا تتعداها، فهي لا تدرك كل شيء، ولو أمكن أن تدرك كل شيء وتصل إلى كل ما تطلبه لاستوت مع الباري سبحانه .. فإن علمه سبحانه لا يتناهى ولا يحصره شيء.

ولكن المحسوس المشاهد أن العقل لا يدرك كل شيء ولا يصل إلى كل ما يطلبه ومعلوماته تتناهى، وهو مخلوق من المخلوقات قد جعل الله له حداً ينتهي عنده (3).

= فحسب، بل زيادة على ذلك هي خلاف للإِسلام جملة وتفصيلاً .. وهنا تدخل جميع الذاهب الفكرية المعاصرة أمثال العلمانية والوجودية والشيوعية .. باعتبار أنها من القسم الأول، وقلت هنا أنها مخالفة جملة وتفصيلاً .. لأن ما أخذته من الإِسلام، ووافقت عليه إنما كان اختياراً منها وحكماً من لدنها فيعتبر من تلك المذاهب لا من الإِسلام، تماماً كما أخذ الإِسلام بعض الأحكام من الجاهلية وأدخلها تحت حكمه فإنها تنسب إليه لأنه لو لم يحكم بصحتها لم تصح نسبتها إليه، وهي بهذا الاعتبار منه وليست من غيره.

(1)

الموافقات: المقدمة العاشرة 1/ 49.

(2)

الاعتصام 1/ 144.

(3)

انظر فصل العقلانية "من كتاب مذاهب فكرية معاصرة ص 500.

ص: 286

فالله سبحانه يعلم كل شيء على التمام والكمال.

{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1).

وقد كفر كبار المدافعين عن منزلة "العقل" بقدرة العقل البشري على معرفة طريقه في الحياة الدنيا وتحديد الصراط المستقيم الذي يفرق بين الحق والباطل.

فهذا الإِمام الجويني في القرن الخامس الهجري يكفر بمخلفات الفلسفة اليونانية التي هي نتاج العقل اليوناني ويصرح بأنه لا يمكن أن يدرك خيط النجاة إلّا بالبراءة من ذلك كله (2).

وهذا الإِمام الغزالي - الذي دخل في بطن الفلسفة العقلية وما قدر أن يخرج منها كما يقوله تلميذه ابن العربي المالكي - يموت في آخر حياته وهو ملازم لكتاب البخاري معرضاً عن كل تلك المخلفات الفلسفية التي ورثها العقل البشري (3).

(1) سورة يونس: آية 61.

(2)

يقول رحمه الله: "لقد قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً ثم خليت أهل الإِسلام بإسلامهم فيها، وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم وغصت في الذي نهى أهل الإِسلام عنه (يقصد علم الكلام) كل ذلك في طلب الحق وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق .. " انظر مقدمة غياث الأِمم 12 - 13، والكلام واضح لا يحتاج إلى تأويل والذي ينبغي على المتأخرين هو الأخذ بوصية هذا الإِمام ومن فوائد الأخذ بها الإِعراض عن كل ما ورثه علم الكلام.

(3)

انظر الإِمام الغزالي والتصوف 429 وفي هذا الكتاب بحث جيد عن اتجاه الغزالي ومواقفه من علم الكلام والتصوف وبيان تنقله في هذه المذاهب وذمه لعلم الكلام وتحذير الناس منه والشهادة عليه بأنه مخالف لطريقة السلف ورجوعه أخيراً عن طريقة الصوفية وموته رحمه الله وصحيح البخاري على صدره بعد أن اشتغل بالحديث كما ذكر ذلك بعض تلامذته ونقله شيخ الإِسلام ابن تيمية، وقد أحسن الأستاذ عبد الرحمن دمشقية في بيان العبرة من رجوع الغزالي رحمه الله وهي تصحيح كتبه والتحذير من طرق الكلاميين وطرق الصوفية. انظر 419 - 433.

ص: 287

وأما الجاهلية الحديثة فهذا أكبر أطبائها وحكمائها الدكتور "ألكسيس كاريل" يشهد على قدرات العقل البشري - الذي يعتبر الآن في أقوى أطواره - فيقول: "وواقع الأمر أن جهلنا مطبق، فأغلب الأسئلة التي يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب، لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنية ما زالت غير معروفة .. "(1)"إننا ما زلنا بعيدين جداً من معرفة ماهية العلاقات الموجودة بين الهيكل العظمي والعضلات والأعضاء ووجوه النشاط العقلي والروحي .. كيف نستطيع أن نحول دون تدهور الإِنسان وانحطاطه في المدنية العصرية؛ وهناك أسئلة أخرى لا عداد لها يمكن أن تلقى في موضوعات تعتبر على غاية الأهمية بالنسبة لنا، ولكنها ستظل جميعاً بلا جواب، فمن الواضح أن جميع ما حققه العلماء من تقدم فيما يتعلق بدراسة الإِنسان ما زال غير كاف، وأن معرفتنا بأنفسنا ما زالت بدائية في الغالب"(2).

فهل يزعم هؤلاء الكتاب الذين مجدوا العقل قديماً وحديثاً أن قدراتهم العقلية أضخم من قدرات العلم الحديث الذي بلغ في هذا العصر ما لم يبلغه في أي عصر من العصور، وما زال -كما قال- إلكسيس كاريل - يجهل كثيراً من قطاعات النفس البشرية .. ، هذه هي قدرات "العقل" يحددها "العلم الحديث" ويشهد بعجزه عن الكثير مما نحتاج إليه .. كما شهد علماء أهل السنّة من قبل بعجزه عن إدراك مصالح الناس في الدنيا والآخرة (3) وأنه لا بد له من قائد يقوده ومن معلم يعلمه وهذا القائد والمعلم هو "الوحي".

ولذلك نقول إن العقل إما أن يحتكم إليه ويتربى على مبادئه العقائدية وأحكامه الجزئية، فهو حينئذ العقل الراشد المؤمن بالله ورسله وكتبه.

وأما أن يند عن حكم الوحي ويتقدم بين يديه فهو حينئذ العقل الجاهلي

(1) الإنسان ذلك المجهول 17 - تأليف الدكتور ألكسيس كاريل - تعريب شفيق أسعد فريد - مكتبة المعارف - بيروت - الطبعة الثالثة.

(2)

المرجع نفسه 18 - 19.

(3)

سيأتي تفصيل ذلك عند دراسة المصلحة وقضية الثبات والشمول إن شاء الله.

ص: 288

المتمرد على الله ورسله وكتبه، والعقل الراشد مستنير بالوحي، يجيبه الوحي عن كل ما يحتاج إليه، فيفتح له الآفاق ويؤدبه بأحكام الشريعة ويجعل بينه وبين كل حكم يخالفها حداً محدوداً وحجراً محجوراً.

وأما العقل الجاهلي المتمرد فقد لج في الظلمات وأخذته الحيرة من كل وركان ولم يستطع أن يجيب على ما تحتاجه البشرية بل عجز وثبت عجزه وانكشف وهو في أعلى قمة له في العصر الحديث، وسيكون ذلك هو شأنه، لأن هذه هي طبيعته ولن يكون نظيراً للوحي أبداً، وما ينبغي له وما يستطيع، وعلى الذين لا يزالون يمجدون العقل البشري أن يدركوا الفرق بين "العقل المؤمن الراشد" وبين "العقل الجاهلي المتمرد" وحينئذ سيعلمون أن العقل لم يستحق أي تقدير إلا من بعد أن أذعن للوحي واتبع كل ما جاء به.

وعليهم حينئذ أن يتبعوا الوحي، في كل ما جاء به بلا استثناء، وأن يُعَبّدوا عقولهم لأحكامه في رضى وقبول واستسلام.

ولا يمكن بحال من الأحوال أن يظن في العقل خيراً ورشداً إن لم يتبع الوحي في العقيدة والشريعة (1). وهذه حقيقة تاريخية يشهد بها العدو والصديق فإن العرب بل أمم الأرض كلهم قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تنفعهم عقولهم ولم تدلهم على مصالحهم - لأن العقل وحده لا يحدد المصلحة والمفسدة - فقد كان قويهم يأكل ضعيفهم - كما هو الحال في هذا العصر - وكانت أحكامهم لا تحرم الزنى ولا الربا ولا الخمر - كما هو شائع في هذا العصر - وكانوا جدّ مضطربين متناحرين متباغضين فقد قسمتهم أهوائهم إلى قبائل وأمم متناحرة وطبقات يأكل بعضها بعضاً كما هو الحال في كل زمان أعرض عن حكم الله ورسوله، وذهب يترجى الهداية - بزعمه - عند العقل البشري الذي لا يتبع الوحي.

(1) أما في أمور المادة فقد أمره الإِسلام بالإِكتشاف والبناء وبقدر ما يتقدم في ذلك يكون ممدوحاً، وليس عليه من شرط إلّا شرط واحد - حتى وإن تمكن من العلم أكثر مما هو عليه الآن - وهذا الشرط هو أن يحكم إنتاجه بهذه الشريعة الربانية.

ص: 289

ولعل في هذه التذكرة ما يعرِّف بحقيقة "العقل البشري" وأنه إن لم يتبع الوحي حذو القذة بالقذة سيكون وبالاً على البشرية كما هو الحال عند العرب قبل البعثة وكما هو الحال في هذا العصر الذي كثر فيه إنتاج العقل البشري الذي لا يتبع الوحي، فقد انتج "العلمانية" و"الرأسمالية" و"الشيوعية" و"الوجودية" و"القومية" كما أنتج من قبل الفرق الضالة التي بلغت اثنين وسبعين فرقة، وما زال يقدم للجاهلية الحديثة مذاهب جديدة، كلما كفر بمذهب آمن بمذهب آخر .. والذين مجدوه ما زالوا ينتظرون منه مزيداً من العطاء.

ولعل هذا التخبط والضياع يكون سبباً عند كثيرين لإِعادة تقييم مواقفهم من "العقل" الذي اتبعوه .. ولعلهم يرجعون إلى الوحي "كلام الله":

{الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1).

فيؤمنوا به فتخبت له قلويهم وحينئذ تخرج البشرية من ظلمات العقل الكافر بما أنزل الله إلى نور الوحي يتبعه العقل المؤمن الراشد فيقود أهله إلى المصالح كلها ويحول بينهم وبين المفاسد كلها:

{وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2).

مثال تطبيقي آخر:

وبه نزداد إدراكاً لخطورة هذا المسلك لنحذر منه ألا وهو اتباع العقل والمتشابه.

تحدث بعض الكتاب عن "الحكم الإِسلامي" فزعم أن الإِسلام قد أعطى الناس حق الحكم بأي نظام في العالم ما دام قد رأوا أنه يحقق لهم مصالحهم. وإن كان اشتراكياً وإن كان علمانياً .. أو أي نظام حادث مما أنتجته العقول البشرية.

(1) سورة طه: آية 50.

(2)

سورة البقرة: آية 213.

ص: 290

يقول: علي عبدالرزاق في كتابه الإِسلام وأصول الحكم (1)، يقول: "والحق أن الدين الإِسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة.

كما أن تدبير الجيوش الإِسلامية وعمارة المدن والثغور ونظام الدواوين لا شأن للدين بها، وإنما يرجع الأمر فيها إلى العقل والتجريب، أو إلى قواعد الحروب، أو هندسة المباني وآراء العارفين.

لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجته العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم" (2).

وهذا المذهب الذي يدعوا إليه المؤلف مؤد قطعاً إلى تغيير الأحكام الإِسلامية أصولاً وفروعاً، فهو من جهة يزعم أن الإِسلام لم يأت بنظام للحكم لأن الخلافة لا وجود لها في الإِسلام لأنه دين لا دولة، ومن جهة أخرى فإن

(1) يروي فضيلة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية أن هذا الكتاب قد وضعه أحد الأوروبيين الطاعنين على الإِسلام وليس للمؤلف إلا وضع اسمه عليه يقول الشيخ: "

لأنه علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس له فيه إلّا وضع اسمه عليه فقط، فهو منسوب إليه فقط، ليجعله واضعوه من غير المسلمين ضحية هذا العار، وألبسوه ثوب الخزي والعار إلى يوم القيامة" وقد أكد الدكتور الريس هذا الخبر بعدة أدلة قوية فانظرها من ص 174 - 184، الإِسلام والخلافة في العصر الحديث نقد كتاب الإِسلام وأصول الحكم الطبعة الأولى 1393 هـ - الناشر العصر الحديث ببيروت.

(2)

الإِسلام وأصول الحكم 201 نقد وتعليق الدكتور ممدوح حقي، منشورات دار مكتبة الحياة - بيروت 1978 م.

ص: 291

القوانين التي نصت عليها شرائع الإِسلام واستنبطها الفقهاء من نصوص تلك الشرائع يمكن أن نقدم عليها أي نظام آخر من أنظمة الأمم الأخرى ونستبدل ما تدعوا المصلحة إلى استبداله حتى ولو اتبعنا أحدث ما أنتجته العقول البشرية.

ولست بحاجة إلى مناقشة المؤلف في دعواه هذه، فقد وقف العلماء من أقطار كثيرة موقفاً معيناً من هذا الكتاب، أشير إليه تنبيهاً للقارئ، والحاجة ماسة بعد ذلك إلى بيان منهج النظر الفاسد الذي اتبعه المؤلف ويتبعه كل من يقول أن الإِسلام دين لا دولة، وسنؤكد من خلال هذا المثال التطبيقي على خطورة هذا المسلك الفاسد وهو اتباع حكم العقل المخالف للشرع وكيف أدى بأصحابه إلى الدعوة إلى تبديل الأحكام الجزئية بل والمفاهيم العقدية.

وسأحاول معالجة هذه القضية من زاوية خاصة وبطريقة أحسبها جديدة، مع شدة ارتباطها بموضوع البحث مع الإِشارة إلى بعض الردود على هذا الرأي من ذلك ما كتبه بعض العلماء والباحثين في الرد على هذا الرأي وقد تمثل ذلك في كتب كثيرة (1)، تتقدمها فتوى لكبار العلماء قضت "بإخراج الشيخ علي عبد الرزاق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب "الإِسلام وأصول الحكم" من زمرة العلماء"(2).

(1) منها: "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم"، للشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر السابق، و"الإِسلام والخلافة في العصر الحديث""نقد كتاب الإِسلام وأصول الحكم" الدكتور ضياء الدين الريس، و"نقد علمي لكتاب الإِسلام وأصول الحكم" محمد الطاهر بن عاشور، و"بحث في كتاب الاتجاهات الوطنية" لمحمد محمد حسين، ج 2/ 85، وما بعدها - دار النهضة - الطبعة الثانية، وكتب ومقالات أخرى.

(2)

كتاب حكم هيئة كبار العلماء في كتاب الإِسلام وأصول الحكم، ص 32 عن رسالة ماجستير "الإِمامة عند أهل السنّة والجماعة للأستاذ عبد الله الدميجي مخطوط بجامعة أم القرى - المكتبة المركزية، وفيها ردود على القائلين بفصل الدين عن الدولة وبيان موقف الإِسلام من قضية الخلافة.

يقول الدكتور الريس عن آراء علي عبد الرزاق التي احتواها الكتاب "أنها هدم لكثير من =

ص: 292

وأذكر هنا بعض الأدلة الدالة على أن الإِسلام ألزم الناس عامة بالحكم والتحاكم إلى أحكامه وشرائعه، ودعاهم إلى إثبات صدق إيمانهم بالله عن طريق الالتزام بشرائعه ونصرتها والبراءة مما يخالفها، ومن هذه الأدلة التي وردت في القرآن:

(أ) قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1).

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2).

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3).

فمن قال أن الحكم بما أنزل الله ليس لازماً فهو داخل تحت هذه الأوصاف.

(ب) وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4).

وهذا الوصف القرآني الذي وصف الله به عباده المؤمنين يحدد مهمتهم بوضوح وهي التمكين لهذا الدين في الأرض وإقامة شرائعه وتطبيقها أمراً

= مقومات الإِسلام والمجتمع الإِسلامي، وأنها دعوة ما كان يمكن أن يقول بها مسلم، فضلاً عن عالم وشيخ من خريجي الأزهر، وقاض يحكم بهذا الشرع الذي صار ينكره فيما ينكر القضاء كله، ويريد أن يشوه طبيعة الإِسلام فيبطل جانبه العملي، فلا يكون له أثر في تحقيق مصالح الناس أو في نظم المجتمع" 170، الإِسلام والخلافة في العصر الحديث".

(1)

سورة المائدة: آية 44.

(2)

سورة المائدة: آية 45.

(3)

سورة المائدة: آية 47.

(4)

سورة الحج: آية 41.

ص: 293

بالمعروف - كالدعوة إلى التوحيد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتطبيق الحدود ونشر الفضيلة - والنهي عن المنكر - وذلك بالنهي عن الشرك والنهي عن قتل النفس والزنى وجميع الموبقات، والنهي عن أكل أموال الناس بالباطل - وهي القاعدة التي يقوم عليها كل اقتصاد غير إسلامي، ومجاهدة المفسدين في الأرض إقامة للعدل وإعلاء لكلمة الله. والتمكين لهذا الدين عقيدة وشريعة يحتاج إلى سلطة تحكم بما أنزل الله.

(ج) ومنها ما ورد في ذم الزاعمين للإِيمان المريدين للتحاكم إلى أحكام الجاهلية ووصفهم بالنفاق وعدم الإِيمان، يدل على ذلك قوله تعالى في سورة النساء:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (1).

إلى قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2).

يقول سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم: "إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل:

(1) سورة النساء: الآيات 60 - 61 - 62.

(2)

سورة النساء: آية 65.

ص: 294

{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1).

ولفظ "شيء" نكرة في سياق الشرط وهو قوله جل شأنه: {فإن تنازعتم} للعموم فيما يتصور التنازع فيه جنساً وقدراً ..

وكما دل لفظ "شيء" على العموم في جميع ما يتصور فيه النزاع فكذلك توله سبحانه: {فيما شجر بينهم} ، "فإن اسم الموصول مع صلته من صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وذلك العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدر، فلا فرق بين نوع ونوع كما أنه لا فرق بين القليل والكثير"(2).

فالأمر بالتحاكم في جميع ما يقع عليه التنازع والمشاجرة قل أو كثر لا فرق بين نوع ونوع، فيدخل في ذلك كل جزئية من الوقائع والأحداث في جميع شؤون الحياة العامة والخاصة فكيف يقال أن أكبر قطاعات الحياة وهي القطاعات التي تشرف عليها الدولة من تطبيق الأحكام على جميع نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أن هذا لا يدخل في شريعة الإِسلام وليس لازماً للدولة ولها أن تطلبه من حيث شاءت.

ولى معنى الآيات السابقة قوله تعالى:

{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (3).

وهذه الآيات دالة على أمور منها:

الأول: أنهم قالوا أنهم مؤمنون بما أُنزلَ على محمد عليه الصلاة والسلام

(1) سورة النساء: آية 59.

(2)

تحكيم القوانين 2 وما بعدها.

(3)

سورة النور: آية 47.

ص: 295

من القرآن وبما أنزل على الأنبياء من قبله، فهم قائلون:"أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".

الثاني: أنهم قالوا بأنهم طائعون لله ورسوله "وأطعنا".

الثالث: أنهم يتحاكمون فعلاً إلى بعض أحكام الإِسلام:

{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (1).

الرابع: أنهم فيما يعرضون عنه من الأحكام يزعمون التوفيق بينه وبين ما يخالفه:

{إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (2).

فصفة هذه الطائفة أنها تقول: "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقول أنها طائعة لله ورسوله، وتتحاكم فعلاً إلى بعض الأحكام وتعتذر عن إعراضها عن البعض الآخر بأنها تريد الإِصلاح والتوفيق". ويلاحظ أنها لا تنفي لزوم التحاكم إلى الله ورسوله!! فنزل البيان القرآني بحكم الله فيهم متمثلاً في هذه الآيات: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} {ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين} (3).

وفي هذه الآية دلالة أي دلالة في لزوم التحاكم إلى شريعة الله ووجوب الإِعراض عما يخالفها وأن كل هذه الدعاوى التي تقال لا تقبل عذراً عند الله عز وجل ولا عند المؤمنين.

ولقد دخل القائلون بفصل الدين عن الدولة والداعين إلى التحاكم إلى

(1) سورة النور: آية 49.

(2)

سورة النساء: آية 62.

(3)

تفسير ابن كثير 1/ 521 وما بعدها 3/ 299.

ص: 296

أي نظام غير إسلامي قد دخلوا في - الأوصاف التي اتصفت بها تلك الطائفة وازدادوا وصفاً آخر ألا وهو: القول: "بأن التحاكم غير لازم أصلاً".

مقارنة علمية:

وهذه مقارنة بين هذه المقالة وما تنص عليه من عقيدة وبين العقيدة التي حذر القرآن منها.

ونضع هذه المقارنة أسوة بالبيان القرآني الذي حض على كشف الشبهة وكشف باطل المبطلين.

والمقارنة بين هاتين المقالتين من وجهين:

الأول: أن هؤلاء متعجبون من أن ينزل الله في سورة من سور كتابه آيات يأمر فيها بإخضاع الدولة لحكمه وأمره.

والطائفة التي سبقتهم يتعجبون من أن ينزل الله سورة يذكر فيها وجوب القتال، فهؤلاء متعجبون من حكم واحد، وأولاء متعجبون من نظام الحكم الإِسلامي كله.

الثاني: أن المتعجبين من أن الدولة يجب أن تخضع لحكم "الدين" قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله من أصحاب النظريات الجاهلية - أوروبية وغير أوروبية - قالوا سنطيعكم في أكثر الأمر وذلك بدعوة المسلمين أن يبنوا "نظام حكومتهم على أحدث ما أنتجته العقول البشرية .. ".

والذين من قبلهم قالوا: {للذين كرهوا ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر} .

وعلى كل قائل بهذه المقالة أو داع إليها أن ينصت إلى البيان القرآني ليعرف ماذا يترتب على مقالته تلك، يقول الله تعالى عن موقف تلك الطائفة:

{لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ

ص: 297

فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} (1).

ومن هذه الآية يعلم وجه المقارنة في الأمر الأول فهم يتعجبون أن ينزل الله سورة فيها ذكر القتال، وهؤلاء الذين نحن بصدد مناقشتهم يعجبون أن ينزل الله شريعة وأحكاماً تخضع لها الدولة.

{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} (25)

ويقول تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} (2).

ووجه المقارنة في الأمر الثاني ظاهر .. فليحذر كل من يقول بتلك المقالة من هذا المصير المحتوم .. ولا يفتري على الله الكذب .. ومن تاب فإن الله يتوب عليه.

ومن نافلة القول: أن نذكر بأن الحياة لا بد لها من أفراد والأفراد لا بد لهم من أسر والأسر لا بد لها من أحكام، وهؤلاء لهم أحكام خاصة وعامة، ولا بد أن يعيش هؤلاء في مجتمع تكون له صبغة معينة وتحكمه تلك الأحكام في الأموال والأعراض والدماء .. وهذا المجتمع له علاقات مع المجتمعات الأخرى .. وهذه العلاقة تحكمها أحكام معينة أيضاً وهكذا تبنى الحياة الدنيا .. ثم ينتقل الناس إلى الحياة الآخرة ..

فهل كل هذه الأحكام تركها الله سبحانه لحكم العقل لأن الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة!؟

وفي الحق أنه لا يمكن لأحد وهو يعلم تلك الأقسام الخاصة بطبيعة الحياة

(1) سورة محمد: آية 20.

(2)

سورة محمد: آية 26،25.

ص: 298

الدنيا .. أن يقول أن الشريعة لم تنزل بشيء من ذلك وأن هذه الدنيا عند الله أهون من أن ينزل لها أحكاماً لتطبق فيها .. لأن هذا الاعتقاد مخالف لأبسط البديهيات ..

وليس السبب في هذا الانحراف هو السعي إلى التقدم كما يزعم له أصحابه، وإنما السبب هو عبادة غير الله سبحانه .. وقد عُبد العقل الإِنساني من دون الله، عبدته أوروبا وانتقلت لنا هذه العدوى (1) .. وليس لهذه العبادة من فائدة عند هؤلاء إلا إبعاد الحياة الدنيا عن الدين وإخضاعها لأحكام العقل يشرع لها ويبدئ ويعيد بلا ند ولا شريك ولا ظهير.

وهذه العبادة وإن كانت للعقل في بداية الأمر لكنها تنصرف إلى عبادة الإِنسان لطائفة خاصة تزعم أن لديها القدرة العقلية لسن الشرائع والأحكام التي تحكم حياة البشر في الدماء والأموال والأعراض .. والثقافة والاجتماع والعلاقات العامة .. ولا تحتاج هذه الطائفة التي أعطت نفسها حق التشريع من دون الله أن تستند إلى شبهة مؤلف كتاب "الإِسلام وأصول الحكم" التي ناقشناها آنفاً بل الأمر عندها أبعد من ذلك.

فهذا الدكتور آصف علي فيظي الإِسماعيلي يقول في بحث له بعنوان "القانون الإِسلامي واللاهوت في الهند" إن: "مصدر القانون والدين كليهما في الإِسلام هو الله" ثم قال: "إن البحث النقدي الحديث لهذا الموضوع يجب أن يبدأ بمناقشة المعتقد اللاهوتي الذي يقول: إن الله هو واضع القانون وذلك من جهته التاريخية والفلسفية، ويجب أن يوضح السر في أن القانون عند الساميين اعتبر ذا أصل سماوي، وماذا كانت النتائج التي ترتبت على ذلك بعد، وكيف أن الجماعة الإِسلامية تحت تأثير نظريات القانون الحديث والنظريات السياسية

(1) انظر شيئاً عن الجهد الذي بذله المستشرقون لتصدير هذه الفتنة إلى العالم الإِسلامي في كتاب موقف المستشرقين .. من ثبات الشريعة وشمولها.

ص: 299

والتطور الثقافي والعلاقات الدولية - يجب بالتدريج - أن تشير إلى تمييز (1) واضح بين القانون السماوي "الشريعة" والقانون الدنيوي "القانون" وأن تصل إلى استخدام ناقد صحيح للفقه، من هذه الزاوية، إن بحثنا هذا ليس عرضاً تاريخياً، ولكنه مجرد محاولة لإِبراز اتجاه هندي حديث لمعالجة معضلة مزمنة، إنه محاولة لاستخدام مبادئ القرن العشرين القانونية والتاريخية في فهم المعضلة الأساسية في الإِسلام ولاقتراح طريقة تمهيدية لنقد حديث للشريعة" (2).

فهذه هي آثار النظرية الأوروبية "الجاهلية" التي تنص أن الله ليس له حق وضع الشريعة وإلزام الناس بها، وتثبت هذا الحق لغيره سبحانه .. وتراهم في كثير من عباراتهم يستندون إلى حكم العقل في إعطاء هذا الحق لغير الله، هذا هو أصلهم الذي يدافعون عنه ويدعون الناس إليه (3).

فقد حكم هؤلاء البشر المخلوقون على ربهم بأنهم أحق منه - وهوخالقهم - بوضع الشريعة والقانون لأنهم بزعمهم أعلم بمصالحهم وأحوال أزمانهم.

وباعتبار هذا الأصل العقائدي عندهم وتفريعاً عليه حكم العقل بوجوب نقد الشريعة الإِسلامية - والناقد لا بد أن يكون أقدر على معرفة الصواب .. أو المفروض فيه أن يكون كذلك - فحكمت هذه الطائفة بأن الله ليس له حق وضع الشريعة .. وما وضعه وشرعه لا بد من نقده وإعادة النظر فيه .. هكذا تمردت هذه الطائفة على ربها وكفرت به وافترت عليه ما ليس لها به علم:

(1) من حق الإِسلام على أنصاره أن ينادوا بتمييز واضح بين حكم الله .. وحكم الجاهلية - والجاهلية كل حكم غير حكم الله - فهو الجواب الشافي .. والجهاد الحقيقي لهؤلاء الذين ينادون من جهتهم بتمييز واضح بين القوانين الوضعية وبين الشريعة الإِسلامية وإخضاع الشريعة لسيطرة القانون النقدية .. !!!

(2)

نقلاً عن كتاب الإِسلام والحضارة الغربية 154.

(3)

ولذلك قدمت لهذه الرسالة بتمهيد بينت فيه عقيدة الإِسلام في قضية الشريع وفي كل موضع مناسب تأكيد لها وتذكير بها.

ص: 300

{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (1).

ولو أن أصحاب هذه المقالة يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى هو أعلم بمصالحهم وأحوالهم وحاجياتهم، وهو الحكيم الذي تنزه عن الظلم، وهو الذي كتب على نفسه الرحمة فأرسل رسله وأنزل كتبه وآخرها القرآن فجعله حجة على الخلق إلى يوم القيامة -ومعه السنة- وأنه سبحانه له الأمر كما أن له الخلق، ولا أمرَ بأمرٍ ولا نهى عن شيء وإلا فيه مصلحة للناس إلى يوم القيامة .. لو كان هؤلاء يؤمنون بهذا لما أوقعهم الشيطان في هذا التمرد على ربهم وخالقهم، وفي بعض هذا البيان كفاية لكشف السبب الذي حمل هؤلاء الذين يتكلمون باسم الإِسلام عن الإِسلام حتى حجروا عليه من أن يتدخل في أهم مركز وأعظم موقع ألا وهو "الدولة" وحكموا على أكثر شرائعه بالِإبطال والتغيير والتبديل (2) .. وأطاعوا الذين كفروا في أكثر الأمر.

ولما كان أمثال هؤلاء الكتاب في مأمن من أن تكشف أسرارهم ويطلع البحث العلمي عليها .. حتى أنهم لما أمنوا لم يزدادوا إلا إصرارًا على مسالكهم هذه .. وأصبح البحث العلمي يتعامل معهم -في كثير من كتاباته- بنوع من التبجيل تارة وبالتأنيب اليسير تارة .. وأحيانًا بالتشديد عليهم بأنهم اتبعوا اهواءهم وأنصتوا لتأثيرات الغزو الفكري الأوروبي .. ولكن هذا الأخير -مع أهميته- قليل فاعله، ولا بد لأهل الحق أن يتواصوا بكشف انحرافهم تحت ضوابط البحث العلمي الذي يلتزم باتباع الدليل والبينة الظاهرة حتى يحال بين شبههم وعوام الناس، فما هلك من هلك إلا بسببهم ولذلك بذلت ما أستطيعه

(1) سورة الكهف: آية 5.

(2)

وهنا شبهة لا بد من إزالتها، ذلك قولهم أن من الخلفاء من فسد ولم يصلح فنقول لهم كما قال الشيخ مصطفى صبري:"إن السبيل إلى علاج هذا الفساد هو تبديل المصلحين بالمفسدين لا تبديل الشريعة والدين" 17 - النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة.

ص: 301

هنا لكشف مسلكهم الفاسد وبيان أن أمثال هذه الآراء لا تحسب على العلم الإِسلامي وأن أصحابها ليسوا ملتزمين بأصول البحث الإِسلامي وأن كل ما نسبوه إلى الإِسلام من أمثال هذه الدعاوى إنما هي من بدع الجاهلية سواء الجاهليات القديمة أو الحديثة (1).

دراسة تطبيقية لبيان أصول الحكم:

من خلال آيات سورة النساء يقول الله سبحانه وتعالى:

{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2).

اشتملت هذه الآية على أصول الحكم في الإِسلام:

1 -

"الله" سبحانه وتعالى هو"المشرع" أي الآمر الناهي وما بلغه رسوله إلى الناس هو "الشريعة" وهي العدل الذي أمر الله به، ويتمثل ذلك في الكتاب والسنة، فالذي يضع "القانون" هو الله والذي بلغه هو رسوله فالطاعة لهما، مطلقًا، والرد إليهما إذا اختلف الناس، وهذا كله موجود في قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} وفي قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} .

2 -

سلطة أرضية تحكم به وتنفذه، وهم أولي الأمر: وذلك في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .

وهؤلاء هم الذين يمثلون "الدولة" أي القائمون بالأمر، يحكمون الدولة

(1) انظر تحكيم القوانين 3.

(2)

سورة النساء: الآيتين 58 - 59.

ص: 302

والأفراد في جميع الأحوال و"العلاقات الخاصة والعامة الداخلية والخارجية" ملتزمين في ذلك كله بـ "الشريعة الإِسلامية".

3 -

"أمة" أو"شعب" تقطن "إقليمًا معينًا" تخضع لهذه السلطة التي تلتزم بتلك "الشريعة"{أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .

فهذه الآية نصت على أصول الحكم، "الشريعة""السلطة الحاكمة""الأمة" وهي آية واحدة -تحدد شكل "الدولة الإِسلامية" التي يسعى الإِسلام لتحقيقها، وهذه دلالة من الناحية الإِيجابية على أصول الحكم في الإِسلام وفي القرآن مثل هذه الآيات وهي كثيرة لا تحصى.

تطبيق آخر:

يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (1).

فالقرآن يصور لنا أصول الحكم الجاهلي وهي:

1 -

واضع القانون: وهوإما أن يكون شخصًا أو جهة تتكون من أشخاص، ويطلق القرآن على هذا "الواضع" لفظ "الطاغوت"(2) وهو كل معبود من دون الله سواء كان فردًا أو جماعة، وسبب هذه التسمية أن التعدي على حق الله سبحانه -الذي جعله لنفسه وهو إنزال الكتب وسن الشرائع- يعتبر مجاوزة

(1) سورة النساء: الآيات 61 - 62 - 63.

(2)

لسان العرب مادة "طغى" 15/ 9.

ص: 303

للحد وهذا هو الطغيان ذلك أن الواضع لا حق له في ذلك، بل الحق الذي عليه هو أن يخضع لما جاء من عند الله.

2 -

السلطة الحاكمة بذلك القانون: وتسمى بالاسم نفسه للسبب نفسه وتكون تارة شخصًا واحدًا كالكاهن، أو مجموعة معينة كزعماء القبيلة أو الحزب.

3 -

الأمة أو الفرد الذي يخضع لهذه السلطة ويبتغي التحاكم إليها عن رضى وطواعية، كما ورد في شأن الرجل الذي نزلت الآية فيه، فهذه الأصول الثلاثة: وهي الجهة التي تضع القوانين والجهة التي تحكم به (1)، والجهة التي تذعن له هي عبارة عن أصول الحكم الجاهلي فها هنا قانون وسلطة وأفراد، وهذه الصورة هي الصورة التي جاء الإِسلام ليرفعها ويحل محلها الصورة الإِسلامية. فبدل أن يعتقد الناس أن واضع القانون هو عقل الفرد أو الأمة أو القبيلة أو الحزب، يجب أن يعتقدوا أن ذلك حق الله سبحانه قد تكفل به، فأنزل "الشريعة" ليخضع الناس لها جميعًا، وبدل أن يعتقدوا أن السلطة التي تقوم على القوانين الأرضية سلطة شرعية يجب عليهم الخضوع لها، أعلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك من الشرك (2)، ونهاهم عنه وأمرهم بإنكاره قدر استطاعتهم.

وأبدلهم بذلك وجوب الخضوع لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، المتمثل في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، واتباع الشريعة بعد مماته والطاعة لأولي الأمر القائمين بها.

(1) قد تكون هذه الجهة "فردًا" ويمكن ذلك في حالات معينة، ولكنه لا يقدر على الالزام لأنه لا سلطة لديه .. فيتقدم له المتحاكم إليه عن رضى وطواعية دون أن يحتاج إلى سلطة تلزمه بالقوة ولذلك كان هذا الصنف يؤدي هذه المهمة بهذا الاعتبار، فالالتزام بالحكم أحيانًا يحتاج إلى سلطة ملزمة وتارة لا يحتاج إلى سلطة ملزمة كما في الصورة السابقة.

(2)

انظر التمهيد.

ص: 304

وبعد الحديث عن حكم الاجتهاد وحكمته وأنواعه وأهم شروطه وضوابطه وبيان أثر ذلك على ثبات الأحكام وشمولها يتبين لنا أنه لا يمكن أن يتحقق شمول في عالم الناس بغير اجتهاد، كما أنه لا يمكن أن يتحقق ثبات واستقرار للأحكام بدون ضوابط لهذا الاجتهاد، وعليه فإن الذي يجب المصير إليه هو القول بأن الاجتهاد فريضة محكمة وسنة متبعة وهو ممكن -من حيث تحقق الملكة والبناء على ما ورثه لنا العلماء المعتبرون في علم الشريعة وعلم العربية، وإن تعذر جمع الأدلة الشرعية جملة لم يتعذر على المخلصين من أهل العلم جمع الأدلة المطلوبة في المسألة التي يراد بيان حكم الله فيها، وإن لم يتمكن أحدهم من ذلك لم تعجز طائفة منهم عن جمعها ومعرفة مقاصد الشارع منها، وليس وراء ذلك إلا القول بتعطيل أحكام الشريعة وإيقاف الاستنباط وهذه جهالة لا يرتضيها لنفسه عاقل.

ولكي لا يقال أن هناك أدعياء كثيرين للاجتهاد -نقول أن الاجتهاد لا بد له من الملكة، ولا يقبل من كل أحد الدخول فيه ما لم تتوفر له، وعلى طلبة العلم أن يبذلوا ما يستطيعون -ولا يدخرون من وسعهم شيئًا لعل الله أن يجعل منهم في مستقبل الأيام من تتحقق فيهم الملكة فيكونون هم الصف الثاني الذي يقوم بهذه المهمة، ومن العلماء المخلصين اليوم من تحققت فيه الملكة فهؤلاء هم أهل الاجتهاد اليوم، أما نحن طلبة العلم فعلينا بذل الجهد وتكفينا المتابعة لأئمة الصحابة والتابعين ومن يتبعهم بإحسان، وفيما ورثوه من العلم كفاية لمن أراد أن يقوم بمهمة التعليم والبيان والدعوة إلى الله، وليختص أهل الاجتهاد بالنظر في المسائل الجديدة، وأيضًا فإن الاجتهاد له ضوابطه التي تفرق بين الصحيح منه والفاسد وتميز بين الذين يتبعون الحق والذين يقعون في آثار المسالك الفاسدة.

ومسيرة الاجتهاد كمسيرة الجهاد والدعوة تحتاج من الصادقين إلى حراسة ولا يمكن أن تُعطل المسيرة لأن أناسًا يخاف من شرهم عليها، فإن هذه المشكلة علاجها معلوم وهو اليقظة التامة لحفظ المسيرة وحراستها من المسالك الفاسدة والآراء الشاذة وكشف زيف المبطلين والمنحرفين وهذا ممكن والحمد لله، ولا تزال طائفة قائمة بالحق، فلتستمر إذًا عملية الاجتهاد، ولتستمر عملية الحراسة وليقم

ص: 305

الصادقون على الجهاد بقدر طاقتهم ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وحينئذ يتحقق وعد الله ونصره بتوفيقه سبحانه وتعود هذه الأمة إلى ما كانت عليه وتحمل رسالتها كما يريد الله لها.

وينبغي أن لا يتضجر الباحثون من كشف الباطل وتميز الحق ولا يملوا ولا يضعفوا لأنهم في واقع الأمر منقسمون إلى ناصر للحق ومدافع عنه، وآخر هو عرضة للنقد -الذي يكون في بعض الأحيان شديدًا لأنه يكشف عن انحرافات خطيرة. نعم لا يتضجر مخلط كتب بقلمه وصاح بعقيرته ثم يقول لم يُقال عني كذا أو كذا ولم ينتقدني فلان أو فلان، لأنا نقول أن من يريد أن لا يصيبه شيء من ذلك فليكف قلمه ولسانه عن الكلام في الدين لأن هذا الدين ليس ملكه، وأولياؤه الصادقون لا بد كاشفون كل فساد بمشيئة الله وعونه، فمن تكلم بغير علم فليتحمل نتيجة عمله وقوله، ونحن لا نريد ممن يتكلم عن الدين أكثر من الرجوع إلى مواطن الإِجماع والوقوف عند المحكم والبعد عن المتشابه والحيطة في الاستدلال والسلامة من الشذوذ وعدم مخالفة ما علم من الدين عقيدة وشريعة، وأن يميز نفسه عن آثار الفرق الضالة قديمًا والغزو الفكري الذي تمثله المذاهب المعاصرة حديثًا، وهذه النصيحة نقدمها للباحثين ونلتزم بها -وخاصة بعد أن تبين لكل بصير ما تؤدي إليه مخالفة هذا الطريق من مخاطر على الكاتب ومن يكتب لهم، وينبغي لكل صادق مع نفسه أن يدعو إليها، لأن ذلك هو الطريق الأعظم للمحافظة على هذه الأمة وإصلاح أمرها وتصحيح العلم الذي يُقدّم إليها، والانتصار للحق المتمثل في الكتاب والسنة والذي حققه في عالم الواقع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضوان الله عليهم -، ويكفينا ويكفي كل باحث عن الحق ومنتصر له أن يتابعهم ويقتفي آثارهم في التعلم والتعليم والاستنباط والاستدلال، والحذر من ترك الاتباع والوقوع في الابتداع، وهو الطريق الأعظم لجمع شتات هذه الأمة، يقول الدكتور سليمان دنيا مبينًا ذلك: وقد كان هدف الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله في وصف الفرقة الناجية: "الذين هم على ما أنا عليه وأصحابي" "أن يجمع شمل هذه الأمة في مستقبلها كما اجتمعت في ماضيها فيكون لها كيان ديني موحد يكون شعارها وعنوانها

ص: 306

ومبعث فخرها ومناط قوتها لا أن يكون كل واحد منها فرقة برأسه يخالف الآخرين ويخالفه الآخرون" (1).

فمن أبى واستكبر عن المتابعة على هذا المنهج -بعد ما تبين له الهدى- فإنما يريد أن يلبس على هذه الأمة أمر دينها ويتبع غير سبيل المؤمنين فلا بد أن يلقى جزاءه ولو بعد حين.

وهذا هو واقع المخالفين عن هذا المنهج قديمًا وحديثًا فيه العبرة لمن أراد أن يعتبر، ونكتفي في هذا المقام بذكر دليل مشهور معلوم عند جميع الباحثين ذلك هو ما كتبه علماء الفرق الضالة -مخالفين هذا المنهج- وقد خلّطوا في أمر العقيدة والشريعة ونشروا أفكار الأمم الضالة داخل هذه الأمة فلم يتلبّثوا إلا قليلًا حتى قيض الله لدينه من يذب عنه ويكشف انحرافاتهم، بعد أن مزقتهم فرقًا وأحزابًا وسلط الله عليهم علماء السنة يردون عليهم بدعهم ويصفونهم بالضلالة كما يستحقون، وهذه كتب السنة من تراجم وعقيدة وأصول وفقه وحديث قد امتلأت بكلام أهل السنة فيهم يحذرون الأمة منهم، فلم يبق لهم والعياذ بالله إلّا الذم بعد أن صالوا وجالوا "ومن سن سنة سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" .. فليتق الله كل صاحب قلم في دينه وفي هذه الأمة "والعاقبة للتقوى".

* * *

(1) الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين: المقدمة 64.

ص: 307