الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفائدة هذا النوع من الاجتهاد إلحاق الفروع التي لم يرد بخصوصها نص معين بما ورد به النص (1).
وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام عن القياس كطريق من طرق الاجتهاد وأثر ذلك على تحقق الثبات والشمول، ونشير في هذا الموضع إلى أن المخالفين في مشروعية العمل بالقياس لم يخالفوا في شرعية الاجتهاد، وإنما قالوا أن القياس ليس طريقًا من طرق الاجتهاد، وما يستنبطه القياسيون من الأحكام يستنبطه هؤلاء بطرق أخرى، وسيأتي بيان الصواب في ذلك في موضعه إن شاء الله.
المطلب الثالث
تحقيق المناط
وهو الأداة العملية لشمول أحكام الشريعة لأفعال المكلفين وذلك أن المجتهد ينظر في وجود الوصف المعتبر المستنبط أو المنصوص عليه في سورة تطبيقه أخرى، فإذا علم مثلًا أن السرقة خفية من حرز قدر نصاب هي الوصف الذي أناط به الشارع الحكم وهو القطع ثم سُئِلَ عن النباش (2) هل هو سارق أم لا؟ نظر، فإن تقرر أنه سارق تحقق مناط الحكم في هذه الصورة وأفتى بوجوب القطع، وإذا لم يتقرر لم يتحقق مناط الحكم فيفتي المجتهد بتخلف الحكم لتخلف مناطه، هذا معنى تحقيق المناط.
وهذا النوع من الاجتهاد لا خلاف بين الأمة في قبوله، ولا ينقطع حتى
(1) الموافقات 4/ 60، المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/ 292.
(2)
النباش هو الذي ينبش القبور، ويأخذ ما فيها من اللباس، والخلاف فيه بين الفقهاء ليس خلافًا في تنقيح المناط وهو وجوب القطع على السارق، وإنما الخلاف فيه من باب الخلاف في تحقيق المناط، فمن قال أن عمله هذا سرقة قال بقطعه بشرطه وهو أن يسرق نصابًا، ومن قال أنه لا يعتبر سارقًا لأن حقيقة السرقة وهي أخذ المال خفية من حرز .. لم تتحقق في عمل النباش لم يوجب قطعه. انظر المسألة في المغني 9/ 131 - 132 وأحكام القرآن لإبن العربي 2/ 611 - 612.
ينقطع أصل التكليف وذلك عند فناء الدنيا (1)، وهو المقصود من وضع الأدلة بلا نزاع (2).
أمثلة: قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3).
في هذه الآية أمر بإشهاد العدل، والعدالة هي مناط الحكم بالشهادة، وعمل المجتهد هو تعيين محلها لأن الناس متفاوتون فيها تفاوتًا كبيرًا، وتعيين العدالة في الشهود كتعيين المسكر من الأشربة يحتاج إلى تحقيق المناط، فإذا نظر المكلف في نوع من أنواع الشراب، قيل له أهذا خمر أم لا؟ فإذا حقق المناط فوجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظر معتبر، قيل له هذا حرام فاجتنبه (4).
وهذا النوع من الاجتهاد ضروري لكل مفت وحاكم، بل ولكل مكلف، فإن المكلف إذا سهى في صلاته فزاد فيها احتاج أن ينظر في هذه الزيادة هل هي كثيرة من غير جنس الصلاة فتبطلها أو يسيرة فتغتفر -وكذلك سائر تكليفاته.
يقول الشاطبي عند حديثه عن بقاء هذا النوع من الاجتهاد: "ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك منزلات على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة فلا يكون الحكم واقعًا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلًا وقد لا يكون، وكله اجتهاد"(5).
(1) الموافقات 4/ 57 ومجموع الفتاوى 22/ 730.
(2)
المصدر نفسه 3/ 19.
(3)
سورة الطلاق: آية 2.
(4)
مجموع الفتاوى 22/ 329 - 330، وانظر أمثلة أخرى في الموافقات 3/ 26 - 27.
(5)
الموافقات 4/ 59، ويقصد الشاطبي بكونه سهلًا في بعض الأحيان أي أنه لا يحتاج إلى النظر في المقدمة النقلية، لأن الناظر قد يأخذها مسلمة في بعض الأحيان فيعتقد أن الخمر حرام ثم ينزل هذا الحكم على نوع من الشراب فيقول مثلًا: هذا خمر فيشمله التحريم، وقد لا يكون سهلًا وذلك إذا احتاج الأمر إلى تثبت، ومن هنا وجب على الناظر وهو يطبق الحكم على الواقع أن يتثبت ويتروى بعيدًا عن الإفراط والتفريط.
وهذا النوع من الاجتهاد يجوز وقوع التقليد في بعض مفرداته، فإن من تحقيق المناط في الأنواع تعيين المثل في جزاء الصيد الوارد في قوله تعالى:
وهذا الجزاء قد عينه المجتهدون من السلف، فجعلوا الكبش مثلًا للضبع، والعنز مثلًا للغزال، والبقرة مثلًا للبقرة الوحشية، والشاة مثلًا للشاة من الظباء، والعناق مثلًا للأرنب" (2).
ومع صحة التقليد في مثل هذا إلا أنه لا يغني عن تحقيق المناط في الأشخاص المعينة، فلا بد من هذا النوع من الاجتهاد لاستمرار التكليف، "لأن الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون"(3)، ومن ثم فإن كل دليل شرعي مبني على مقدمتين إحداهما راجعة إلى تحقيق المناط الذي نحن بصدد الحديث عنه، والأخرى راجعة إلى النقل (4).
وبهذا نعلم مهمة المجتهد، وهي لا تخرج عن تنقيح المناط أو تخريجه أو تحقيقه، وذلك جماع الاجتهاد كما يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية (5).
(1) سورة المائدة: آية 95.
(2)
والعناق: الأنثى من أولاد المعز. المغني 3/ 442 وما بعدها.
(3)
الموافقات 3/ 26.
(4)
يقول الشاطبي: "والمسألة ظاهرة في الشرعيات" ويضيف إلى ذلك اللغويات ومن أمثلتها قولك: "ضرب زيد عمرًا" فإنك اذا أردت معرفة الذي يرفع من الاسمين احتجت أن تعرف من هو الفاعل، فإذا حققت أن زيدًا هو الفاعل حكمت بمقتضى المقدمة النقلية وهو أن كل فاعل مرفوع، ونصبت المفعول 3/ 26 - 27.
(5)
مجموع الفتاوى الكبرى 22/ 329.
والأول والثالث نقلت الاتفاق على وجوب العمل بهما وذكرت من الأمثلة ما يوضح ذلك، وأما الثاني فكما أشرت سابقًا من أن الخلاف فيه إنما هو خلاف على الوسيلة وأما قضية الاجتهاد فمشروعة عند القياسيين وغير القياسيين، وننتقل إلى المبحث الثالث لنتحدث عن أهم شروط الاجتهاد التي بتحققها يتمكن الناظر من المحافظة على ثبات الأحكام الشرعية ويحقق شمولها في واقع المكلفين، والله الموفق والمعين.