الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حق أو باطل، وسأحاول الوصول إلى المقصود دون إغراق البحث بالتفصيلات التي لا حاجة لنا بها.
المطلب الأول
تحرير موضع النزاع
المقصود "بالتغير" في الحكم الشرعي هو انتقاله من حالة كونه مشروعاً فيصبع ممنوعًا، أو ممنوعاً فيصبح مشروعاً باختلاف درجات المشروعية والمنع.
فهذه حادثة حكمها الشرعي المنصوص عليه أو المستنبط كذا، ثم تصبح في زمن آخر تحت حكم مخالف للحكم الأول، هذا هو جملة ما يصوره البحث عند المطلقين لتلك القاعدة أو المقيدين لها (1).
وإلى هنا يبقى كثير من اللبس في تحرير موضع النزاع، أكشف عنه بإضافة أمر مهم جداً ألا وهو النظر في تلك الحادثة التي تغير حكمها هل هي في الحالين سواء؛ هل الحادثة التي أخذت الحكم الأول ثم أخذت الحكم الثاني هي هي بالخصائص نفسها وبجميع الملامح والاعتبارات والحيثيات أم أنها تختلف في خصائصها .. من حالة إلى حالة؟.
وبالجواب عن هذا السؤال ينكشف لنا اللبس الذي أحاط بهذه القضية حتى كثر فيها القول وتشعب ..
إن تلك الحادثة التي تغيّر حكمها إما أن تكون هي هي عند تغيّر الحكم بجميع خصائصها والحيثيات التي تكتنفها، وإما أن تختلف في بعض خصائصها وحيثياتها.
فإن كانت الأولى فنحن ننازع أشد المنازعة في تغيّر حكمها لأن ذلك
(1) انظر محاولة لتحديد معنى "التغيّر" لغة وشرعًا والفرق بينه وبين النسخ في رسالة الماجستير "الفقه والقضاء وأولوا الأمر ودورهم التطبيقي لقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان" إعداد محمد راشد علي - كلية الشريعة والقانون - بالقاهرة ص 8 - 18.
هو النسخ والتبديل المنهي عنهما كما سيأتي بيانه، وإن كانت الثانية فليست في موضع النزاع، لأنها حينئذ حادثتان متميزتان من حيث خصائصهما والاعتبارات التي تحفهما وحادثتان لهما حكمان ليس غريباً ولا عجيباً، ولا يقال له تغيّر ولا تبدل.
فإذا خرجت الثانية عن موضع البحث رجعنا لدراسة الأولى، وهي أساس القول ومحل النزاع والدعوى التي عنون لها أصحابها بقولهم:"تغيّر بعض الأحكام بتغير الزمان" ومقصدهم حادثة وواقعة لها حكم منصوص عليه أو مستنبط تغير حكمها في وقت آخر والحادثة هي الحادثة بجميع خصائصها واعتباراتها ..
فإن قيل كلا لا يتغير حكمها إن لم تتغير خصائصها واعتباراتها، قلت: فإذا تغيرت خصائصها واعتباراتها أصبحت حادثتين لا حادثة واحدة وهذه لا ينازع في اختلاف حكمهما أحد البتة.
ونرجع مرة أخرى لمحل النزاع وننظر في أدلة القائلين بالتغير بعد تصوير مذهبهم ..
وإنما قدمت بهذه المقدمة رجاء أن تُحدد نقطة البحث ويمسك القارئ القضية من أول خيط فيها، ونضرب مثالًا يوضح المقصود، فأقول: قتل زيد خالداً عمداً عدواناً فحكم هذه الحادثة أن زيداً عليه القصاص إن لم يعفوا أولياء الدم، تكررت هذه الحادثة بين رجلين آخرين بالصورة نفسها في أي عصر من العصور، يكون حينئذ الحكم هو القصاص إن لم يعفوا أولياء الدم.
فها هنا حادثتان بخصائص واحدة تحفهما اعتبارات واحدة أخذت حكماً واحداً، ولا سبيل لتغييره أبداً.
خذ الحادثة بطرفيها القاتل والمقتول وافرض وقوعها مرة أخرى لكن بدون عمد ولا عدوان، بل خطأ، يختلف الحكم حينئذ فلا قصاص بل دية مسلمة، ولكن الحادثتين ها هنا مختلفتان فاختلف حكمهما، في الأولى قصاص إن لم يعفوا
أولياء الدم، وفي الثانية لا قصاص بل دية مسلمة إلى أولياء الدم إلّا أن يصدقوا. فلا عجب إذن أن يكون لحادثتين تختلف خصائصهما حكمان مختلفان، وإن كانت الصورة بادئ ذي بدء تبدوا واحدة (1).
وهذه ليست في محل النزاع قطعاً، لأنه لا ينازع أحد فيها على الإطلاق، فحادثتان - وإن كانتا في الصورة واحدة - لكنهما في الجوهر مختلفتان - طبيعي أن يختلف حكمهما.
ونعود مرة أخرى لتحديد موضع النزاع فأقول: إن تغير حكم الحادثة إذا تغير جوهرها وأصبح لها خصائص مغايرة لطبيعتها الأولى أمر طبيعي لا ينبغي أن ينازع فيه أحد.
ويبقى النزاع في تغير حكم الحادثة التي لم يتغير جوهرها ولا شيء من خصائصها وحيثياتها.
نقول هذا ونؤكد عليه لأن هناك خلطًا بين هاتين القضيتين لا يمكن أن نَخْلص من آثاره السلبية إلّا أن ندخل في دراستنا لهذه المسألة من هذا المدخل وحينئذ نستطيع أن نفرّق بين حكم الحادثة الواحدة ذات الخصائص والحيثيات الواحدة، وإن مرت عليها عصور متتابعة - ونجزم بأن حكمها الأول في العصر الأول ينبغي أن يكون هو حكمها نفسه في العصور الأخرى، لأن شيئاً من خصائصها وحيثياتها لم يتغير، وإذا أردنا أن نغيّر حكمها من المشروعية إلى المنع علمنا أنه لا بد لنا من القول بالنسخ، والنسخ ليس لأحد من البشر، وإنما الذي ينسخ الأحكام هو الشارع، وقد انقطع بعد انقطاع الوحي، وبهذا نستطيع أن نفرق بين هذه الصورة - وبين الصورة الأخرى وهي انتقال الحادثة في الزمن
(1) اخترت هذا المثال لوضوحه وأدائه المقصود وستأتي أمثلة كثيرة متصلة بأبواب كثيرة في الفقه الإِسلامي، عند مناقشة أدلة القائلين بالتغيير.
الأول - لتصبح ذات خصائص أخرى تختلف عن خصائصها الأولى وهذه يختلف حكمها ويتغير لأن الأولى تعتبر حادثة مستقلة لها حكم خاص وذلك مثل حكم المؤلفة قلوبهم، وهم نفر من الناس لم يستقر الإِيمان في قلوبهم، جعلت الشريعة لهم حق في مال الصدقة، يتألفهم الإِمام به، ليثبتوا على الإِسلام فَيُسْلِمْ من ورائهم ويسْلَمْ المسلمون من فتنتهم وشرهم، وهذا المعنى لا يخاف منه إلّا عند ضعف الإِسلام وحاجته لنصرتهم ومؤالفتهم، فالنص يوجب إذاً إعطاء هؤلاء المؤلفة لهذا المعنى، فيأتي الإِمام ليطبق هذا المعنى فيجد أمامه حالتين:
الأولى: حالة ضعف الإِسلام، وقوم يحتاجون لهذا التأليف.
الثانية: حالة قوة الإِسلام، وقوم يزعمون أنهم من المؤلفة قلوبهم.
فيطلق حكم الله على الحالة الأولى فيعطيهم سهمهم، ويطبق حكم الله على الحالة الثانية فلا يعطيهم لأنهم ليسوا ممن أمر الله بإعطائهم، وهذا ما يسميه العلماء تحقيق المناط (1).
فهما إذاً حادثتان لكل حادثة حالة خاصة تحتاج إلى حكم خاص ثابت لها لا يتغير، وحادثتان لها حكمان كما قلنا ليس غريباً ولا عجيباً، وكلا الحكمين من الشرع.
ومن خلال هذا التحليل ينكشف لنا خطأ من أراد أن يفرق بين التغيير والنسخ (2)، حيث جعل النسخ حق الشارع، وقد انقطع بانقطاع الوحي، وعلل ذلك بأنه قد يكون النسخ إلى غير بدل، وأما التغيير فيكون إلى بدل، وفرق آخر وهو أن النسخ يمكن أن يكون في جوانب متعددة في الشريعة، وأما التغيير فمحصور في بعض الجوانب كالمعاملات ونحوها، وذلك لأن التغيير هنا
(1) انظر ما سبق ص 232.
(2)
رسالة "تغير الأحكام بتغير الزمان" 18 - 24 - 25.
يكون سببه تغيّر المصالح والأعراف والعادات، فإذا انقطع النسخ لا ينقطع التغيير.
وبمراجعة ما تقدم ذكره يتبين أن هذا التفريق لا ينبني عليه فقه ولا يحمل شيئاً من الصحة.
وندلل على ذلك بما يلي إضافة لما ذكرته آنفاً:
1 -
أن التغير عند المؤلف هو التبديل والتحويل (1)، والنسخ هو التبديل، أي تبديل الحكم الأول بحكم آخر، فالمشروع يُجعل ممنوعاً والممنوع مشروعاً، أو نسخه مطلقاً إلى غير بدل، وهذا تغيير لصفته الشرعية، فبعد أن كان شرعاً صار غير ذلك، فمن جهة المعنى الأصلي لهما لا تجد كبير فرق بينهما.
وقد جعل المؤلف التغيير مضمونه "عبارة عن ترك الحكم الأول إلى الحكم الثاني"(2).
2 -
ما سبق وقد ذكرته من أن تغير خصائص الحادثة لتغير الأزمنة إنما هو عبارة عن تجدد حادثة أخرى غير الحادثة السابقة، وحادثتان لهما حكمان ليس غريباً ولا عجيباً كما أسلفت ولا يسمى ذلك نسخاً ولا تغييراً.
أما أنه لا يسمى نسخاً فظاهر ذلك أن النسخ هو رفع حكم الحادثة نفسها أما إلى بدل - والحادثة هي الحادثة - وأما إلى غير بدل.
وأما أنه لا يسمى تغييراً في الحكم فظاهر أيضاً لأن حكم تلك الحادثة نفسها لم يتغيّر كما قلنا في مشروعية إعطاء المؤلفة قلوبهم، وإنما الذي تغيّر هو طبيعة الحادثة، لتصبح حادثة جديدة لها حكم جديد، ولا يقال هنا تغيّر في
(1) تغير الأحكام بتغير الزمان 10.
(2)
تغيّر الأحكام بتغيّر الزمان 18.
الحكم، وإنما يقال تغيّر في طبيعة الحادثة، لتصبح حادثة جديدة، فالمجموع حادثتان مختلفتان فيكون لهما حكمان مختلفان.
ولم يبق سوى هاتين الصورتين:
• إما أن تكون الحادثة هي هي مع اختلاف الأزمان فلا يمكن تغيّر حكمها إلّا بالقول بالنسخ ولا سبيل إلى ذلك.
• وإما أن تكون الحادثة في الزمن الجديد غير الحادثة في الزمن القديم واختلاف حكمهما حينئذ لايقال له نسخ ولا تغيير، وهنا يتضح ما قلته أن مقابلة النسخ بالتغيير لا ينبني عليه فقه، والقول بأن النسخ قد انقطع والتغيير لم ينقطع لأن هناك فروقًا بينهما ليس صحيحاً.
ومن هنا يتبين موضع النزاع وهو الصورة الأولى والتغيير فيها هو النسخ والتبديل المنهي عنهما.
وأما الصورة الثانية فليست في موضع النزاع ولا ينبغي أن تقترب منه.
وبهذا يتضح لنا السبيل ونحن ندرس هذه المسألة الخطيرة في الدين .. ونستطيع أن نعلم السبب في عدم التفات فقهاء السلف إلى أمثال هذه المقالة، التي أسماها بعض الباحثين "قاعدة"، ذلك أنهم من الفقه والبصيرة، بحيث لا يلتفتون إلى القول بالتغيير، لأنه لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يكون نسخاً وتبديلًا وهذا ليس لأحد من البشر، وإما أن لا يكون تغيراً ولا نسخاً ولا تبديلًا، وإنما هو اختلاف وقائع وتحقيق مناط، ومن هنا نبدأ مناقشة هذه المقالة، لنتعرف على صحة القول بتغيّر الأحكام بتغيّر الزمان، وننظر هل هو قاعدة شرعية، وما هو موقف فقهاء الصحابة وفقهاء السلف منها ونقدم لذلك بذكر أسباب التغيير عند هؤلاء الباحثين، ثم بعد ذلك نفصّل القول في تصوير حقيقة هذه المقالة، ونعتمد في ذلك على أهم الكتب التي انتصرت لها، ثم نناقش ذلك ونتبعه بمناقشة بعض الباحثين فيما نسبوه إلى الإِمامين الجليلين ابن القيم والشاطبي.