الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الاتفاق حكاه في كتابه الاعتصام في معرض شرحه لكلام الإِمام أحمد حيث ذكر أن القياس معمول به عند جمهور المسلمين ثم قال: "بل هو إجماع السلف رضي الله عنهم"(1).
المطلب الثاني
جوابه عن أقوال المعاوضين
ويجيب رحمه الله عن مذهب المعارضين للقياس بجواب سديد حاصله أن جميع الأقوال المعارضة إنما نشأت لأسباب معينة وهي:
1 -
أن المعارضين للقياس حملهم على ذلك وجود بعض الأقيسة مبنية
على غير أساس ومستند شرعي، وكل قول مبني على غير ذلك مردود قطعاً.
وهذه الشبهة موجودة فكم حمل القياس الفاسد صاحبه على السير على غير هدى.
ولذلك جزم الشاطبي أن كل قول مبني على غير أصل شرعي مردود قطعاً (2).
2 -
أما المعارضون له باعتبار أنه اتباع للظن، واتباع الظن مذموم، فيجيب عنه الشاطبي في موضعين:
ففي الاعتصام يقسم الظن إلى ثلاثة أقسام:
الأول: "الظن" الذي هو الشك في أصول الدين، وهذا لا يغني، لأنه ينافي الجزم في الاعتقاد.
الثاني: الظن بمعنى "ترجيح أحد النقيضين على الآخر من غير دليل مرجح" وهو مذموم لأنه اتباع للهوى ولذلك جمع بينهما في الآية:
(1) الاعتصام 1/ 226.
(2)
المصدر السابق 1/ 99.
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} (1).
وهذا هو حكم كل من مال إلى أمر بمجرد الغرض والهوى.
الثالث: ظن على ضربين:
(أ) يستند إلى أصل قطعي وهذا معمول به في الشريعة لأنه مستند إلى أصل معلوم فهو من قبيل المعلوم جنسه.
(ب) ظن مستند إلى غير شيء أصلاً وهذا غير موجود في الشريعة (2).
وفي الموافقات: يقسم الرأي (3) إلى محمود ومذموم:
(أ) المحمود: وهو الجاري على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة، وهو الذي عمل به الصحابة وفسروا به القرآن، ثم قال:"فإطلاق القول بالتوقف والمنع من الرأي لا يصح"(4) ومعنى ذلك أن اجتهادهم - رضوان الله عليهم - مستند إلى الدليل الشرعي أي راجع إلى مجموع المعنى اللغوي والمقصد الشرعي.
(ب) المذموم: وهو الذي لا ينبني على موافقة اللغة العربية والأدلة الشرعية وكان مذموماً لأنه يرجع إلى الافتراء على الله والتقول عليه بلا برهان.
(1) سورة النجم: آية 23.
(2)
المصدر السابق 1/ 136، وبهذا فند الإِمام الشاطبي اعتقاد الضالين المخالفبن للأحاديث، الرادين قول من اعتمد عليها حتى عدوا القول بها مخالفاً للعقل 1/ 236.
(3)
يسمي الشاطبي القياس رأياً. فالأدلة عنده هي الكتاب والسنة والإِجماع والرأي واقتصر في كتابه الموافقات على دراسة الأصلين الأول والثاني، وقال عن الأصلين الآخرين " .. فإن في أثناء الكتاب كثيراً مما يفتقر إليه الناظر في غيرهما" يقصد الكتاب والسنة 3/ 223.
(4)
الموافقات 3/ 286 وانظر ما سبق 173 من تقسيمه للظن إلى قسمين: الأول المستند إلى أصل قطعي، الثاني المستند إلى وهم وظن فهو غير معتبر وإلى ما تردد فيه المجتهد.
وهذا هو الذي ورد ذمه في نصوص السلف (1).
وسَّوى الشاطبي بين النظر في القرآن بالرأي وبين إعمال القياس الفاسد -الذين لا يجريان على موافقة الشرع- فذكر أن السلف كانوا يتحرجون من النظر في القرآن وتأويله كما كانوا يتحرجون من القياس، ثم بين سبب ذلك فقال:
"فإن المحظور فيهما واحد، وهو خوف التقول على الله، بل القول في القرآن أشد فإن القياس يرجع إلى نظر الناظر، والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا أوعنى كذا بكلامه المنزل وهذا عظيم الخطر .. "(2).
وبهذا يتضح مذهب الشاطبي في القول بالقياس (3)، وإطراحه للرأي المذموم.
ونختم طريقة الإِمام الشاطبي بتفصيل ما ذكرته في صدر هذا البحث من أن الشاطبي وسط بين المتعمقين في القياس والصادين عنه.
فاقول: ذكر الإِمام الشاطبي مذهب من نفى القياس جملة وأخذ بالنص على الإطلاق، ومذهب من أعمل القياس على الإِطلاق ولم يعتبر ما خالفه من الأخبار جملة، وعلل الشاطبي بعد الشقة بين هذين الطرفين تعليلاً حسناً في عبارة رصينة وقد سبقت الإِشارة إليها وهي قوله:
(1) انظر ما نقل عن أبي بكر وابن عباس وابن المسيب وابن سيرين ومسروق، وإبراهيم وهشام بن عروة وغيرهم 3/ 286 - 287 الموافقات؛ وانظر ما سبق ص 371.
(2)
المصدر نفسه 3/ 288. ومعنى قوله: "يرجع إلى نظر الناظر" أي أن الناظر يقول هذا ما عرفته عندما نظرت في القياس، فهو اجتهاد منسوب إلى الشريعة من طريق غير مباشر، وأما تفسير القرآن بالرأي فهو اجتهاد بالرأي يقول صاحبه معنى الآية كذا، فالمحظور فيهما واحد وهو في الثاني أظهر وأخطر. فلابد من الاستناد إلى أصل شرعي عند القياس وعند تفسير القرآن.
(3)
يرى الشاطبي أن القياس من حيث هو دليل، قطعي" وجزئ القياس من حيث هو قياس معين العمل به ظني، وهذا لا يقدح في أصل المسألة لانفكاك الجهة - الموافقات 2/ 208.
"فإن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام اطرد له في جملة الشريعة اطراداً لا يتوهم معه في الشريعة نقص ولا تقصير، بل على مقتضى قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (1).
فصاحب الرأي يقول: الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم، وعلى ذلك دلت عموماً وخصوصاً دل على ذلك الاستقراء، فكل فرد جاء مخالفاً فليس بمعتبر شرعاً، إذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر مما لا يعتبر، لكن على وجه كلي عام فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام، لأن دليله قطعي، ودليل الخاص ظني فلا يتعارضان.
والظاهري يقول: الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملاً، ومصالحهم تجري على حسب ما أجراها الشارع لا على حسب أنظارهم، فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإِصابة من حيث أن الشارع إنما تعبدنا بذلك، واتباع المعاني رأي فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر، لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة، والخاص الظني لا يعارض العام القطعي " (2).
ثم قال: فأصحاب الرأي جردوا المعاني فنظروا في الشريعة بها، وأطرحوا خصوصيات الألفاظ، والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ فنظروا في الشريعة بها، وأطرحوا خصوصيات المعاني القياسية، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة" (3).
ثم بين أن الراسخ في العلم آخذ بالطرفين معاً على وجه لا يخل فيه بطرف
(1) وانظر جميل فقه الشاطبي رحمه الله حيث أدرك بثاقب نظره وحسن فهمه أن القياسيين وغير القياسيين مدركون لشمول الشريعة وثباتها، وكل واحد له طريق لذلك حتى أهل الظاهر استطاعوا أن يحققوا شمول الشريعة في واقع الناس فى طرق "الاستصحاب" ولكنهم لم يسلموا من الاضطراب كما لى يسلم منه أصحاب الرأي الذين أفرطوا في القياس.
(2)
الموافقات 4/ 151.
(3)
المصدر نفسه 4/ 151.