الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباحث إظهار زيف هذا الأمر فيوفّر جهده حينئذ على بيان الأسباب التي ساعدت على انتشاره لأن معرفتها معينة على التخلص من آثاره.
وأمر ثالث ضروري أيضًا ألا وهو إدراك الفائدة العلمية على صورة أوسع وأشمل فإن تحديد النشأة يجمع لنا أطراف القضية ويعطينا حجمها الحقيقي، بخلاف ما لو أُخذت من طرفها الأخير فإن ذلك لا يمكن تحقيقه، أضف إلى ذلك إدراك الروافد الفكرية التي غذّت هذه المقالة.
وفي الصفحات القادمة أعرض -ما تمكنت من تتبعه- لتحديد حجم تلك المقالة ونشأتها وأسباب انتشارها وما توفيقي إلّا بالله.
المطلب الأول
حقيقة هذه المقالة وموقف الخوارج والمرجئة منها
إن القول بالظنية يشمل الأدلة النقلية من الكتاب والسنة، وقد انتشرت هذه المقالة انتشارًا واسعًا في أكثر كتب العقيدة وأصول الفقه (1)، ويدخل فيها القول بظنية الأدلة القرآنية والسنة النبوية ما كان منها متواترًا وما كان منها آحادًا.
ولقد تم نقل الاتفاق من الصحابة والتابعين على أن الأدلة النقلية تفيد العلم ونتتبع الآن نشاة الأهواء لنتعرف على يد من نشأت تلك المقالة - ونتجاوز فرقة الخوارج (2) لما ثبت بالأدلة التاريخية المعلومة أن الخوارج أول ما نشأت كانت
(1) على تفاوت فيما بينها فمنهم من يرى أن الأدلة النقلية مطلقًا تفيد الظن ولا تفيد العلم، ومنهم من يرى أن عدم إفادتها للعلم مقصور على العقليات هذا من حيث الدلالة، ومهم من يرى أن المتواتر يفيد العلم دون الآحاد.
(2)
الخوارج هم الذين خرجوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد التحكيم، ومن أصول مذهبهم تكفير مرتكب الكبيرة - وإن لم يستحلها وقتال الأئمة على ذلك، والتبرؤ من عثمان وعلي وأصحاب الجمل، وفرقهم كثيرة ومختلفة، واشتهروا بالجهل بمقاصد الشريعة والشدة والجفاء والتعلق بالنظر الأول بغير تدبر ولا تعقل، انظر مقالات الإِسلاميين لأبي الحسن الأشعري 167 - 168 وما بعدها وأشار المؤلف 168 أن "النجدات" وهي فرقة من فرقهم لا ترى أن كل كبيرة كفر. بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد الطبعة الثانية 1389 هـ مكتبة النهضة المصرية. وانظر كتاب الاعتصام 2/ 206 - 220.
في شغل شاغل بالتكفير والقتال (1) فلم يكن عندهم من الوقت ما يمكنهم من الاشتغال بالفلسفة، وطبيعتهم الخاصة لا تساعدهم على ذلك، فهم كما ثبت في الحديث:"يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم"(2)، وفي هذا إشارة إلى عدم اشتغالهم بالتفكر والتدبر في المعاني الشرعية التي هي قاعدة المنهج الصحيح فإذْ لم يفعلوا ذلك وبعدوا عنه فهم إذًا أشد بعدًا عن النظر الفلسفي، لأن الطريقة الشرعية في التدبر والتفكر سهلة ميسرة، وتقرير مسائل العلم ميسر أيضًا لمن صبر على التعلم والتفقه .. أما مسالك النظر الفلسفي فعلى الضد من ذلك، وكان من صفاتهم بعد ذلك التعلق بالنظر الأول عند تقرير مسائل الدين وعند الحكم على الأحداث والوقائع (3). وذلك هو السبب الأول الذي حملهم على تأسيس قواعد منحرفة، ثم البناء عليها فلم يمكنهم بعد ذلك التصحيح لتزيدهم في الغلو.
ومنها: أنهم أصحاب عبادة وتزهد وعمل دائب لا ينقطع وشدة تفان في نصرة مذهبهم يحقر المحسن عمله مع عملهم (4) وهذا مانع آخر من انشغالهم بالفكر الفلسفي (5).
(1) انظر المصدرين السابقين.
(2)
الحديث أخرجه البخاري من رواية أبي سعيد الخدري قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج في هذه الأمة -ولم يقل منها- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية .. " فتح الباري بشرح صحيح البخاري 12/ 283.
(3)
الاعتصام 2/ 199 - الموافقات 4/ 117.
(4)
كما في حديث أبي سعيد الخدري الذي مر تخريجه آنفًا.
(5)
ذلك أن الفكر الفلسفي يجهد الإِنسان من الناحية العقلية، ويوهمه أنه يحقق ذاته من هذه الناحية فتضعف طاقته البدنية والنفسية عن العمل، وعلى الضد من ذلك طبيعة الخوارج فإنهم - مع كونهم أهل عبادة .. - أغرقوا في التكفير حتى جعلوه محور عقيدتهم وتفكيرهم وأغرقوا أيضًا في القتال -أي بلغوا الغاية فيه، وهذا حال بينهم وبين التدبر والتعقل في إدراك علم الكتاب والسنة ومقاصدهما والتربية على معهود السلف الأول من الصحابة والتابعين وحال بينهم وبين الفلسفة العقلية - كما صنعت المعتزلة - إلا أنه =
بقي أن نفسر مسلكهم في رد السنة ونختار تحليل ابن تيمية لهذا المسلك وذلك قوله بأن الخوارج إنما ردت السنة لأنها تطعن في السند وهم الصحابة - رضوان الله عليهم - (1). وإلّا فإنهم يقبلون خبر الواحد العدل عندهم (2).
ولهذا كله سأعتبر مسلك الخوارج مساعدًا على انتشار تلك المقالة، أما أنها نشأت عندهم فذلك لا أملك عليه دليلًا، وإليك تحليل شيخ الإِسلام لننتقل بعده إلى مرحلة أخرى.
يقول رحمه الله (3): "ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من
يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة (4) حدثوا في آخر خلافة
= لم يستمر طويلًا إذ سرعان ما خف أثر ذلك المانع - لأن النفس لا تطيق الصبر على هذا المسلك - فاحتاج الخوارج إلى الجواب عن اعتراضات كثيرة ترد عليهم - كانوا يردون عليها بالرفض النفسي المطلق أول الأمر - ثم احتاجوا أن يردوا عليها بالعلم فكان أن اتجهوا صوب المعتزلة فتعلموا حينئذ من فلسفتهم وقالوا ببعض عقائدهم وهنا يمكن أن نقول أن طبيعتهم قربت من طبيعة المعتزلة وكان يمكن أن يرجعوا إلى طبيعة السلف الأول لو أخلصوا دينهم لله، ولكنهم قطعوا صلتهم بجماعة الصحابة لما لم يصنعوا ذلك، وما قلته في المتن إنما هو عن أول نشأتهم لا عن ما آل إليه أمرهم.
وانظر في اتباعهم بعض عقائد المعتزلة - مقالات الإسلاميين 1/ 203 - 204.
(1)
وأقول هنا أن ذلك هو صنيع أئمة المعتزلة كما سيأتي بيانه في تراجمهم، وكان يكفيهم أن يسلكوا مسلك الخوارج في رد السنة، ولكن المعتزلة بتأثير الفلسفة اليونانية تجاوزت رد السنة إلى ترك دلالة القرآن باعتبار أنها ظنية، وهنا لا يمكنها الاقتصار على مسلك الخوارج، فلا بد من إضافة بدعة أخرى تمكنهم من نصرة مذهبهم وهي قولهم بانتفاء المعارض العقلي عن النص كتابًا وسنة حتى يمكن أن يفيد العلم وسيأتي بيان ذلك والجواب عنه.
(2)
انظر درء تعارض العقل والنقل 5/ 244.
(3)
المصدر السابق 5/ 244.
وهذا بخلاف المعتزلة - وسيأتي بيان شكهم في الأخبار مطلقًا
…
(4)
الشيعة فرق كثيرة:
وقد قدموا عليًا على صائر الصحابة ثم انقسموا إلى فرق كثيرة الغلاة منها خمس عشرة فرقة. انظر مقالات الإِسلاميين 1/ 65 وما بعدها، وعد الشاطبي الغلاة ثمانية عشرة فرقة. انظر الاعتصام 2/ 219.
علي (رضي الله عنه) والمرجئة (1) والقدرية (2) حدثوا في أواخر عصر الصحابة وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص وششدلون بها على قولهم، لا يدّعون أنهم (3) عندهم عقليات تعارض النصوص (4).
(1) المرجئة هم قوم يؤخرون العمل عن الإِيمان، وأكثر اختلافهم في الإِيمان - انظر فرقهم في مقالات الإسلاميين، وقد ذكر الأشعري الفرقة الأولى أنها تزعم "أن الإِيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ماجاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لها والخوف منه والعمل بالجوارح فليس بإيمان". 1/ 213 - 214 وما بعدها. الاعتصام 2/ 220.
(2)
القدرية هم الذين يقولون إن المعاصي خارجة عن مشيئة الله سبحانه: "قال جماعة من العلماء أصول البدع أربعة .. وهم الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة" الاعتصام 2/ 220 وانظر فرقهم في مقالات الإِسلاميين 1/ 235 وما بعدها، وبدعة القدر هي أصل بدع المعتزلة وعليها تفرعت أهواؤهم. انظر عقيدة إمامهم في شرح العقيدة الطحاوية للقاضي علي بن علي بن أبي العز الدمشقي 252 - تحقيق بشير محمد عون - الناشر مكتبة دار البيان دمشق الطبعة الأولى 1405، والاعتصام 2/ 220 - 221.
(3)
الصحيح "أن" بدل "أنهم" ولعله خطأ من الناسخ.
(4)
ولم يثبت عن أحد من أئمة السلف أنه عارض النصوص لا القرآنية ولا ما ورد في السنة المتواترة أو الأحادية بعقله ورأيه، بل كانوا يعملون بها متواترة وآحادًا ويسلّمون لحكمها ولا يشترطون للحديث أكثر من صحة سنده وسلامته من الشذوذ والعلة ليحتجوا به في أمر الدين وليُثبتوا به الأحكام الشرعية ولا يقولون هذا ظني أو هذا يشترط أن نجده في القرآن ولا يُزاد به عليه إن لم يوجد فيه، بل غاية ما وقع منهم هو ترك العمل ببعض الأحاديث إما لعدم صحة سند الحديث أو لعدم سلامته من الشذوذ والعلة، وهذا أمر طبيعي لأن ما لم يثبت لا يحتج به، وكل ما نقل عن مالك وأبي حنيفة وغيرهم من الأئمة رحمهم الله لا يعدو هذا الذي ذكرته هنا، انظر المواففات 3/ 11 - 12، وقد يخطئ المجتهد في اعتقاده الشذوذ في الخبر كما يخطئ في تصحيح سنده أو تضعيفه وهذا يمكن بيان الصواب فيه عن طريق عملية الاجتهاد ولا نعصم ولا نؤثم، كما قال شيخ الإِسلام. انظر مجموع الفتاوى 20/ 288 - 289 - 290.
ولكن لما حدثت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم المعارضين للنصوص برأيهم ومع هذا فكانوا قليلين مقموعين في الأمة، وأولهم (1) الجعد بن درهم" (2).
وعلى هذا الأساس يمكننا الانتقال إلى النظر في أقوال الجهمية من المعتزلة متتبعين أقوال بعض أئمة الاعتزال المشهورين وهم واصل بن عطاء (3) وأبو الهذيل العلاف (4) والنظام (5).
(1) وهذا النص في معنى الاتفاق السابق المفيد أن الصحابة والتابعين ما كان أحد منهم يقول بأن الشريعة ظنية، بل إن جميع الفرق قبل نشأة المعتزلة يستدلون بالنصوص كل على مذهبه باعتبار أنها تفيد العلم
…
(2)
هو الجعد بن درهم من الموالي، أظهر القول بخلق القرآن وكان قدريًا قتله خالد بن عبد الله القسري والي الكوفة سنة 118، وهو شيخ الجهم بن صفوان وهذا من الموالي أيضًا، وهو من نفاة الصفات ومؤسسي الجهمية وهم أتباعه وتارة تطلق على نفاة الصفات مطلقًا. انظر ميزان الاعتدال: 1/ 185 - 197، وانظر تبرأ الصحابة منهم - الفرق بين الفرق 15، وانظر شرح العقيدة الطحاوية 620 - 621 - 622 - 623.
(3)
هو مؤسس مذهب المعتزلة ولد بالمدينة سنة 80 هـ ونشأ بالبصرة وهو الذي نشر مذهب المعتزلة في الآفاق حيث أرسل أصحابه لذلك، وسموا معتزلة لاعتزالهم حلقة الحسن البصري. انظر الفرق بين الفرق للبغدادي - الطبعة الأولى - دار الآفاق بيروت 98 - 99 - 100 - 102، وانظر سير أعلام النبلاء 5/ 464 - 465.
(4)
هو أبو الهذيل محمد بن الهذيل البصري المشهور بالعلاف يعد من أئمة المعتزلة والمقرر لطريقتهم ولد بالبصرة سنة 135 هـ، يقول عنه ابن قتيبة:"ثم نصير إلى قول أبي الهذيل العلّاف فنجده كذابًا أفاكًا" توفي 226 وقيل 235، انظر الفرق بين الفرق 102 وما بعدها، وسير أعلام النبلاء 10/ 542 - 543، وتأويل مختلف الحديث 43 تصحيح محمد مهدي النجار دار الجيل 1393 هـ.
(5)
هو إبراهيم بن سيار بن هانيء يعرف بالنظام توفي 231 وقيل 221 هـ، يعد أعظم شيوخ المعتزلة وهو زنديق طاعن في الصحابة منكر للقياس والإِجماع يقول عنه الجويني في البرهان بعد أن نقل طعنه في الصحابة وإنكاره الإِجماع والقياس قال: "وما ذكره النظام كفر وزندقة ومحاولة استئصال قاعدة الشرع
…
" البرهان 2/ 761 - 763.
ويقول عنه ابن قتيبة وقد: "وجدنا النظام شاطرًا من الشطار يغدو على سكر ويروح على =