الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
قوّة الأدلّة النقلية
ذكر الأدلة على أن الشريعة حجة على الخلق في جميع ما يحتاجون اليه وذكر أوصافها، وذلك في خمسة مطالب.
المطلب الأول
أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالبينات وجوامع الكلم ومقتضى ذلك أن هذه الشريعة المتمثلة في الكتاب والسنة علم ويقين، لا ظن كما يقول أهل الكلام ومن تأثر بهم.
وهذا المعنى يشهد له الاستقراء، فإن الله وصف القرآن بأنه حق وعلم وبينات من الهدى، وفرقان بين الحق والباطل، فلا بد من الإِيمان بهذه الأوصاف. من ذلك قوله تعالى:
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} (1).
وقوله سبحانه: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2).
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3).
(1) سورة البقرة: آية 99.
(2)
سورة النور: آية 58.
(3)
سورة النور: آية 61.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1).
{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (3).
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5).
وما ورد في وصف آيات القرآن بهذا الوصف أكثر من أن يحصى. والبيان في لغة العرب: "ما بين به الشيء من الدلالة وغيرها، وبان الشيء بيانًا اتضح، فهو بين".
واستبان الشيء ظهر، "وفي المثل: قد بين الصبح لذي عينين أي تبين".
"والتبيين: الإيضاح، والتبيين أيضًا: الوضوح"(7).
(1) سورة البقرة: آية 230.
(2)
سورة البقرة: آية 185.
(3)
سورة العنكبوت: آية 49.
(4)
سورة الحديد: آية 9.
(5)
سورة النور: آية 46.
(6)
سورة الطلاق: آية 11.
(7)
لسان العرب 67.
"والبيان إظهار المقصود بأبلغ لفظ"(1).
يقول الإِمام ابن جرير الطبري: "وكذلك أنزلنا آيات بينات
…
" أي "دلالات واضحات" (2).
مبينات: "أي صارت مبينة بنفسها الحق .. "(4) فهذه أوصاف للأدلة القرآنية بأنها حق وعلم وبينات أي توضح المقصود بأبلغ لفظ وكما قال الإِمام ابن جرير: "أنها تبين الحق بنفسها، وقد سبق وصف القرآن بأنه قول محكم (5)، وورد وصفه بأنه قول فصل في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} ومعنى قول فصل كما قال ابن جرير: "أن هذا القول وهذا الخبر لقول فصل، يقول لقول يفصل بين الحق والباطل ببيانه، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة
…
" (6).
هذا عن القرآن كلام الله، وهو بعض الوحي، أما البعض الآخر فهو السنة وهي وحي من عند الله سبحانه إمّا ابتداء وإما إقرارًا (7)، فقد أرسل الله
(1) المصدر نفسه 69.
(2)
جامع البيان 17/ 128.
(3)
سورة النور: آية 34.
(4)
جامع البيان 18/ 134 - 155.
(5)
انظر ما سبق 119.
(6)
سورة الطارق: آية 13 - 14 وجامع البيان 30/ 149.
(7)
أشرت إلى هذا المعنى انظر ص 32، ولذلك لا بد من النظر في البعض الآخر وهو السنة وتفسير السلف لها لأنهم أعرف بلغة العرب ومقاصدها، وأعرف بمقاصد الشريعة، وكون الشريعة مبيّنة في نفسها لا يقتضي أنها مبينة لكل أحد .. ولذلك كرم الله بعض عباده بالعلم ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليكونوا هم أهل الذكر الذين يعلّمون الناس الحق، وسيأتي الحديث عن صفاتهم في باب الاجتهاد، وإنما نقول أنها مبنية لمن =
رسوله ليعلم الناس الكتاب والحكمة، كما قال سبحانه وتعالى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1).
وقد أدى الرسول عليه السلام الأمانة فبينه وبلّغه بلاغًا مبينًا، فعرف أصحابه عليه السلام الحق والعلم والهدى، وهذه مهمة الأنبياء، فقد جاءوا بالبينات التي توضح الحق ويكون بها الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال تعالي:
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم وهو أكرم الخلق على الله وأعظمهم عبادة له فذلك لأنه أعلم الخلق بالحق وأفصحهم لسانًا، وأقواهم بيانًا، وأحرصهم على هداية العباد، وهذا يوجب أن يكون بيانه أكمل من بيان كل بشر" (3). وقد بعثه ربه سبحانه بالكتاب والحكمة كما قال تعالى:
والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة، وذلك مجموع الشرع
= عقلها وتعلّمها كما تعلمها الصحابة - رضوان الله عليهم -، وإذا فات العلم ببعض أدلتها بعض أهل العلم فإنه لا يفوت جميعهم.
(1)
سورة النحل: آية 44.
(2)
سورة البقرة: آية 213، وانظر درء تعارض العقل والنقل 5/ 25 لشيخ الإِسلام ابن تيمية تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم - الطبعة الأولى 1399 هـ - جامعة الإِمام محمد بن سعود.
(3)
المصدر نفسه 1/ 23 - 24 - 28 وانظر 5/ 371.
(4)
سورة الجمعة: آية 2.
الإِسلامي الذي هو علم وقول صادق في نفسه، وهذه صفة لازمة له والعلم بها ممكن، ورد الناس إليها ممكن، ولذلك أمرهم الله بالرد إلى الشرع حين التنازع لينتفعوا بالعلم الذي جاء به (1)، لا فرق في ذلك بين أمر وأمر من شرائع الدين، سواء في ذلك دلالة السنة على الاعتقاد أو دلالتها على الأحكام مفسرة للقرآن أو زائدة عليه، وهذا كله علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وامتن الله عليهم بهذا العلم (2).
ولقد أوتي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، فهو كما سبق أن قلنا أقدر البشر على البيان والتعريف بما يقصده ويريده، مع حرصه الشديد على أمته حتى خفف الله عليه وقال له سبحانه:
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (3).
{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} (4).
فإذا كان الحال كذلك فإن كلامه عليه الصلاة والسلام مبين للعلم والهدى والحق، بل هو أحق الكلام بإفادة العلم وهذا قول جميع من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم (5).
(1) الدرء: 1/ 146، وعدم ارتفاع النزاع بين البشر لا ينافي هذه الحقيقة وذلك أنهم إمّا لا يرجعون للوحي مطلقًا، أو يردون إليه ردًا غير متجرد من الهوى أو غير مستكمل القدرة المطلوبة لإحسان الأخذ من الكتاب والسنة، وبقدر ما يرتفع البشر إلى المستوى الذي يريده الله منهم يتحقق لهم ارتفاع الخلاف فيما بينهم وتشيع بينهم المودة والمحبة على عقيدة واحدة ومنهجٍ واحد.
(2)
المصدر السابق 2/ 146.
(3)
سورة الشعراء: آية 3.
(4)
سورة النحل: آية 37.
(5)
درء تعارض العقل والنقل 5/ 373 - 374 وسيأتي كشف شبه الفلاسفة وبعض من تأثر بهم وتناقض في قوله بأن نصوص الوحي لا تفيد العلم واليقين.
روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بُعثت بجوامع الكلم
…
" الحديث (1) وجوامع الكلم أن: "يتكلم بالقول الموجز القليل اللفظ الكثير المعاني" (2) وهو يشمل القرآن والسنة كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر (3)، وقد سبق أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام هو أفصح الخلق على الإِطلاق وهذا يقتضي أنْ يكون كلامه من الجوامع، فإذا لم تفد هذه الجوامع العلم فأي كلام يفيده!
وننتقل إلى المطلب الثاني لنثبت بالاستقراء أن الأحكام الشرعية لا بد من التصديق بها ونسبتها إلى الشريعة مع العمل بها، فاجتمع لها وجوب العلم بها والعمل بمقتضى ذلك العلم، والطريق لإثبات العلم والعمل واحد في هذه الشريعة، وهو هذه الأدلة من الكتاب والسنة وإليك إجراء الاستقراء وهو الدليل الثاني.
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13/ 247، 12/ 401.
(2)
المرجع السابق 13/ 147.
(3)
المرجع السابق 13/ 247 - 248، وقد ذكر أمثلة لذلك من الكتاب والسنة تبين المقصود وأجاب عن قول من قصر الجوامع على القرآن معتمدًا على لفظ الحديث "بُعثت" وإنّما بُعث الرسول بالقرآن، أجاب رحمه الله بأن ذلك ليس بلازم وليس في كلام الإِمام البخاري ما يدل على ذلك إذْ أنه ذكر حديث:"بُعثت بجوامع الكلم" ثم ذكر حديث أبي هريرة في الموضع نفسه: "ما من الأنبياء إلا أعطي من الأيات ما مثله -أو من- أو آمن - عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ .. " الحديث 13/ 247، وهذا فيه أن القرآن من جوامع الكلم وليس فيه أن السنة ليست من الجوامع. والراجح ما قاله الحافظ ابن حجر ذلك أن الرسول بُعث بالوحي وهو يشمل الكتاب والسنة، وأرسله الله بهذه الشريعة وهي تشملهما.