الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
المصلحة ودلالتها على الشمول
المقصود بهذا الفصل بيان كيفية تحقق الشمول من خلال العمل بالمصلحة الشرعية - وذلك بعد أن بينا أموراً مهمة:
الأول: كمال الشريعة (1).
الثاني: كونها جاءت بمصالح العباد (2).
الثالث: أن العقل ليس بشارع، ولا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد (3).
وقلنا فيما سبق أن العقل البشري لما حاول الاستقلال بإدراك المصالح والمفاسد تفرق بأهله وأشقاهم، وأوقعهم في رد ما جاء به الأنبياء أوبعضه، سواء كانوا من أهل الملل الأخرى، أو من الفرق المنحرفة التي نشأت داخل الأمة الإِسلامية ومن هنا وجب علينا أن نكون حذرين حذراً شديداً من أن يؤدي مفهوم الشمول الواسع من خلال العمل بالمصلحة (4) - إلى رفع ضوابط
(1) انظر ما سبق ص 136.
(2)
انظر ما سبق ص 112.
(3)
انظر ما سبق ص 21 - 44 - 420.
(4)
يتسع منهج النظر الإِسلامي من خلال العمل بالمصلحة وغيرها من معالم النهج حتى يظنه كثير من الباحثين بلا حدود ولا ضوابط، والحق -كما تبين لنا- أنه من السعة والشمول بحيث لا يضيق عن مصالح البشر وعن حاجاتهم، ومن التحديد والضبط بحيث لا يختلط فيه الباطل بالحق ولا المفسدة بالصلحة {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} 138 البقرة، وصبغة الله أي دين الله، لا دين أحسن منه. تفسير الطبري 1/ 570.
العمل بها - فنسلك سبيل أولئك الذين وقعوا في ضلالات العقل البشري الذي لا يخضع لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بل يردهما، أو يقدم عليهما مع الانتساب إليهما، ولذلك جعلت موضوع "الشمول" رديفاً لموضوع "الثبات" ليكون له سنداً وضابطًا، أما كونه سندًا فلأنه لا شمول بغير ثبات كما تبين لنا فيما سبق (1)، وأما كونه ضابطاً فلأن منهج الاستنباط إن لم ينضبط بمقاصد الشريعة - ويراعي نصوصها - وينعزل عن تصرفات العقول المحضة انحرف لا محالة، وتأكيداً على مراعاة الضوابط جعلت للحديث عن قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان مبحثاً خاصة نختم به الحديث عن المصلحة من حيث صلتها بالثبات والشمول ..
وإليك الآن الحديث عن أنواع المصالح الشرعية وبيان تحقق الشمول فيها وهي أنواع:
النوع الأول - مصلحة شهد الشرع لنوعها:
فإذا وجد أصل شرعي يشهد لجنس مصلحة ما فإنها حينئذ مصلحة شرعية، مثاله: تضمين السارق قيمة المسروق، وهذه المسألة لا تعلم عن طريق النص مباشرة ولا عن طريق القياس، لأنه ليس فيها نص معين، ولا يمكن قياسها على نص معين عن طريق علة القياس، فكيف يشملها الحكم إذاً؟
والجواب هو أن الشمول هنا يتحقق بتوفر أصل شرعي يشهد لنوع المصلحة، وذلك أن الشرع قد شهد لنوع المسألة السابقة، وهو مسألة تضمين الغاصب ما اغتصبه إذا تلف عنده لتعديه، والسارق قد تعدى على مال غيره، لسرقته وهي نوع من الغصب (2).
فكما حكم الشرع على الغاصب لتعديه فكذلك الحكم على السارق في تضمينه قيمة المسروق.
(1) انظر ما سبق ص 310.
(2)
انظر المغني تجده جمع في كتاب الغصب بين الآيات التي تنهي عن أكل أموال الناس بالباطل وبين آية السرقة في وجوب الضمان 5/ 177، ونيل الأوطار للشوكاني 5/ 355 - الطبعة الأخيرة.
وهذا الحكم إنما هو عن طريق اعتبار مصلحة شهد الشرع لنوعها ولم يكن عن طريق نص معين أو إلحاق المسألة به عن طريق علة القياس.
النوع الثاني - مصلحة شهد لها أصل كلي بالاعتبار:
مثاله: حد الشرب: هذه مسألة لها حد مقدر في الشرع، فقد كان الشارب يُحدُ أربعين واستمر ذلك في زمن أبي بكر رضي الله عنه.
ثم تتابع الناس فيه بعد ذلك في زمن عمر رضي الله عنه فنظر الصحابة في حكم هذه المسألة.
والمراد بالكلي هو الأصل الذي شهدت له مجموعة نصوص ..
فمثلاً: اعتبار المظنة في الأحكام أصل شرعي كلي، والدليل عليه الاستقراء.
إجراء الاستقراء: نظر أهل الاجتهاد في الشريعة فاستنبطوا منها:
1 -
حرم الشارع الخلوة لأنها مظنة الزنا، وهو إقامة لمظنة الشيء مقام نفس الشيء، وإعطاء المظنة حكم المظنون.
2 -
ومثله جعل الشارع "الإِيلاج" في أحكام كثيرة يجري مجرى الإِنزال كما في إيجاب الغسل وغيره.
3 -
جعل من حفر بئرًا في محل العدوان فسقط فيها أحد، كالمردي رجلاً فيها، وإن لم يكن ثم مردي وهو إقامة السبب مقام المسبب وإعطاء المظنة حكم المظنون.
4 -
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعاً ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعاً، وهذا نهي عن الخليطين لأن اجتمعهما مظنة السكر، فأقام المظنة مقام المظنون فأخذت حكمه.
5 -
ونهى عن بيع وسلف، وعن هدية المديان وعن ميراث القاتل وعن نكاح المحرم، وكل ذلك إعطاء المظنة حكم المظنون ..
فالبيع والسلف معًا وهديه المديان مظنة الربا، ونهى عن ميراث القاتل لكي لا يُتخذ القتل وسيلة لطلب تعجيل الإِرث، ونكاح المحرم حتى لا يقع الوطء في الحج فيفسده، وهكذا في أمثلة كثيرة ..
وهذه المواضع - وغيرها مما ماثلها - جاءت بها النصوص الشرعية ودلت مجتمعة على إثبات أصل كلي وعام، ألا وهو أن المظنة تأخذ حكم المظنون، وهذه الدلالة قطعية لأنها ثبتت عن طريق استقراء مواطن كثيرة في الشريعة اجتمعت على معنى واحد، فكان هذا المعنى معتبرًا في الاستدلال، وهو لم يؤخذ من نص معين، وإنما ثبتت ملائمته لتصرفات الشرع من أدلة كثيرة وعلم أنه مقصود للشرع من دلالة الكتاب والسنة.
ويبقى النظر - بعد ثبوت هذا الأصل الكلي - في شموله للمسألة السابقة وهي حد الشرب ..
فالشرب -كما قال علي رضي الله عنه وتابعه على ذلك الصحابة رضوان الله عليهم - مظنة للقذف، فإن الشارب إذا سكر هذي ولم يدر ما يقول ومظنة ذلك وقوع القذف منه، فجلده ثمانين يحقق المصلحة الشرعية، وهي مصلحة ملائمة لتصرفات الشارع وداخلة تحت الأصل الكلي السابق المشهود له بأنه أصلي شرعي كلي ..
وهذه المصلحة وإن كانت مرسلة عن النص المعين الذي يشهد لعينها إلّا أنها ليست مرسلة عن مجموع النصوص التي شهدت لجنسها، فهي مصلحة معتبرة مشهود لها وليست ملغاة لأنها لا تعارض نصاً وليست مسكوتاً عنها (1).
فاعتبار الشارع المظنة مطلقاً في الأحكام - وهو أصل كلي قد شهد لجنس تلك المصلحة - وهي جلد الشارب ثمانين - بالاعتبار، فهو إذاً استدلال بمجموع نصوص شرعية.
(1) نظرية المصلحة 71 - 72 - 73 - 74.
وهذا معنى أن المصلحة التي شهد لها أصل كلي بالاعتبار يعمل بها ..
وبهذا يتحقق الشمول عن هذا الطريق الشرعي في الاستدلال، وتأخذ الحادثة - التي لا يمكن إدخالها تحت نص معين، ولا أصل معين حكمها من مجموعة نصوص شرعية وذلك هو الأصل الكلي، ولا تبقى خالية عن حكم الشرع لعدم وجود نص معين فيها:
- قتل الجماعة بالواحد: إذا قتل جماعة متمالئون رجلًا قتلوا به، وهذا الحكم غير منصوص عليه في الشريعة، وإنما دخل تحت أصل كلي شرعي مأخوذ من نصوص كثيرة ..
بيان ذلك: أن "النفس نهي عن قتلها وجعل قتلها موجباً للقصاص متوعداً عليه، ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك، كما كانت الصلاة مقرونة بالإِيمان، ووجب سد رمق المضطر، ووجبت الزكاة والمواساة والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفسه، وأقيمت الحكام والقضاة والملوك لذلك، ورتبت الأجناد لقتال من رام قتل النفس، ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير إلى سائر ما ينضاف إلى هذا المعنى"(1).
هذا هو الأصل الكلي الذي دل على قتل الجماعة بالواحد، ومستنده المصلحة المرسلة، وبيان ذلك: إنا إذا لم نوجب قتلهم على اعتبار أن كل واحد قد قتل تحقيقاً، لم يبق إلا وجه المصلحة الشرعية وهي أن المقتول معصوم وقد قتل عمداً فلو لم نقتل الجماعة التي تمالأت على قتله لَخُرِم أصل القصاص، واجتمع النفر من الناس على القتل بغير الحق لأنهم في أمن من عقوبة القصاص (2).
فالأدلة السابقة التي اجتمعت على إقامة هذا الأصل وهو وجوب المحافظة
(1) الموافقات 1/ 15.
(2)
الاعتصام 2/ 125 - 26 .. وانظر نظرية المصلحة 87.
على النفس هو المستند لقتل الجماعة بالواحد، فهو إذاً اجتهاد شرعي مبني على المصلحة التي دل عليها ذلك الأصل الكلي، وهو مذهب الصحابة رضوان الله عليهم (1).
وهذه الأمثلة وغيرها كثير تُبين لنا أن منهج النظر الإِسلامي بشموله وحيويته قد سهل دخول الوقائع المتجددة تحت حكم الشريعة كل واقعة تدخل حسب الطريق المناسب لها، فمنها ما يدخل عن طريق النص مباشرة ومنها ما يدخل عن طريق القياس
…
الخ، وإذا أضفت أن الوقائع التي تحدث للبشر متشابهة إما في أعيانها وإما في الأصول التي ترجع إليها علمنا حينئذ أن التشابه كما يقع في الكون يقع في البشر وأفعالهم، وأن هذا الإِعجاز في الخلق مناسب للإِعجاز في التشريع، فالوقائع مهما كثرت لا بد من وقوع شبه بينها، وتدخل تحت حكم الشريعة من طرق كثيرة منها وباب العمل بالمصالح من دعائم الشمول في الشريعة، لأن الشريعة - التي أنزلها الله سبحانه متصفة بصفة الإِعجاز من جهة اللفظ والمعنى، وقد اتسق فيها واستوى مفهوم الثبات والشمول في توازن عجيب بديع، تظهر ملامح هذا الإبداع وتبرز وتتعدد كما تظهر ملامح الإِعجاز الكوني وتتعدد، فإذا جمعنا مع هذا ما نعلمه من طبيعة الإنسان المخلوق في هذا الكون، المخلوق له هذا الكون، فإن الدليل على ما قلته آنفاً يتضح لنا فنجد حينئذ التشابه الكبير في حقيقة هذا الإِنسان الفطرية وفي طبيعة تعامله مع هذا الكون وطبيعة تعامل هذا الكون معه بأمر الله سبحانه وقد جعل الله "الناس" شعوباً وقبائل - وهم من هذه الناحية متشابهون، ويعيشون في أطراف من هذا الكون متشابهة، يتعاملون معه ويتعامل معهم بإذن الله بصور متشابهة، وكل صور هذا التعامل "الإِنسان مع نفسه، الإِنسان مع الإنسان، القبائل والشعوب مع القبائل والشعوب، وهؤلاء جميعاً مع الكون، والكون معهم كل هذه معالم متشابهة تجعل تلك الصور تتقارب في التشابه أو تتباعد وهي في كل حال متشابهة، ومن ثم يمكن جمعها وحصرها للتعرف على
(1) المغني 8/ 290.
حكم الله فيها، وردها إلى الشريعة الإِسلامية لتشملها بالعدل والرحمة.
فإذا تصورنا أن ثلث تلك الوقائع المتجددة يدخل تحت حكم النصوص المباشرة -كما تقدم معنا في دراسة العموم في الشريعة - وثلثها الثاني يدخل تحت حكم النصوص عن طريق قياس "العلة" وهذا ما تقدم بيانه في باب القياس، وثلثها الأخير يدخل تحت حكم النصوص عن طريق "قياس المصالح" فماذا بقي بعد ذلك؟.
ومن هنا ندرك الجواب عن شبهة طالما كثر ترديدها، حاصلها أن نصوص الشريعة محدودة متناهية، وحوادث الحياة والوقائع التي تتجدد غير متناهية.
وهذه المقالة على ما فيها من مخالفة للعلم اسْتعملت في موضعين:
الموضع الأول: استعملت فيه استعمالًا القصد منه مشروع وإن كان استعماله على هذا النحو الذي سنتحدث عنه غير مشروع، فالقصد مشروع والوسيلة بضده.
ومن أمثلة هذا الموضع: ما ذكر الجويني في كتابه البرهان حيث نص على أن الوقائع غير متناهية والنصوص متناهية (1).
وقد ذكر ذلك ليوطد به استدلاله على مشروعية القياس، فكأنه يقول: إذا كانت الوقائع لا تتناهى والنصوص تتناهى، والشريعة لا بد أن تحكم تلك الوقائع فلا سبيل - والحال كذلك - لإدخالها تحت حكم الشريعة إلّا عن طريق إعمال القياس، فالقياس ضروري.
وهذا قصد مشروع ولا شك، ولكني أخالفه في استعمال هذه الوسيلة، ولذلك لم أستند عليها لإثبات حجية القياس، لأن الأدلة التي في حوزتنا كافية وقوية ولا نحتاج إلى غيرها، وإذا ثبتت الحجية بها فقد تحقق المقصود بوسيلة مشروعة.
(1) 2/ 743.
أما الوسيلة التي استخدمها الجويني فهي عبارة عن دليل عليه بعض المؤاخذات منها:
1 -
أن الوقائع تتناهى لأنها متشابهة كما أسلفت ويمكن رد بعضها إلى بعض، وهذا دليل قوي على أنها تتناهى لتصبح في آخر الأمر مجموعة وقائع - وإن كانت كثيرة جدًا، إلا أنها محصورة.
2 -
أن قوله أن النصوص تتناهى عبارة مجملة فإن أراد بها أن القرآن جمعها وكذلك كل ما صح من السنة دل عليها فهي إذن مجموعة معلومة فنعم، وإن أراد أن ما تضمنته من المعاني، وما جعل الله فيها من السعة والشمول محدود فلا يُسلم له وهو لا يقصد ذلك حتماً، ولأن العبارة موهمة فلا بد إذن من الجواب وأختصره بما يليق بالموضع دون محاولة تفسير الأسباب التي أدت إليها - ويكفيني ما قلته سابقاً من أن القصد المشروع لا يكفي بل لابد له من وسيلة مشروعة (1) - والذي يليق بالموضع وهو جواب حاسم إن شاء الله يكفي في إسقاط الشبه - فلا نحتاج إلى أجوبة أخرى مع توفرها.
إن النظر في الشريعة الإِسلامية على أن مدلولاتها - ومعطياتها ومفاهيمها وأحكامها - تؤخذ منها نصاً نصًا غير سديد، ويحتاج إلى مراجعة وهو الذي إذا ما تبين فساده وانكشف سقطت تلك الشبهة وانكشفت.
والذي يدل على فساده هو أن ذلك كله يؤخذ من الشريعة من أكثر من طريق منها ما يليق بهذا الموضع وهو أخذ الأحكام من مجموعة نصوص تتوافر على دلالة واحدة، كما يدل النص الواحد على دلالة واحدة، وهذا شبيه بالعموم المعنوي الذي تقدم الكلام عنه.
ومثل هذه الشريعة كمثل البشرية والبحار، فهل إذا اتجهت كل أمة إلى بحر وأخذت منه ثم عادت وأخذت ثم عادت وأخذت إلى يوم القيامة هل
(1) يُفسر مقصد ابن الجويني كما فسرته في الموضع الأول، مع بيان الفارق بينه وبين ما يردده الآخرون ذلك أنه يرى أن النصوص يمكن الاستفادة منها بطرق منها القياس.
ينفد، كلًا، وكذلك أخذنا من هذه الشريعة تارة نأخذ منها عن طريق النص الواحد، وتارة نرجع إليها ونأخذ عن طريق جملة نصوص، ثم إن النص الواحد تارة يكون له مدلول واحد وتارة أوسع من ذلك، ثم ننتقل إلى القياس وهو إلحاق النظير بنظيره كما أسلفنا، ثم ننتقل إلى البناء على الأصل الكلي والقواعد العامة وهكذا، فهل يمكن أن يقال أن عطاء النصوص ينفد.
والظن بابن الجويني أنه لا يقصد أنَّ دلالتها محصورة، بل قد نص في مواضع كثيرة على أنه لا تخرج حادثة ولا واقعة في عصر عن حكم الله (1).
الموضع الثاني: إن المقالة السابقة قد طورت لتصبح شبهة حاصلها أن هذه النصوص المحدودة كيف تحكم وقائع البشرية المتجددة غير المتناهية في جميع العصور والأزمان، وقد استعملها قوم لا يعرفون طبيعة هذه الشريعة ومنزلتها الحقيقية، وقوم آخرون استعملوها كيداً ومكراً وصداً عن سبيل الله.
والجواب الذي يكشف الشبهة ويصد كيد الماكرين فلا تعد شبهتهم ينفذ كيدها ومكرها بإذن الله، هو أن يعلم هؤلاء وهؤلاء أن وضع الشريعة الإِسلامية على هذه الصفة مقصود وخلق البشرية على هذه الصفة المتشابهة التي أشرت إليها مقصود كذلك، فالذي خلق البشرية جعلها على تلك الصفة .. وهو الذي أنزل كلامه على رسوله وجعله بتلك الصفة.
{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3).
فرب العالمين - رب هذه البشرية وخالقها - هو أعلم بها وهو الإِله الذي له الأمر والنهي وبيده مقاليد كل شيء جعل البشر يتشابهون في حياتهم الخلقية
(1) انظر البرهان مسألة رقم 677 - 1133.
(2)
سورة الصف: آية 8.
(3)
سورة الأعراف: آية 54.
والعملية وخلق لهم كوناً متشابهاً وقدّر التشابه على كل ما يقع في هذا الكون من تصرفات كونية وتصرفات بشرية وهذا من آياته سبحانه وهو من أدلة الإِعجاز، وأن هذه المخلوقات الكونية خلقتها إرادة واحدة هي إرادة الله، قال تعالى:
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1).
ومن تأمل في ذلك تعرف على قدرة الله سبحانه وجميل حكمته وإبداع خلقه، وبهذا يتأكد ما قلته في أكثر من موضع - نقصد بذلك إيضاح هذه الحقيقة الكونية البشرية - فلا يبقى بعد لهذه المقالة من سبب يُروّج لها، فإن وقائع البشرية مهما تجددت وتعددت يمكن ربطها بأصول متشابهة محصورة ترجع إلى أجناس معلومة، وقد حدث ذلك في الجيل الأول لما دخل الناس في دين الله أفواجاً وانتشرت معهم وقائع كثيرة ترجع إلى أجناس معلومة وتكلم فيها الفقهاء وبينوا حكم الله فيها، ولذلك قال الإِمام أحمد بهذا الاعتبار ما من مسألة إلّا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها (2). وذلك لتشابه المسائل الذي يرجع إلى تشابه الحياة والأحياء.
ولنزيّن هذا الموضع ببعض الأمثلة التي تؤكد لنا هذه الحقيقة ..
إن هذه البشرية ترجع إلى أصل واحد في المنشأ والمنهج، أب واحد وأم واحدة وخلقة واحدة بقدرات متشابهة في كون واحد لهدف واحد وهو إقامة الخلافة الربانية على الأرض - وذلك بأن تعمر الأرض بمنهج الله عقيدة وشريعة - الشريعة مسيطرة فيتحقق العدل، والعقيدة تجمع خير الدنيا والآخرة لمن أتاها طوعاً لا كرهاً.
(1) سورة النحل: آية 40.
(2)
مجموع الفتاوى 9/ 200.
(3)
سورة البقرة: آية 256.
فلو أن الرجل الأوروبي والأمريكي اتبع هذه الشريعة وتخلق بأخلاقها وكذلك صنع الرجل الروسي والافريقي، هل ستختلف وقائعهم ومعاملاتهم مع أهليهم وجيرانهم ومجتمعاتهم في عالم القيم والأخلاق، أم لا بد أن تكون متشابهة لأنها مرتبطة بمنشأ واحد ومنهج واحد وهدف واحد.
هل الرجل منهم في مزرعته - في المجتمع الزراعي - سيختلف عن الرجل الآخر في تعامله مع قواعد العمل وضوابطه وأهدافه وأخلاقه؟ هل الرجل منهم في مصنعه - في المجتمع الصناعي - سيختلف عن الرجل الآخر في تعامله مع قواعد العمل وأهدافه وأخلاقه كلا! هل مسؤولية الرجل هنا أو هناك عن بيته، ومسؤولية امرأته عن بيتها ستختلف في دوافعها وضوابطها؟!
وقس على ذلك بقية جوانب الحياة ما يتصل منها بالأسرة إنشاء وحفظاً، وما يتصل منها بالعلم وتعمير الأرض، وما يتصل منها بأمور الجماعة - من حيث العلاقات العامة والخاصة - ولا يصعب تتبع بقية أمور الحياة إذا لاحظنا هذا التشابه في المنشأ والمنهج والكون ومهمة الإنسان، وإذا لم نلاحظ ذلك - حيث نفتقده في حياة أكثر البشر اليوم فلا علينا أن يقع ذلك الافتراق في تلك الأصول، ولا نعجب أن يصل الحال بالبشرية أن تفترق ذلك الافتراق العجيب وتختلف ذلك الاختلاف الكبير حتى أنها لتُقسّم في الحقيقة إلى أناسيّ ودواب، أناسيّ يعرفون وحدة منشأتهم ومنهجهم ويتعاملون مع هذا الكون لهدف محدد رباني تحكمه هذه الشريعة، ودواب تُشْبِهُ فيما تشبه تلك المخلوقات العجيبة التي تجمعها الغابات حتى لا تكاد تجد بينها شبهًا، وفيها جميع ملامح الحياة في الغابة من القوة والطغيان، والضعف والخور، والتكالب والتناحر، والانقسام على متاع الأرض، والختل والمكر، والخديعة والغدر، والاضطراب وعدم الشعور بالأمن وتوقع الهلكة كل حين، والعري والبهيمية، وكل سيء من الأخلاق، وكل ذلك مع انعدام المبادئ والأخلاق والعدل.
وكما لا يمكن لأحد أن ينظم غابة على مبادئ العدل والأخلاق السماوية - إلّا أن تستسلم تلك الوحوش المستنفرة - فكذلك لا يمكن أن تُنظم حياة
الأمم الكافرة على مبادئ هذه الشريعة إلّا أن تستلم لله وحده وتتبع رسوله صلى الله عليه وسلم وتتحاكم إلى هذه الشريعة وتحكم بها وترفض ما سواه (1)، ولعل هذا الذي أقوله هنا هو شيء من معنى قوله تعالى:
نعم إن الأمم الكافرة أضل من الأنعام، لأن الأنعام خُلقت وجُبلت على ذلك كله فلا يُنتظر منها غير ذلك - وفيه من الحكمة ما فيه - أما هذه الأمم الكافرة فلم تُخلق لهذا بل خُلقت وتلك الثوابت في وحدة المنشأ والمنهج والمصير في هذا الكون الرحيب الفسيح الذي خُلق لها لتعمره بهذه الشريعة، ولكنها
(1) وهذا طريقه الإِيمان بالله وحده .. وهذا هو الأصل، وإن لم تؤمن وخضعت للحكم الإِسلامي كما صنع أهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس شملتهم رحمة هذه الشريعة وعدلها في الدنيا وحسابهم على الله في الأخرة.
والبشرية في الحالين - سواء في حالة قبول العقيدة أو حالة الإِذعان للشريعة خاضعة للأحكام، طوعًا أو كرهًا، وحينئذ تعيش البشرية تحت عدل هذه الشريعة وتكون لحياتها خصائص محددة وطبائع متشابهة، وتغطي الشريعة جميع وقائع هذه الحياة كما يوجبه العدل الرباني، فلا البشرية تعيش حياة الغابة .. في حالة تمردها على المنهج الرباني، ولا هي تكون صاحبة السلطان بمبادئها وأحكامها المنحرفة، فتتحكم في المنهج الرباني، كا هو الحال في حاضر الأمم الكافرة، وتريد منه أن يضع لها أحكاماً تناسب شهواتها وحياتها المنحرفة، ويكون الاجتهاد حينئذ -كما سبق وأن قلنا - أداة لتلبية رغبات البشرية وشهواتها مع أنه في الحقيقة أداة لإقامة العدل الرباني في الأرض ورفع البشرية من الحضيض حتى تعيش هذا العدل وتسعد به، ولذلك فإن تصور حاكمية هذه الشريعة وثباتها وشمولها لا يمكن تطبيقه في واقع الأمر إلّا أن تكون البشرية في إحدى الحالتين السابقتين، أما ما سوى ذلك فإن البشرية تعيش حياة الغابة وتريد أن تنزل بالشريعة لتقرر لها شهواتها وانحرافها وما لذلك أنزلت هذه الشريعة.
(2)
سورة الأعراف: آية 179.
أعرضت عن ذلك كله واختار لها أئمتها السياسيون والمفكرون .. غير الإِسلام عن علم وعناد يبتغون بذلك الارتكاس في حمأة الشهوات والطغيان.
فلا عجب أن تفترق البشرية هذا الافتراق ويحل بها ما حل .. والِإسلام حينئذ ليس مسؤولاً عن طبائعها وتصرفاتها العجيبة الغريبة كما أنه ليس مسؤولًا عن تصرفاتها الحيوانية، ويوم تتبع تلك الأمم الإِسلام وترجع إلى وحدة المنشأ والمنهج والمصير حينئذ لن تكون بتلك الصورة التي لا يمكن أن توجد إلّا في الغابات، بل ستعيش صورة إنسانية جديدة الملامح، من أبرز ملامحها تلك الوحدة والتشابه - فيقوم العدل الرباني في الأرض ويسيطر عليها الإنسان الصالح الذي يكوّن الأمة الواحدة ويتعامل في كل مكان بمنهج واحد له سماته الثابتة وطبيعته المتشابهة ويمكن حينئذ جمع وقائعه وحاجاته وترتيبها وتنسيقها وتحديد هدف واحد متشابه تقوده المصلحة الشرعية التي تحقق العدل الرباني في واقع الناس.
ولعل في هذا البيان ما يُجَلِّي تلك الحقيقة، ويقارب بين طبائع البشرية - عندما تتحول عن شرائعها ومفاهيمها إلى شريعة الله سبحانه خالقها وبارئها، وتسقط تلك الشبهة التي طالما نفخ فيها أعداء الإِسلام ليحولوا بين البشرية وبين هذه الشريعة الربانية (1).
وننتقل بعد هذا إلى مناقشة شبهة أخرى تتصل بموضوع المصلحة بعد أن تبين لنا أن الشمول الرباني يتسق مع مفهوم الثبات فيتحقق لنا - بعدل من الله ورحمة - سعة في هذه الشريعة تمدنا بما نحتاج إليه من أحكام شرعية، يحفظها لنا مفهوم الثبات في الوقت نفسه لأنه يحفها بالضوابط التي تعيننا ونحن نعيش في عدالة الشريعة ورحمتها أن نكون ملتزمين بالعبودية ومقتضياتها، فلا نغتر ونجهل وننسى ونخرج عن تلك الضوابط والأطر، فننسلخ من آيات الله، ونبعد عن
(1) انظر كتاب: موقف المستشرقين .. من ثبات الشريعة وشمولها.
رحمته وخاصة وأن سعة هذه الشريعة ورحمتها وسماحتها لتخيل للذين لا يعلمون أن هذه الشريعة لا يمكن تحديدها، بل ويمكن إدخال كل شيء فيها.
وهذا سببه أمران:
الأول: عدم معرفتهم بطبيعة هذا الدين عقيدة وشريعة.
إن هذا الدين يريد من البشرية أن تذعن له وتخضع، وتتجرد عن كل تعلق بغير الله فتعبده وحده وتتجه إليه وحده وتسأله وحده وتقدم له أنواع الطاعات وحده، ومنها أن تحكم مصالحها وغاياتها بهذه الشريعة عن طريق الرد إلى أحكامها، وهي حينئذ ستجد بلا ريب السعة والرحمة والفرج.
وهذه حال المؤمنين إذ قالوا سمعنا وأطعنا، شريطة أن يأتوا مذعنين مستبشرين، يعتقدون كمال هذه الشريعة وأنها هي التي تنقذهم من الظلمات إلى النور، وأنها هي الحياة والحضارة والرقي والسعادة، وأنها هي الأمن والعدل والخير كله، ويعتقدون في المقابل أنهم لو خُلوا وعقولهم لهلكوا، وأن جميع ما تشقى به البشرية إنما جاءها لما حسنت الظن بالعقل وردت ما جاء به الرسل وأعرضت عنه وقدمت عليه أهوائها.
إن هذا الإِيمان عندما يتحقق ويأتي صاحبه إلى الشريعة سيجد من الفسحة والسعة ما لا يتصوره أبداً (1)، وإن الذين ينظرون إليه وهم من خارج دوحة الإِيمان - ولا يعلمون حقيقته - لا يستطيعون أن يفسروا هذه السعة والشمول في الرحمة والعدل إلّا بذلك التفسير الغريب العجيب.
الأمر الثاني: إن كل خير عند هذه البشرية مرجعه ولا شك "الإِسلام" فإن هذا الدين هو العقيدة الأولى التي أُنزلت على هذه الأرض وبقيت دهراً طويلًا غير متلبسة بما يناقضها، ثم انحرفت البشرية شيئاً فشيئاً، وتلبست هذه العقيدة بما يناقضها من عبادة غير الله واتباع غير منهجه.
(1) ويبقى بعد ذلك جهد إقامة الخلافة على الأرض.
ولم يكن الانحراف ليقدر على سلخ البشرية من أصلها العقائدي سلخاً كاملًا، ولا على سلخها من أحكامه وقيمة وأخلاقه فبقي شيء غير قليل ينتقل بين أجيالها حتى مع تطور الشرك واتّباعه - بزعم المصلحة - وحتى مع تطور الظلم واحترافه - بدعوى المصلحة - مع ذلك كله بقي شيء غير قليل ينتقل مع الأجيال التي انحرفت عن "الإِسلام" دين الرسل جميعاً.
وإذا تذكرنا أن الفطرة البشرية مهما فسدت لا بد أن يكون لها أثر على سير خط الانسان، وإذا تذكرنا رغبة الإِنسان الذي يريد بها أن يزعم لنفسه أنه يعيش الحياة الصالحة ويحقق المصالح المشروعة (1).
إذا تذكرنا هذا وذاك استطعنا أن نعلل ذلك الانحراف البشري في العقيدة والشريعة الذي ما زال يتلون ويتدسس تحت عباءة الإِصلاح والتوفيق.
ومن هنا نشأت في البشرية مذاهب ونظم تزعم الإِصَلاح، ولأن الانحراف لا يقع على كل شيء، ولأن الفطرة لا يقع عليها الإِعدام الكامل، ولأن الرغبة في دعوى الإِصلاح والتستر به طبيعة كامنة في النفس البشرية لذلك كله نشأت تلك النظم وفيها بعض الجوانب الخيرة.
فالشيوعية فيها من الكفر والإِلحاد والظلم والِإرهاب والقسوة، ومع ذلك يأتي أولئك الذين لا يعلمون فيقولون إن المصلحة في النظام الاشتراكي، ألا ترى كيف يسوي الإِسلام بين الناس في الضرورات
…
والرأسمالية يتراءى فيها جانب خيّر ضئيل مع ما فيها من الكفر والظلم، ظلم الانحراف عن المنهج الرباني - فيقول أولئك أيضاً أن المصلحة في هذا النظام ألا ترى للإسلام كيف حقق الحرية الاقتصادية.
وقس على ذلك الموقف من "الرهبانية" و"العقلانية"، وغير ذلك من المذاهب الفكرية والأنظمة التشريعية الوضعية.
(1) مثال ذلك ما صنعه الكفار قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام حيث غيروا ملة أبينا إبراهيم عليه السلام وزعموا أنهم مصلحون وبها قائمون.
وهؤلاء الذين لا يعلمون لا نعجب أن يُخيّل إليهم أن هذه الشريعة لا يمكن تحديدها، بل يمكن أن يدخل فيها كل شيء، ولو علم هؤلاء طبيعة البشرية وأدركوا تلك الأحوال التي ذكرتها لما تخيلوا ما تخيلوه.
إن تخيّل المصالح وبدون ضابط من الشريعة يمنع تحقق العبودية ويوقع في الشبهات، إن العبرة ليست بتحقق جزء من الخير في جانب ما - ردة فعل لجانب آخر - في نظام من الأنظمة كلا، وإنما العبرة في تحقيق ذلك النظام لمهمة الخلافة في الأرض وسلامته من الفساد كله، وأبرز معالم الخلافة في الأرض التي أمر الله بها هي:
1 -
تحقيق العبادة لله وحده بلا شريك.
2 -
تحقيق وحدة الجنس البشري بإقامة الأمة الواحدة.
3 -
تعمير الأرض وإقامة العدل الرباني فيها.
فهل يمكن أن يحقق هذا غير الشريعة الإِسلامية، كلا، إن البشرية حينئذ ستدرك وتعيش في الوقت نفسه وحدة المنشأ والمنهج والمصير، وستسقط تلك الأنظمة التي تتراءى فيها بعض المصالح، وسيعلم المنحرفون عن الشريعة الإِسلامية أن العقل لا يستقل بإدراك المصالح، ولو أمكنه لأخرج الوثنيين عن وثنيتهم، والشيوعيين عن إفكهم وظلمهم وإلحادهم، والرأسماليين عن إعراضهم عن العدل الرباني في الأرض، وعن صدهم عن سبيل كثيراً، ولأخرج اليهود من قوميتهم وحقدهم وكفرهم، ولأخرج الفرق الضالة قديماً وحديثًا عن تناقضها واختلافها ولحقق في النهاية إقامة الأمة الواحدة والعدل الرباني في الأرض، وهؤلاء وأولئك عقلاء بل وفيهم حكماء، فأين عقولهم من تحديد المصالح ودفع المفاسد.
إن هذه الشريعة جاءت لتحكم "العقل" البشري وتحقق للناس كافة جميع مصالحهم وتحول بينهم وبين أهواء عقولهم، فكيف ينقلب الأمر ليتحكم العقل المحدود بالزمان والمكان، المتصف بالبشرية والضعف وقصور العلم في هذه الشريعة التي لا يحدها زمان ولا مكان، وهي التي لم يسطّر فيها الأولون
ولا الآخرون سطرًا واحداً بل هي وحي يوحى تنزيل من حكيم حميد، ولذلك فهي ليست إقليمية ولا محلية ولا زمانية كلا، بل أنزلها الله لتكون حجته على عقول عباده من الأولين والآخرين والعرب والعجم .. ومن ثم كانت حاكمة على كل شيء، تفرق بين المصالح الموهومة المتخيلة، والمصالح الحقيقية الشرعية، فما حكمت بأنه مصلحة فهو كذلك علمه من علمه وجهله من جهله، وما حكمت بأنه مفسدة فهو كذلك علمه من علمه وجهله من جهله، وبهذا الإدراك لطبيعة هذه الشريعة - ومن قبل ذلك - لحقيقة الإِيمان تجعل المؤمن وغير المؤمن يشعر بتلك السعة، حتى ليخيل لغير المؤمن أنها يمكن أن يدخل فيها كل شيء فلا يمكن تحديدها، ويضل الله من يشاء ويهدي من يشاء، يضل بذلك الذين لا يعلمون، ويزداد الذين آمنوا إيمانًا ..
وبعد أن علمنا بتوفيق من الله سبحانه حقيقة الثبات والشمول، وكيف اتسعا ليحققا لنا في النهاية - بفضل من الله - حسن العبودية له وتعمير الأرض بمنهج الله الذي لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلّا شملها بحكمه في جمال وكمال واستقامة وطهر، ننتقل بعد ذلك لمعالجة فكرة خرجت عن هذه القاعدة وخَيّل لأصحابها مفهوم الشمول بما فيه من سعة أن الأحكام تتغير بتغير الزمان، وإنما عند هؤلاء مفهوم الثبات واختلت ضوابطه، وحسّنوا الظن بالعقل البشري في مجال إدراك المصالح، وقذموا حكمه على حكم الشرع، إما بإخراج بعض أفراد النص وإما بإيقافه مطلقاً، وقد استندوا إلى شبه كثيرة، وسأعرض أفهامهم وأناقش أعظم شبههم مؤكدًا في الوقت نفسه على تعميق مفهوم الثبات والشمول .. والله الموفق والمعين.
المبحث الخامس
القول بتغير (1) بعضر الأحكام بتغير الزمان عرض ونقد - مع دراسة تطبيقية
توطئة:
يكثر الكلام عند بعض الباحثين على أن هناك قاعدة شرعية إسمها "تغير الأحكام بتغير الزمان" ويقصدون بعض (2) الأحكام المتصلة بالمعاملات دون العبادات، والتغير أوجبه عندهم تغير المصالح والأعراف والعادات.
فالأحكام الشرعية المتصلة بمعاملات الناس وعاداتهم وأعرافهم جاءت لتحقق مصالح معينة، وهذه المصالح تتغير في كثير من الأحيان بسبب تغير الزمان، وحينئذ ينبغي -كما يرى أصحاب هذا الرأي- أن تتغير تلك الأحكام ما دام قد تغيرت مصالحها، ومن هنا وضعوا تلك المقالة وسموها قاعدة.
وفي هذا الفصل نحدد موضع النزاع بيننا وبينهم ونحرره وخاصة أنه شديد الالتباس، واهتم بعد ذلك بتصوير رأي المخالفين وذكر مستندهم ومناقشتهم مع تتبع كثير من التطبيقات التي هي موضع النزاع وبيان وجه الصواب في تفسيرها، وبذلك أصل إلى تحديد حجم هذه المقالة وما فيها من
(1)"تغيّر الشيء عن حاله تحوّل وغيّره حوّله وبدّله كأنه جعله غير ما كان" اللسان - مادة "غير" 5/ 40.
(2)
انظر تقييد ما ورد من الإِطلاق في هذه المقالة، وقد حرر ذلك الأستاذ: علي أحمد غلام الندوي في رسالته للماجستير "القواعد الفقهية وأثرها في الفقه الإِسلامي" مخطوط جامعة أم القرى ص 55. وقد تبين أن هذا الإِطلاق غير صحيح ..