الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البشرية
…
إن البشر وهم يضعون الأحكام لا يدركون طبيعتهم ولا حقيقة الفطرة ولا حقيقة الإِنسان ولا حقيقة الكون ومن ثم تحملهم الظنون والأوهام فيضعون الأحكام التي تحكم الإِنسان والمجتمع على غير علم ولا بصيرة .. ويلجؤون أمام هذا الوهم والظن والجهل إلى تغيير هذه الأحكام وتبديلها حسب تغيّر نظرتهم للإِنسان وفطرته
…
وُيصرّون على أن يدركوا حقيقة الفطرة وحقيقة الكون والحياة وهم لا يملكون القدرة على ذلك .. فلا يزالون يخرجون من قانون إلى قانون ومن فكرة إلى فكرة ومن مذهب إلى مذهب يتخبطون وتتخبط معهم مجتمعاتهم وتضطرب أفئدتهم ونفوسهم فلا يزالون منحرفين تلعب بهم رياح المذاهب المختلفة المتناقضة المضطربة المتبدلة المتغيّرة لا تأوي بهم إلى قرار ولا تخرجهم من حيرة ولا تمنعهم من شقوة.
والله العليم الخبير الحكيم الرحيم يدعوهم -وهو العليم بهم وبما حولهم من خلق السماوات والأرض- يدعوهم إلى الكلمة الثابتة والمنهج المستقر التام الذي شرعه الله لنفوسهم وعقولهم وأرواحهم وأبدانهم ومجتمعاتهم يكفل لهم ولفطرهم ولهذه الحياة والأحياء العدل والصدق في العقيدة والشريعة .. فلا ظنون ولا أوهام ولا جهل ولا ضلال ولا ضياع ولا تغيير ولا تبديل .. "وتمت كلمة ربك عدلًا وصدقاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم".
المطلب الثالث
الدليل الثاني
وهو دليل يتكون من مقدمتين:
الأولى: أن هذه الشريعة شرعها الله العليم الحكيم لتحقيق مصالح العباد.
الثانية: يلزم من ذلك أن لا يختل لها به نظام لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وهذا معنى الثبات.
دليل المقدمة الأولى:
استقرأ الإِمام الشاطبي الشريعة من أكثر من موضع، فوجد أن تفاصيل
العلل للأحكام قد انتشرت في القرآن والسنة، وأن ذلك يفيد أنها شرعت لمصالح العباد، وهذا الاستقراء - كما يقول رحمه الله لا يستطيع أن ينازع فيه أحد (1).
إجراء الاستقراء:
وردت آيات كثيرة في القرآن تفيد بأن الأحكام شرعت لمصالح العباد، ومن هذه الآيات:
1 -
ما ورد في بعثة الرسل الذين بلغوا الشرائع وهم الأصل ومن ذلك قوله تعالى:
(1) الموافقات 2/ 3 - 4.
لأنه لا يمكن نقضه أبداً، وعلى ذلك كل من يقول بالقياس، وسيأتي معنا تحقيق القول بأن إجماع الصحابة على العمل بالقياس
…
وعلى ذلك مذهب أهل السنة، وأما من أنكر القياس أو التعليل فإنه يعتقد أيضاً أن الشريعة شرعها الله رحمة بعباده وإصلاحاً لهم وإقامةً لحوائجهم وتكفلاً بسعادتهم في الدنيا والآخرة .. وإنما أوقعهم في إنكار ذلك اتباع الجدل الذي ابتليت به الأمة، ووفعت فيه طوائف كثيرة من الفلاسفة والمعتزلة والأشاعرة .. فأنكر منهم من أنكر التعليل وهو ينطلق من الرد على المعتزلة فوقع بسبب ذلك إمّا في الاضطراب كما فعل الرازي حيث أنكر التعليل وأقر بالقياس ..
وانظر كشف هذا الاضطراب في هامش تحقيق كتاب المحصول للدكتور طه جابر العلواني - القسم الثاني ج 2 - 271 إلى 273 وإمّا في ردود الفعل كما فعلت الظاهرية حيث أنكرت القياس ..
والنجاة من ذلك كله الخروج عن منهج الجدليين والتزام المنهج القرآني كما فعل الإمام الشاطبي ومن قبله أئمة السلف أمثال الشافعي ومالك وابن القيم وشيخه وغيرهم كثير حيث التزموا المنهج القرآني اتباعاً لمنهج الصحابة وفروا من منهج الجدليين وهو منهج الفلاسفة والمعتزلة ومن حذا حذوهم .. وعالجوا مناهج الجدليين في اعتدال وتوسط بعيداً عن ردود الفعل، وحذروا وحذّروا من الوقوع فيها، وهذا هو الذي ينبغي المصير إليه في التعلم والتعليم والكتابة والمناظرة والدعوة إلى الإِسلام.
(2)
سورة النساء: آية 165.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1).
فالرسل بعثوا رحمة للعباد، والرحمة بهم هي حفظ مصالحهم فشرائع الرسل جاءت إذاً بمصالح العباد العاجلة والآجلة.
2 -
ما ورد في أصل الخلقة: فقد امتن الله على عباده بأنه إنّما خلقهم لعبادته ووعدهم على ذلك الحياة الطيبة في الدنيا والثواب المقيم في الآخرة، وهذا معنى أن هذه الشرائع التي جاءت تحمل تكاليف العباد إنّما جاءت لمصالحهم.
ومن هذه الآيات الدالة على هذا المعنى قوله تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3).
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (4).
3 -
وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى، منها:
(1) سورة الأنبياء: آية 107 - ومثلها في المعنى كثير، من ذلك ما جاء في سورة القصص: آية 43، سورة الروم: آية 21.
(2)
سورة هود: آية 7.
(3)
سورة الذاريات: آية 56.
(4)
سورة الملك: آية 2.
(5)
سورة المائدة: آية 6.
والآية جاءت بعد آية الوضوء، وقال في الصيام:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1).
وفي الصلاة:
{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (2).
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (3).
وفي القصاص:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4).
ومقصود الإِمام الشاطبي من هذه الآيات والأمثلة التنبيه كما قال (5) وأما حصر الآيات الواردة في الحكمة من إرسال الرسل ومن خلق الإِنسان والحياة والموت وكذلك ما ورد فيها من ذكر تفاصيل العلل فإن ذلك يحتاج إلى كتاب جامع يحصرها لكثرة انتشارها في نصوص الكتاب والسنة، ولذلك نجد الحافظ ابن القيم رحمه الله قد ذكر آيات وأحاديث كثيرة جداً تدعم هذا الاستقراء وتقويه وتؤكده (6).
وأما دليل المقدمة الثانية: فإن الشريعة لو وُضِعتْ على غير حالة الثبات لأدى ذلك إلى تغييرها، فإذا تغير منها شيء اختل، ولأن تغيّر شيء منها موجب
(1) سورة البقرة: آية 183.
(2)
سورة العنكبوت: آية 45.
(3)
سورة الحج: آية 39.
(4)
سورة البقرة: آية 179.
(5)
الموافقات 2/ 4.
(6)
انظر إعلام الموقعين لإبن القيم الجوزية 1/ 130 - راجعه وعلّق عليه طه عبد الرؤوف، الناشر دار الجيل - بيروت 1973.