الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو القدر الذي اتفق عليه العلماء، حاشا الطوفي الذي شذ عن الإِجماع، ثم جاء الشلبي من بعده فطم الوادي على القرى ..
هذا بالنسبة للقسم الأول الذي نقله عن الشاطبي واتجه به إلى معنى آخر - لم يقصده الشاطبي ولا غيره من الأئمة - أراد به نصرة رأي الطوفي، وقد تبين الفرق بين منهج الشاطبي وصنيع المؤلف.
المطلب الثامن
الفرق بين العبادات والعاديات
تشمل الشريعة الإِسلامية هذين القسمين:
الأول: هو العبادات، ويدخل فيها من الشرائع أداء الصلوات والحج والنذر والصيام ونحو ذلك.
الثاني: وهو العاديات أو المعاملات، ويدخل فيها من الشرائع القرض والقضاء والحكم في الخصومات ونحو ذلك.
والأول يغلب عليه كونه حقًّا خالصًا لله أي بين العبد وربه، والثاني يغلب عليه كونه حقًّا للآدمي.
هذا هو معنى التقسيم الذي ورثناه عن الفقهاء، بقي أن نتعرف على الفرق بينهما لصلة هذا البحث بما نحن فيه ..
والفرق بينهما: أن العبادات توقيفية ليس للعبد معها إلّا مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان (1)، وأن المعاملات والعاديات إذا عُلم المعنى الذي شرعت من أجله وعُلم وجوده في محل آخر نقل إليه ذلك الحكم بطرق من طرق مسالك العلة المعلومة
…
أما موضع الاتفاق بين العبادات والعادات فيظهر فيما يلي:
(1) الموافقات 2/ 226 - 227.
1 -
أنهما جميعًا من أحكام الشريعة الإِسلامية، ويجب الالتزام بها لأنها من الدين الذي أمرنا الله باتباعه، ولا يجوز تبديلها ولا تغييرها ولا تعطيلها بل الواجب توقيرها وتعظيمها والانقياد لها لأنها من عند الله العزيز الحكيم.
2 -
أن المطيع لأمر الله في العبادات والعادات مثاب، لأنه أدى حق الله عليه، سواء بأداء الصلوات أو بأداء حقوق الناس كما أمره الله، فحق الله فيها ظاهر، ولذلك تشترك في معنى التعبد من هذه الجهة، فهي عبادة لله، فكما تتحقق عبادة الله بالتوحيد تتحقق بأداء الصلوات والحج والصوم والزكاة، وتتحقق بالتزام حكم الله في الاقتصاد والاجتماع والحكم والسياسة.
فمن إلتزم في ذلك كله أمر الله - يرجوا بذلك وجه الله - فهو متعبد مأجور، ومن خالف فبحسب مخالفته، وإنما يتحقق الأجر في كل ذلك لأن فيه معنى التعبد أي معنى عبادة الله، وهذا حاصل ما قرره الشاطبي بأدلة واضحة بينة في المسألة التاسعة عشرة، ليقول لنا أن كل تكليف فيه حق لله (1).
وبملاحظة مواضع الاتفاق والاختلاف يمكن معالجة هذه الشبهة التي يمكن أن يقع فيها بعض الناس وهي: أن ملاحظة معنى "التعبد" في العاديات من تلك الجهة وبذلك المقصود، مانع من اتباع القياس الشرعي والمصلحة المعتبرة أو بلفظ آخر مانع من التعدية.
وهذا ما فهمه الشلبي حيث قال: "استند هذا الفريق في مدعاة أن المعاملات ملاحظ فيها التعبد" إلى أمور منها، ثم ذكر أدلة الإِمام الشاطبي على المسألة التاسعة عشرة التي أشرت إليها آنفًا، ثم حاول الإِجابة عنها (2).
ولا نحتاج هنا إلى مناقشته، فضلًا عن ذكر أدلة الشاطبي وتعليقه هو فإن ذلك لا ضرورة له، وذلك أن الإِمام الشاطبي لم يقصد بإثبات معنى التعبد في العاديات منع التعدية فيها، لأنه يقر بالفرق الذي ذكرته بين العبادات والعاديات
(1) المسألة التاسعة عشرة: الموافقات 2/ 228 - 229 - 230 - 231.
(2)
تعليل الأحكام 297 - 298 - 299.
وبمواضع الخلاف، فهو يرى في وقت واحد أن: العاديات الأصل فيها اتباع المعاني، فيعدي المجتهد الحكم إلى غير محله بشرط أن يلتزم مسالك العلة فلا يؤدي به اجتهاده إلى رد ما جاء به الشرع، وسواء عدى الحكم أو لم يعده فإن أحكام العاديات كلها فيها معنى التعبد من جهة - لا تمنع التعدية - وإنما هي ضرورية لربط قلب المؤمن بالله، فهو إذ يلتزم بأحكام العاديات إنما يلتزم أمر الله فإذا أخذ ما أخذ، وترك ما ترك من تحت الإِذن الشرعي فإنه عابد مُتبعٌ مؤدٍ حق الله وهذا معنى قول الشاطبي: الأصل في العاديات الالتفات إلى المعاني وذلك لتتحقق التعدية، وأن فيها معنى التعبد وذلك لتحقق معنى العبادة والأجر والثواب عليها.
فإذا كان الأمر كذلك فهل يجوز لباحث أن يناقش أدلة الشاطبي على أن العاديات وإن اعتبر فيها اتباع المعاني - فلا بد فيها من اعتبار التعبد، وذلك ليقول: إن الأدلة السابقة - ويقصد أدلة الشاطبي - فيها ضعف ظاهر ولا يصلح التمسك بها في مقام الحجاج (1).
وأدلة الإِمام الشاطبي التي ناقشها د. شلبي هي الأدلة التي ذكرها على المسألة التاسعة عشرة - لإِثبات أن "كل تكليف فيه حق لله"(2) ومن يناقش في هذا أو يجادل؟!
وهذا دليل على أن الشلبي لم يفهم ما يريد الشاطبي أن يقوله في المسألة التاسعة عشرة فأخذ يناقشه في أربعة صفحات (3).
فإن قيل: إذا كان الشاطبي يقول بالتعدية والشلبي يجادل عنها ليثبت أن في العاديات تعدية فما الفرق بينها؟ والجواب أن الشاطبي متبع للإِجماع في الالتزام بالضوابط، وعدم التقديم على النص أي مصلحة، ولو اجتمعت عليها عقول العقلاء وأفهام الحكماء، ولا تغير ولا تبديل في المعاملات وأحكام النظام الاجتماع، وأما الشلبي فبضد ذلك وقد مر بيانه.
(1) تعليل الأحكام 300.
(2)
الموافقات 2/ 231.
(3)
تعليل الأحكام 299 - 300 - 301 - 302.
وأختم الجواب عن هذه الشبه بالإِشادة بمجهود الشاطبي المبارك في كتابه، ذلك أنه يتكلم عن الإِسلام وهو يلاحظ عقيدته ومنهجه في الاستدلال وأحكامه ومقاصده.
فإن شئت أن تجد في كلامه اتباعًا للسلف ومفارقة للبدعة والمبتدعين وجدته، وإن شئت أن تجد - سلامة من آثار علم الكلام - يترتب عليه ضبطًا لمنهج الاستدلال وجدته، وإن شئت أن تجد إبرازًا لمقاصد الشارع، وإظهارًا لمعنى التعبد في جميع أحكامه وجدته، كما هو الحال في مسألتنا هذه (1).
ومن يعلم مدى ما أدت إليه أمثال هذه الشبهة حتى فُهم الإِسلام على أنه عبادات لها الاحترام، ومعاملات يمكن أخذها من غير الشريعة أو يمكن التزامها بدون الشعور بمعنى العبادة فيها، حتى أصبح مفهوم التعبد مقصورًا على نوع خاص من الأحكام، من علم ذلك شعر بالجهد المبارك الذي بذله الشاطبي .. وشعر في الوقت نفسه بشدة حاجتنا إلى التعرف عليه وإظهاره.
وهذا الجهد المبارك هو المدد الذي ييسره الله على أيدي العلماء الربانيين، فينقلونه من جيل إلى جيل، فيحفظ الله بهم الفهم الصحيح لهذا الدين، الذي عاش به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان غير مبدلين ولا مغيرين في غير ما حرج ولا ضيق {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} .
وكلما أردنا أن نفهم هذا الدين .. كما فهمه جيل الصحابة والتابعين فلابد من أن نأخذه عن أولئك العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين تابعوا الجيل القدوة وسلموا من آثار الفرق الضالة قديمًا وآثار الغزو الفكري حديثًا، وتحققوا بهذا الدين ونصروه، وهؤلاء هم العلماء الربانيون الراسخون نفعنا الله بهم ورزقنا ما رزقهم (2).
(1) وانظر المقدمات على سبيل المثال - من كتاب الموافقات 1/ 11 - 62 لتزداد يقينًا بهذا الذين نقوله.
(2)
انظر المقدمة الثانية عشرة 1/ 52.