الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قاس أكثر من مائة قياس (1).
الفرع الثاني
عمل الصحابة بالقياس أو التفريق بين الرأي المذموم والرأي المحمود
من ذلك:
1 -
قياسهم حد الشرب على حد القذف: وهو محل اتفاق عندهم .. فقد استشار عمر في ذلك فقال علي: أراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون فاجتمعوا على ذلك" (2) قال ابن القيم:"ولم ينفرد علي بهذا القياس بل وافقه الصحابة".
2 -
قياس ابن عباس في مناقشة الخوارج: وقد ذكر ابن القيم القصة بتمامها (3). واقتصر على موضع الشاهد هنا اختصاراً.
سأل ابن عباس الخوارج عما ينقمون على علي رضي الله عنه فقالوا:
"ثلاث نقمناهن عليه، جعل الحكم إلى الرجال وقال الله:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فقلت -أي ابن عباس- قد جعل الله الحكم من أمره إلى الرجال في ربع درهم في الأرنب، وفي المرأة وزوجها {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (4) أفخرجتم من هذه قالوا نعم.
(1) وقد جمعها كتاب أقيسة النبي عليه الصلاة والسلام من 1 - 204، وانظر جاء بيان العلم وفضله 2/ 65.
(2)
قال ابن القيم وقد ذكر روايات أخرى: "وهذه مراسيل ومسندات من وجوه متعددة يقوي بعضها بعضاً، وشهرتها تغني عن إسنادها" 1/ 211.
(3)
انظر تمام القصة في الصدر السابق 1/ 214 - 215.
(4)
وتمام الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} النساء 35.
قالوا: وأخرى، محا نفسه أن يكون أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فأمير الكافرين هو، فقلت لهم
…
إنه لما كان يوم الحديبية جاء سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، فقال رسول الله لعلي:"أمح يا علي" أفخرجتم من هذه قالوا نعم .. قال ابن القيم: "وقياسه المذكور من أحسن القياس وأوضحه"(1). وذلك لأنه قاس جواز تحكيم الرجال في دماء المسلمين على جواز تحكيم الرجال في قتل الصيد للمحرم، وفي الخلاف بين الزوجين، بل هو أولى، وذلك أن الله أمرهم بأن يحكموا في ذلك كله بما يوافق شريعته التي أنزلها وكذلك قاس جواز ما فعله علي عندما محى اسمه على مشروعية ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية. (2)
3 -
أنكر ابن عباس على زيد بن ثابت رضي الله عنهما مخالفته للقياس، فقد ذهب زيد بن ثابت إلى منع الجد مع الأخوة من الإرث فقال ابن عباس:"ألا يتقي الله زيد؟ يجعل ابن الابن إبناً ولا يجعل أب الأب أباً؟ ".
قال ابن القيم: "وهذا محض القياس"(3).
4 -
إنكار الصحابة للرأي المذموم: من ذلك ما ورد إنكاره في قول أبي بكر الصديق وعمر وابن مسعود وعلي وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت ومعاذ وأبي موسى ومعاوية رضي الله عنهم، ونقل ذلك عن الشعبي وسفيان بن عيينة وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وابن شهاب وغيرهم (4).
وهذا الرأي الذي أنكروه هو الرأي المذموم وهو عند ابن القيم أقسام:
1 -
الرأي المخالف للنص: قال: وهذا معلوم بطلانه بالضرورة من دين الإِسلام.
(1) المصدر السابق 1/ 215.
(2)
المصدر السابق من 1/ 203 - 218.
(3)
المصدر السابق 1/ 215.
(4)
انظر أعلام الموقعين 1/ 53 - 54 - 56 - 58 - 59 - 60 - 73 - 74.
2 -
الرأي الذي هو خرص وظن مع تفريط في معرفة النصوص وفهمها.
3 -
الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والقدرية ومن ضاهاهم.
4 -
الرأي الذي أُحدثت به البدع وغُيرت به السنن (1).
5 -
الرأي المؤدي إلى تعطيل السنن والبعث على جهلها والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع بعضها إلى بعض قياساً دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها، وحكاه عن ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم (2).
ثم مثل ابن القيم للقياس الفاسد بقياس البيع على الربا بجامع اشتراكهما في كونها عن تراض ومعاوضة مالية (3)، وقياس الميتة على المُذكى في جواز أكلها لأنهما يشتركان في إزهاق الروح (4).
قال: "ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين"(5).
(1) أعلام الموقعين 1/ 67 - 68 - 69. وقال: "وهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وإخراجه من الدين" 1/ 69. وهذه الأقسام الأربعة بعضها يرجع إلى بعض فالرابع يرجع إلى الثالث، والثالث يرجع إلى الأول والثاني، باعتبار أن البدع مُخَالفة للنص واتباعٌ للخرص والظن.
(2)
ومقصود ابن عبد البر ذم القياس القائم على غير أصل ولذلك قال أما من رد الفروع إلى أصولها قياساً فعمله مشروع لأنه رد إلى أصل، انظر ما سبق وانظر أعلام الوقعين 1/ 67 - 68.
(3)
أعلام الموقعين 1/ 133 ويقصد به قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} البقرة 275.
(4)
أعلام الموقعين 1/ 133.
(5)
أعلام الموقعين 1/ 133.
ويقصد رحمه الله القياس الفاسد والرأي المذموم.
ثم قال بعد ذلك: "وتجد في كلامهم استعماله والاستدلال به وهذا حق كلما سنبينه إن شاء الله تعالى"(1).
وقد بينت محل الذم كما سبق، وأما استعمال السلف والاستدلال به فإليك بيان أنواع الرأي المحمود:
1 -
رأي الصحابة فقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته (2).
2 -
الرأي الذي يفسر النصوص ويبين وجه الدلالة منها ويقررها ويوضح وشمهل طريقة الاستنباط منها (3).
3 -
والرأي الذي تواطأت عليه الأمة وتلقاه خلفهم عن سلفهم (4).
4 -
ما كان أقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله وأقضية الصحابة (5).
والحاصل أن الرأي المذموم هو الرأي المجرد الذي لا دليل عليه، بل هو خرص وتخمين، وهذا أجمع الصحابة على رده (6).
والرأي المحمود هو: "رأي مستند إلى استدلال واستنباط من النص وحده أو من نص آخر معه (7) فهذا من ألطف فهم النصوص وأدقه"(8).
(1) أعلام الموقعين 1/ 133.
(2)
أعلام الموقعين 1/ 81.
(3)
المصدر نفسه 1/ 82.
(4)
المصدر نفسه 1/ 83.
(5)
المصدر نفسه 1/ 85.
(6)
المصدر نفسه 1/ 69.
(7)
ويدخل في ذلك ما كان مستنداً إلى جملة نصوص. وسيأتي بيانه عند دراسة المصلحة وقضية الثبات والشمول.
(8)
المصدر نفسه 1/ 83.
وفي هذه النصوص من الكتاب والسنة بيان لمشروعية العمل بالقياس دون إفراط أو تفريط، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة بيان واضح لذلك، وهو من الأدلة على وجوب الاجتهاد حيث كانوا - رضوان الله عليهم - يجتهدون في النوازل ويعتبرون النظير بنظيره. وبهذا يتعرفون على شمول الشريعة، وفي الوقت نفسه كانوا أشد الناس حذراً من الرأي المذموم وبهذا حافظوا على ثبات الأحكام وسيأتي زيادة بيان لهذا إن شاء الله تعالى.