المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيالمقصود من الثبات والشمول والأدلة على ذلك - الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

[عابد السفياني]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيدفي أهم خصائص الشريعة الإِسلامية بوجه عام

- ‌الباب الأولالشريعة الإِسلاميةثباتها وشمولها وحجيتها

- ‌الفصل الأولالشريعة الإِسلامية والفقه الإِسلامي

- ‌المبحث الأولالتعريف بمصطلح الشريعة الإِسلامية

- ‌المطلب الأولالمعنى اللغوي

- ‌المطلب الثانيالمعنى الشرعي

- ‌المبحث الثانيتعريف "الفقه الإِسلامي" وبيان الفرق بينه وبين "علم الكلام

- ‌المطلب الأولتعريفه في اللغة

- ‌المطلب الثانيتعريف الفقه في الاصطلاح وهل هو علم أو ظن

- ‌الفرع الأولذكر أهم التعريفات

- ‌الفرع الثانيالقيود المتفق عليها

- ‌الفرع الثالثاستخراج أهم القيود المختلف فيها وهل الفقه من المعلومات أو من الظنيات

- ‌الفرع الرابعالمناقشة

- ‌الفرع الخامسمقارنة بين "علم الكلام" و"علم الفقه

- ‌المبحث الثالثالفرق بين "الفقه" و "الشريعة

- ‌الفصل الثانيالمقصود من الثبات والشمول والأدلّة على ذلك

- ‌المبحث الأولالمقصود من الثبات والأدلة على ذلك

- ‌المطلب الأولمعنى الثبات في اللغة

- ‌المطلب الثانيالدليل الأول على ثبات الشريعة

- ‌المطلب الثالثالدليل الثاني

- ‌المطلب الرابعالدليل الثالث

- ‌المطلب الخامستطبيقات على منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - في المحافظة على ثبات الأحكام

- ‌المبحث الثانيالمقصود من الشمول والأدلة على ذلك

- ‌المطلب الثانيالدليل الأول على الشمول

- ‌المطلب الثالثالدليل الثاني على الشمول

- ‌المطلب الرابعالدليل الثالث على الشمول

- ‌الفرع الأولذكر كلام المفسرين في معنى الإكمال

- ‌الفرع الثانيذكر كلام الشاطبي في معنى الإِكمال

- ‌الفرع الثالثحاصل كلام أهل العلم في معنى الإِكمال

- ‌الفرع الرابعذكر بعض الشبه والجواب عنها

- ‌الفصل الثالثالاحتجاج بالأدلة النقلية

- ‌المبحث الأولقوّة الأدلّة النقلية

- ‌المطلب الأول

- ‌المطلب الثانيالاستقراء يثبت أن هذه البينات والجوامع لا بد من العلم والعمل بها معًا

- ‌المطلب الثالثالشريعة هي الحجة على الخلق على الإِطلاق والعموم

- ‌الفرع الأولذكر رواية البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما

- ‌الفرع الثانيذكر حديث معاذ كما رواه مسلم

- ‌الفرع الثالثذكر روايتي البخاري عن البراء وأنس رضي الله عنهما

- ‌المطلب الرابعذكر اتفاق الصحابة والتابعين على ذلك كما نقله الثقات من أهل العلم

- ‌المطلب الخامسذكر أوصاف الشريعة

- ‌الفرع الأولأوصاف الشريعة كما بينها الشاطبي

- ‌الفرع الثانياعتراض وجوابه

- ‌المبحث الثانينشأة القول بتضعيف الأدلة النقلية

- ‌المطلب الأولحقيقة هذه المقالة وموقف الخوارج والمرجئة منها

- ‌المطلب الثانينشأة هذه المقالة على يد المعتزلة

- ‌الفرع الأولمقالة واصل بن عطاء رأس المعتزلة (80 - 151)

- ‌الفرع الثانيتطور فكر المعتزلة على يد أبي الهذيل العلاف(توفي سنة 232 ه

- ‌الفرع الثالثتطورها مرة أخرى على يد النظام

- ‌المبحث الثالثأهم الأسباب التي ساعدت على انتشار القول بالظنية

- ‌المطلب الأولموقف الخوارج من رد السنة

- ‌المطلب الثانيموقف الفلاسفة وبيان وجه ارتباط تلك البدعة به، وذكر شبهة المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة

- ‌المطلب الثالثمناقشة شبهة المخالفين والجواب عنها بأكثر من وجه

- ‌الباب الثانيالاجتهاد وأهم طرقه وقضيّة الثبات والشمول

- ‌الفصل الأولالاجتهاد وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولحكمه وحكمته وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المبحث الثانيأنواع الاجتهاد وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولتنقيح المناط

- ‌المطلب الثانيتخريج المناط

- ‌المطلب الثالثتحقيق المناط

- ‌المبحث الثالثأذكر أهم شروط الاجتهاد وأثرها على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولالعلم بلغة العرب

- ‌المبحث الرابعضوابطه وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولالبناء على غير أصل

- ‌المطلب الثانيالجهل بلغة العرب

- ‌المطلب الثالثالاعتماد على "العقلى واتباع المتشابه

- ‌الفصل الثانيالعموم وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولمقارنة بين الإِعجاز الكوني والإِعجاز التشريعي وبيان سماته

- ‌المبحث الثانيالعموم اللفظي

- ‌المطلب الأول

- ‌الفرع الأولطريقة الإِمام الشاطبي

- ‌الفرع الثانيالاعتراضات التي ذكرها وأجاب عنها

- ‌الفرع الثالثاعتراضات أخرى وجوابها

- ‌المطلب الثانيطريقة المتكلمين ومناقشتها

- ‌الفرع الأولذكر طريقة المتكلمين

- ‌الفرع الثانيمناقشة الحنفية والإِمام الشاطبي والإِمام ابن تيمية لطريقة المتكلمين

- ‌الفرع الثالثمناقشة ابن تيمية لطريقة المتكلمين ومقارنتها بمذهب الشاطبي

- ‌الفرع الرابعتحليل طريقة المتكلمين وبيان الفرق بينها وبين طريقة السلف كما يمثلها الشاطبي

- ‌الأول: أصل رفع الحرج:

- ‌الثاني: قاعدة سد الذريعة

- ‌الفصل الثالثالقياس وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولطريقة الإِمام ابن القيم

- ‌الفرع الأول الأدلة من الكتاب والسنة:

- ‌الفرع الثانيعمل الصحابة بالقياس أو التفريق بين الرأي المذموم والرأي المحمود

- ‌المبحث الثانيطريقة الإِمام الشاطبي

- ‌المطلب الأولالأدلة على إثبات القياس

- ‌المطلب الثانيجوابه عن أقوال المعاوضين

- ‌المطلب الثالثالإِجماع

- ‌المبحث الثالثتطبيقات على أركان القياس وبيان شرط التعليل بالحكمة

- ‌المطلب الأولتطبيقات على أركان القياس

- ‌الفرع الأول

- ‌الفرع الثاني

- ‌الفرع الثالث

- ‌الفرع الرابعتحقيق مذهب الإِمام الشاطبي في التعليل بالحكمة

- ‌الفرع الخامسبيان أثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الثالثالقياس منهج شرعي لا مسلك عقلي

- ‌الفصل الرابعالمصلحة وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولتعريف المصلحة والتأكيد على الضوابط الشرعية فيه

- ‌المبحث الثانيالعقل لا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد

- ‌المبحث الثالثالمصلحة ودلالتها على الثبات

- ‌المبحث الرابعالمصلحة ودلالتها على الشمول

- ‌المطلب الأولتحرير موضع النزاع

- ‌المطلب الثانيأسباب التغير وتصوير مذهب المخالفين

- ‌ المطلب الثالث

- ‌المطلب الرابعبيان موقف الصحابة - رضوان الله عليهم - من النصوص

- ‌المطلب الخامسمناقشته في رده لضوابط المصلحة عند الأصولين

- ‌المطلب السادسمناقشة اعتباره المصلحة دليلاً مستقلاً

- ‌المطلب السابععدم فهم بعض الباحثين لمعنى "التعبد" في الشريعة ومناقشته فيما نقله عن الشاطبي

- ‌المطلب الثامنالفرق بين العبادات والعاديات

- ‌المطلب التاسعمناقشة ما نسبه بعض الباحثين إلى الإِمامين: ابن القيم والشاطبي

- ‌الفرع الأولفيما نسبوه إليهما

- ‌الفرع الثانيالمناقشة

- ‌المطلب العاشرموقف الشريعة من العادات والأعراف والمصالح

- ‌الفصل الخامسمواطن الإِجماع ومواطن الخلاف وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولكيفية تحقق الثبات والشمول في الحكم المجمع عليه

- ‌المطلب الأولالاعتراض الأوّل وجوابه

- ‌المطلب الثانيالاعتراض الثاني وجوابه

- ‌المطلب الثالثالاعتراض الثالث وجوابه

- ‌المبحث الثانيكيفية تحقق الثبات والشمول في الأحكام التي لم يتحقق فيها إجماع

- ‌خاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌الفصل الثانيالمقصود من الثبات والشمول والأدلة على ذلك

‌الفصل الثاني

المقصود من الثبات والشمول والأدلّة على ذلك

تمهيد وتوطئة:

إن جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - قد أدرك صفات هذه الشريعة وآمن بها إيماناً لم يبلغ قمته جيل آخر من أجيال المسلمين، ويرجع ذلك إلى أنهم أوفر الأجيال حظاً في العربية والقدوة، فقد انطلقت دعوة التوحيد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتلو القرآن معرفاً الناس بربهم الواحد سبحانه، وأنزل الله سبحانه في هذا القرآن أكثر من الثلثين من آياته كلها تتحدث عن التوحيد (1)، وأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام في تبليغ هذه الدعوة على تلك الطريقة الربانية والصحابة - رضوان الله عليهم - أشد ما يكونون تأثراً بها واستجابة لها.

وكان من معالم تلك الطريقة الحديث الواسع المستمر عن صفات الله سبحانه وتعالى، وتجديد معرفة الناس بهذه الصفات وتذكير الفطرة بها وإزالة الشبهات عنها، واستمرار الخطاب والتربية على ذلك حتى تصح معرفة الناس بربهم وتتعمق وترسخ فيستقر الإِيمان في القلوب في رضى وطمأنينة وقبول لأحكام هذه الشريعة ويتحقق الاستسلام لها والإِذعان، فتارة يحدثهم القرآن عن

(1) قال الأستاذ محمود محمد شاكر عن القرآن الذي نزل بمكة وآياته: "4618 جاء أكثرها في حجاج الكفار من أهل الملل جميعاً، في شأن التوحيد وتوجيه العبادة الله وحده وسائر العقائد التي اختلف الناس عليها بعد أن تباغوا بينهم فبدلوا دين الأنبياء وحرفوه واتبعوا أهواءهم" 547 - أباطيل وأسمار - الطبعة الأولى 1965 - مطبعة المدني - القاهرة.

ص: 101

قدرة الله التي ليس كمثلها شيء، ويستدل على ذلك بما في هذا الكون من مشهد السماء المرفوعة بغير عمد والأرض الممهودة، والجبال المنصوبة، والزروع والثمار، والشجر والدواب، والبحار والرياح، والشمس والقمر، والليل والنهار، والأحياء والأموات، والقبض والبسط، والتصريف والتدبير، كل ذلك في نظام محكم دقيق لا تدبره وتُمْسكه إلّا قدرة عظيمة لا يمكن للعقل أن يتصور حدودها حيث لا يعجزها شيء ولو لم تُمْسِكْهُ تلك القدرة العظيمة لانفرط عقد هذا الكون وانقطع التصريف والتدبير وانقطعت الحياة على الأرض:

{إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (1).

{وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2).

فمن علم ما في هذا الكون من مشاهد وأيقن أنها تحتاج إلى تصريف وتدبير بعد الإِيجاد والخلق والحفظ عرف من قدرة الله سبحانه ما يحمله على الإِيمان بها وبصفة أخرى تلازمها وهي صفة العلم المحيط الذي لا يند عنه شيء في الأرض ولا في السماء، إذْ لا يتحقق ذلك التصريف والتدبير والحفظ إلّا عن طريق علم واسع محيط لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.

وجميع المشاهد في الأرض تدل على ذلك، فكما عرض القرآن تلك المشاهد الأنفة الذكر على العقل البشري وهز بها الوجدان البشري ليقرر حقيقة القدرة التي ليس كمثلها شيء ولا يعجزها شيء .. كذلك استحدم المشاهد نفسها ليقرر حقيقة العلم الذي ليس كمثله شيء ولا يند عنه شيء. فالسماء المرفوعة

(1) سورة فاطر: آية 41 - وهذه الآية جاءت بعد تقرير الألوهية لله سبحانه بلا شريك لا في الخلق ولا في الأمر.

(2)

سورة الزمر: آية 67.

ص: 102

بغير عمد بجميع مجراتها تحتاج إلى علم واسع محيط يُدبرها ويصرفها .. والرزق الذي ينزل من السماء يحتاج أيضاً إلى ذلك العلم الواسع المحيط، فالمطر ينزل على الأرض بِقَدَرٍ معلوم ويحفظ فيها بقدر معلوم، والرياح تُسيّرهُ إلى بقاع الأرض المختلفة بقدر معلوم .. ويجتمع هذا النوع من الرزق وغيره كثير في هذه الأرض بقدر معلوم.

وكل هذه الدلائل تدل على أن الله هو الإِله المتصف بجميع صفات الكمال لا يستحق العبادة إلّا هو ولذلك استنكر القرآن على الكفار إعراضهم عن هذه الدلائل البينات كما قال تعالى:

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (1).

وهنا تظهر آثار التقدير والتدبير في الدلالة على صفات الله العليم الحكيم ومثل هذه الآيات قوله تعالى:

{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} (2).

وقوله سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (3).

والخَلْق بعد ذلك الذي قدّر الله له أن يعيش على هذه الأرض يعيش

(1) سورة فصلت: آية 10.

(2)

سورة المؤمنون: آية 18.

(3)

سورة الحجر: آية 21.

ص: 103

بقدرات متفاوتة وصور مختلفة، وألسنة مختلفة، وآجال محددة، وكل ذلك بقدر معلوم، يقرره ويقدّره ذلك العلم الواسع المحيط:

{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1).

وما يحتاجه ذلك الخلق مما يعقل ومما لا يعقل من أنظمة كونية ثابتة راسخة تتحقق بها الحياة على الأرض وتتيسّر وتعيش بها الأحياء من أناس ودواب وغير ذلك من خلق الله، كل ذلك جعله الله في هذا الكون مستقراً إلى يوم القيامة بقدر معلوم، وهو من أعظم آياته كما قال تعالى:

{إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (2).

ثم تحدثت الآيات عن طبيعة هذا الإنسان:

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} (3).

وهذا الإنسان الذي كرمه الله وجعل منه قبائل وشعوباً جعل له نظاماً خاصاً لسمعه وبصره وعقله وقلبه وجميع جوارحه يستعين به على إقامة الخلافة في الأرض وتعميرها .. وكل ذلك بقدر معلوم، وقد عرض القرآن هذه الآية على العقل والقلب البشري ليؤمن:

(1) سورة القمر: آية 49.

(2)

سورة الأنعام: الآيات 95 - 96 - 97.

(3)

سورة الأنعام: آية 98.

ص: 104

{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (1).

ثم أرسل له رسله وأنزل كتبه لكل جيل من الأجيال يُعلّمُه ما يحتاج من عقائد وقيم وأخلاق وأحكام وكل ذلك بعلم واسع محيط.

وختم ذلك بإرسال رسوله محمد عليه الصلاة والسلام بشريعة الإِسلام لِيُعلّم هذا الإِنسان جميع ما يحتاجه من عقائد وقيم وأخلاق وأحكام في كل قطر وعصر وحال، ما يختص به وحده وما يخصه مع الجماعة في السر والعلن والظاهر والباطن، كل ذلك بقدر معلوم، يقرره ويقدره ذلك العلم الواسع المحيط.

وقد استمر منهج التربية الإِسلامية يذكّر المؤمنين بهذه الآيات التي تدل على "الصفات" ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فإلآههم هو الله الذي خلق كل شيء وأحاط علمه بكل شيء وقدّره تقديراً ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ومن جهة أخرى استمر "الوحي" في إقامة الحجة على الكافرين في مثل قوله تعالى:

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (2).

وفي هذه الآيات تبرز طريقة القرآن في الدعوة فقد ذكر من صفات الله سبحانه - الخلق والتفرد بالملك، والغنى عن الخلق والتدبير والتقدير - ما يحمل القلب البشري على طاعة هذا الإِله واتباع شريعته .. وفي المقابل أثبت صفات

(1) سورة المرسلات: الآيات 20 - 21 - 22 - 23 - 24.

(2)

سورة الفرقان: الآيات 1 - 2 - 3.

ص: 105

العجز والحاجة والافتقار لمن يتبعهم الكفار -من دون الله أو مع الله- وهذا المنهج في الدعوة والتربية إذا استعمل على هذا النحو وعرض على القلب البشري فإنه لا بد أن تزول عنه الجهالة ويبصر الحق فإن رغب (1) في اتباعه سجد قلبه لعظمة هذا الخالق سبحانه ثم تسجد جوارحه بعد ذلك لكل ما يجيء من عند الله.

تسجد وقد شهدت هذا الإِعجاز والإِبداع في خلقه سبحانه لهذا الملكوت العظيم ويزداد إيمانها بهذا الإعجاز والإِبداع بعد أن تشهد ثباتهما وشمولهما لكل ذلك الملكوت وما فيه من مخلوقات.

ثم تسجد مرة أخرى لشريعة الله فتشهد فيها ذلك الإِعجاز والإِبداع كما شهدته في ذلك الملكوت في ثبات وشمول.

وقد استطاع منهج التربية القرآنية أن يعرف الناس بصفات الله على هذا النحو حتى أخرج خير أمة للناس تتمثل في الجيل الأول ومن تبعه بإحسان، فأدرك الناس هذه المعاني وشهدوها بعقولهم وأسماعهم وأبصارهم وقلويهم فاستسلموا لكل ما يجيء من عند الله، معرضين عما سواه، مطمئنين لمظاهر الإِعجاز في هذه الشريعة والثبات والشمول لكل ما يحتاجونه لإِقامة الخلافة على الأرض، وقد آمنت قلويهم بهذه الحقيقة وأعرضوا عما سواه -أمام الحديث المستمر الذي حققه منهج التربية القرآني- قبل أن تنزل تلك الأحكام التفصيلية، فلما نزلت ازدادوا إيماناً مع إيمانهم، فأقاموا الخلافة في هذه الأرض تحكمها هذه الشريعة المعجزة المبدعة وسط هذا الملكوت المعجز المبدع، وشعار ذلك الإِعجاز الإِبداع والشمول والثبات.

وهذا شيء يسير يصّور لنا منهج التربية الذي تربى عليه ذلك الجيل فأدرك أول ما أدرك صفات الإِله المعبود بحق على الكمال والتمام وحمله ذلك على تحقيق توحيد الألوهية فآمن وأذعن واستسلم لشريعة الله الواحد القهار

(1) لأنه قد يشهد الإعجاز ويبصر الحق ويعاند فهذا لا تنفع فيه الحجة، وقد قال الله عن مثل هذا:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} - سورة النمل: آية 14.

ص: 106

وهو يعرف حق المعرفة صفاتها -صفات الكمال- فلم تدع شيئاً من حياته إلّا حكمته ولم يدع شيئاً من أحكامها إلاّ خضع له، فكانت الشريعة الثابتة الشاملة وكان الجيل القدوة لكل الأجيال:

{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (1).

نعم لو شاء الله سبحانه لهدى الناس أجمعين، ولكنه أراد أن يبتلي عباده ويختبرهم ليكون الجزاء على ما يقع منهم .. وجعل الهداية محتاجة من الإِنسان إلى تسبب يقع منه فبقدر ما يبذل البشر من جهد للاستقامة وبقدر ما يصبرون عليها يكون نصيبهم منها، ولقد بلغ الصحابة - رضوان الله عليهم - في بذل الجهد والصبر على الاستقامة والمحافظة عليها مبلغاً لم يبلغه جيل آخر من أجيال المسلمين، فكان لهم من السلامة في الاعتقاد وإقامة الخلافة ما جعلهم قدوة لمن بعدهم، بل وجعلهم الحجة على الخلق بعد كتاب الله وسنة رسوله (2)، ولقد نعلم أن خيار هذه الأمة سلّموا الأمانة كاملة إلى الجيل الذي بعدهم .. وما زالت الأمة في سلامة في الاعتقاد مجتمعة على إقامة الخلافة في الأرض .. حتى بزغت الأهواء - عند قوم لا خلاق لهم جاءتهم تلك الأمانة - وهم لم يجهدوا فيها شيئاً فردوها ولم يأخذوها نقية صافية فالتفتوا إلى مناهج أخرى يلتمسون فيها النور والحق، بهرهم زخرفها فوقعوا في مخالفة الصحابة واستدبروا منهج الصفاء والنقاء الرباني الذي عاش عليه ذلك الجيل القدوة وهو يتعرف على صفات إلآهه ومعبوده، ومن ثم يتعرف على صفات شريعته .. فأصابهم من الضلال ما جعل تفكيرهم سفسطة وجدلاً، وحياتهم من ثم مزرعة للبدع ومتاهة يضيع فيها الجهد النفسي والعقلي ولتكون نقلتهم الأخيرة نقلة بعيدة عن منهج التلقي عند الجيل الأول، استقر عليها بعد ذلك مسلكهم في التربية والتأليف .. وكان على قمة القيادة لأهل الأهواء -في هذا الشأن- طائفة المعتزلة، ولم يلتفتوا إلى مثل قوله تعالى:

(1) سورة الأنعام: آية 149.

(2)

وذلك ما ورد في أمر الله لنا بأن نكون معهم كما سيأتي بيانه.

ص: 107

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (1).

والصادقون هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلّا مخالفتهم فذاقوا وبال أمرهم .. وأصاب المجتمع الإِسلامي بسبب تغييرهم وتبديلهم وتلقيهم من روافد خارجية وعدم اكتفائهم بالوحي فتن أشدها الاضطرابات الفكرية .. ولولا أن قيّض الله لهذا الدين من ينفي عنه تأويل وتحريف أهل الأهواء ويذكّر المسلمين بثبات هذا الدين عقيدة وشريعة وكفايته عن جاهليات الأرض لعصفت تلك الأهواء بالمجتمع الإِسلامي، وقد كان من آثارها أن انشغل الناس بما يضرهم ولا ينفعهم وذهب جهد المصلحين في درء هذا الخطر الجديد -ولو أن المجتمع الإِسلامي سلم من شر الأهواء والفتن لتوفّر جهد المصلحين وانطلق بالأمة لنشر الحق في الأرض- ومن يدري فلعل هذا الجهد لو سلم من تلك العقبات لكفى في إقامة الخلافة في جميع بقاع العالم .. ولكن الأمر كما قال تعالى:{إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2).

ولقد استمر المجتمع الإِسلامي في أداء مهمته ومتابعة الجيل الأول وإنْ لم يبلِغ مبلغه .. وما زالت الأهواء يحرسها الشيطان ويربي لها أتباعه فهي تَكْمُن حيناً وتظهر حيناً آخر لعلها تجعل الانحراف أصلاً وخاصة بعد أن جاءت ثقافات الأمم الجاهلية المتمثلة في المذاهب الفكرية المعاصرة تنادي بتغيير الدين وتبديله وتدعوا للتلقي من روافد خارجية عن الإِسلام -تتمثل في المذاهب المعاصرة وأنظمتها الوضعية- التي يُطلق عليها "الغزو الفكري" فجاء الغزو الحديث يريد أن يسعى لتغيير المفاهيم والأحكام كما سعى من قبل الغزو القديم فغير منهج التلقي عند أتباعه في قاعدة هي عمدة المنهج القرآني في التربية ألا وهي تذْكِير الناس بصفات الله سبحانه وصفات شريعته .. فإلى الحديث عن معنى الثبات والشمول في الشريعة، وتجلية موقف السلف من المفسرين والفقهاء والأصوليين من خلال دراسة بعض الآيات القرآنية والقواعد المقررة من الشريعة.

* * *

(1) سورة التوبة: آية 119.

(2)

سورة الرعد: آية 11.

ص: 108