الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آخر وهي: المسألة السابعة عشر: وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا، فإن لم يضموا إليهم فلا إشكال، أَنَّ الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم، فمن شذ عنهم فمات فميتته جاهلية.
وإن ضموا إليهم العوام فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة فلا بد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء، فإنهم لو تمالأوا على مخالفة العلماء فيما حدوا لهم لكانوا هم الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر، لقلة العلماء وكثرة الجهال، فلا يقول أحد: إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب، وأن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث، بل الأمر بالعكس، وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا، والعوام هم المفارقون للجماعة إن خالفوا، فإن وافقوا فهو الواجب عليهم" (1).
وبعد أن عرفنا أن "الأمة" التي لا تجتمع على الضلالة هي أهل العلم والاجتهاد المتمسكون بالسنّة والاتباع، وعرفنا أن إجماعهم حجة، نذكر بعض اعتراضات المعترضين عليه ونجيب عنها.
المطلب الأول
الاعتراض الأوّل وجوابه
إن الإِجماع لم تثبت حجيته في الاستدلال إلّا بطريق ظني، لأن الأدلة المثبتة له أحادية، وعليه فإن عصمته ليست بثابتة (2)، فكذلك الحكم الناتج عنه.
ونجيب عن ذلك فنقول: لقد ثبت أن الأحاديث التي وردت بعصمة الأمة على الضلالة متواترة تواترًا معنويًا .. وذلك لأمرين:
(1) الاعتصام 2/ 266، وختم رحمه الله هذه المسألة بقوله:"فليثبت الموفق في هذه المنزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل وانظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري - باب: "وكذلك جعلناكم أمة وسطًا وما أمر النبي يلزوم الجماعة وهم أهل العلم 13/ 316.
(2)
انظر آراء المخالفين في حجية الإِجماع في كف الأسرار 3/ 259، الإسنوي 1/ 30، وتعليل الأحكام 323 وقد أنكر مؤلفه تحقق التواتر المعنوي على إثبات الإِجماع.
الأول: ثبوت ظهورها من لدن الصحابة والتابعين ولم يدفعها أحد منهم حتى انقضى عصر الصحابة وعصر التابعين، فنقلها الخلف عن السلف، فلم تزل الأمة تحتج بها في أصول الدين وفروعه ويستحيل أن يكون ذلك وهي ليست بحجة.
ثانيًا: وقوع العلم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عظّم شأن هذه الأمة وأخبر عن عصمتها عن الخطأ، ونحن نجد أنفسنا موقنين بذلك كما نوقن بشجاعة علي وكرم حاتم وميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة من نسائه وتعظيمه عليه الصلاة والسلام لشأن صحابته - رضوان الله عليهم - (1).
وهذه الطريقة في الاستدلال المفيدة للقطع ترجم لها الشاطبي بقوله: " ..... الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر
القطع وهذا نوع منه (يقصد أنه كالتواتر المعنوي).
فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب وهو شبيه بالتواتر المعنوي، بل هو كالعلم، بشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما،
…
ومن هنا اعتمد الناس في الدلالة على وجوب مثل هذا على دلالة الإِجماع، لأنه قطعي وقاطع لهذه الشواغب، واذا تأملت أدلة كون الإِجماع حجة أو خبر الواحد والقياس حجة فهو راجع إلى هذا المساق لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر، وهي مع ذلك مختلفة المساق لا ترجع إلى باب واحد، إلّا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه، وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضًا فصارت بمجموعها مفيدة للقطع
…
" (2).
فالأحاديث التي وردت فيها إثبات العصمة للأمة وتناقلها الرواة من جيل الصحابة ومن بعدهم تجتمع على إفادة المقصود وهو حجية الإِجماع.
(1) كف الأسرار 3/ 258، المستصفى 1/ 175.
(2)
الموافقات 1/ 13 - 14.
هذه هي جملة الأدلة التي يستدل بها على عصمة الإِجماع وهذه هي طريقة الاستدلال، فلا وجه للقول بأن الإِجماع لم تثبت حجيته وعصمته، أو التشكيك في ذلك، لأن القائلين بذلك إما أن يطلبوا التواتر المعنوي، وهو موجود والحمد لله، وهو المستقرأ من مقتضيات الأدلة بإطلاق (1)، وذلك يفيد عصمة الأمة عن الخطأ وإما أن يطلبوا شيئًا آخر لا نعلمه، ولعلهم يريدون نصًا من القرآن يدل على ذلك، وقد وجد، واستدل به الإِمام الشافعي وهو قوله تعالى:
وهذه الآية بينة الدلالة على أن سبيل المؤمنين حجة (3)، ومن تولى عنه
(1) المصدر السابق 1/ 15.
(2)
سورة النساء: آية 115. وانظر أحكام القرآن للإِمام الشافعي 18، 19 قال رحمه الله: "لا يصليه جهنم على خلاف سبيل المؤمنين إلا وهو فرض" يعني الإِجماع طبعة 1400، دار الكتب العلمية - بيروت. وانظر الستصفى 1/ 175.
(3)
وقد ذكر بعض الأصوليين استدلال الشافعي بهذه الآية وقالوا: "المراد ويتبع غير سبيل المؤمنين في متابعة النبي عليه السلام أو مناصرته، أو الاقتداء به أو في الإِيمان به، لا فيما أجمعوا عليه، ومع الاحتمال لا يثبت القطع، وغاية ما في الباب أنها ظاهرة فيه
…
". كشف الأسرار 3/ 254، المستصفى 1/ 175.
والجواب أن يقال: أرأيت لو أجمعوا على وجوب متابعته أليس إجماعهم حجة، وكذلك على الاقتداء به ومناصرته واتباع سبيله، فسبيل المؤمنين إذن هو إجماعهم على نصرته ومتابعته .. إلخ. ومنه إجماعهم على أن هذا من دينه، وهذا ليس من دينه، فما الذي جعل بعضه داخلًا في الآية دون بعض.
وأما قوله أنها ظاهرة فيه، فقد ذكر هو أن الظواهر والعمومات من الدلائل القطعية عند أكثر مشايخ العراق وعامة المتأخرين 3/ 255، والصواب أن بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين تلازمًا فمن شاقه فقد ابتغى غير سبيل المؤمنين - لأن اتباع سبيلهم موافقته لا مشاقته، ومن لم يبتغ سبيلهم - وهو ما هم عليهم - فقد شاقه، تمامًا مثل أن نقول من عصى الله عصى رسوله ومن عصى رسوله فقد عصاه. انظر هامش 1/ 200 من كتاب الإِحكام للآمدي بتعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي ففي الآية دلالة على أن الاجماع حجة. وانظر مجموع الفتاوى 19/ 193، 194.
فقد حقت عليه العقوبة .. فما بالك بسبيل المؤمنين وهم مجتمعون في مثل عصر الصحابة - رضوان الله عليهم -، وعصر التابعين، ومن بعدهم، أفلا يكون اجتماعهم حجة، بل ما بالك بإجتماع الأمة كلها على أمر وتلقيها له بالقبول، أفلا يكون كذلك، ومن عجب أن هذه الآية وتلك الأحاديث لم تسلم من الاعتراضات، فإن سلم الدليل عند بعض الأصوليين من الاعتراض على سنده، لم يسلم من الاعتراض على دلالته. ولعل في هذا الذي ذكره الإِمام الشاطبي ما يحول بينهم وبين هذه الطريقة التي تعودوها في الاستدلال والمعارضة والجدل.
ولقد نعلم أن كثيرًا ممن لا يأخذون هذه المسألة مأخذ الشاطبي يعتقدون عصمة الأمة في عهد الصحابة بلا شك لأنهم معصومون في مجموعهم على الخطأ رضي الله عنهم ورضوا عنه.
ونعلم أيضًا أن هؤلاء الأصوليين لو سلكوا مسلكهم ذلك في الاستدلال لم تسلم الأدلة لهم على عصمة الأمة في أي عصر كان، وهم كما قلت يعتقدون عصمة الصحابة وعدالتهم، فلو أنهم سلكوا مسلك الشاطبي في الاستدلال وبنوا عليه ما يعتقدون من عصمة الصحابة، وذلك يترتب عليه القول بعصمة الأمة في ذلك العصر، وعلموا أنه لا فرق في دلالة الأدلة على عصمة الأمة في العصر الأول والذي بعده وهكذا، لسلمت لهم الأدلة وبنوا عليها مطمئنين حجية الإِجماع، وزالت عنهم جميع الإِشكالات التي منها:
1 -
أن الآيات ليست نصًا في إثبات الحجية وإن كانت تقوى من حيث الثبوت.
2 -
أن الأحاديث نص في إثبات الحجية وإن كانت لا تقوى من حيث الثبوت.
وقد خرج بعض الأصوليين من هذا حيث قرروا أن الأحاديث تقوى على إثبات الحجية كما أسلفنا، وبهذا ثبتت عندهم الحجة للإِجماع (1).
ومع هذا الذي توصلوا إليه، لا يمنع أن أقول أن أسلوبهم في الاستدلال
(1) المستصفى 1/ 174، 175 وكشف الأسرار 3/ 254 - 355.