الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهؤلاء أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغون الناس التوحيد وهم أحاد، وتقوم ببلاغهم الحجة عليهم، ولو لم يفد ذلك لما أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يكون في إرسالهم حينئذ فائدة.
فكل خبر استكمل شروط صحة الإِسناد مع السلامة من الشذوذ والعلة فهو حجة على الخلق بلا ريب، لا فرق في ذلك كما ترى بين خبر الأحاد وخبر غيرهم.
الفرع الثاني
ذكر حديث معاذ كما رواه مسلم
روى الإِمام مسلم بسنده عن ابن عباس أن معاذًا قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" (1).
وقد اشتمل هذا الحديث على بعض أصول الدين وفرائضه، فأصوله الشهادتان، وفرائضه الصلاة والزكاة، أما الشهادتان فهي عقيدة لا ينازع في ذلك منازع ولا تثبت إِلا بما يفيد العلم، وهذا الحديث الذي أثبتها وقامت به الحجة على أهل الكتاب إِنما هو خبر واحد، وأما الفرائض فهي من الدين بمنزلة عظيمة ولا تثبت إلا بما يفيد العلم، وهذا الحديث نفسه أثبتها وقامت به الحجة، فلو كانت الأدلة النقلية لا تفيد العلم ومنها خبر الواحد لما قامت الحجة على أهل اليمن والثابت أنها قامت عليهم بهذا الحديث وهو خبر واحد ..
قال الإِمام الشافعي رحمه الله: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه وعلى كل
(1) صحيح مسلم بشرح النووي - 1/ 196 - 197 باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإِسلام.
سرية واحد، وبعث رسله إلى الملوك إلى كل ملك واحد ولم تزل كتبه تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي فلم يكن أحد من ولاته يترك إنفاذ أمره، وكذا كان الخلفاء بعده" (1) ويقصد الإِمام الشافعي بقوله إنفاذ أمره ما يشمل العلم والعمل، يدل على ذلك ما أشار إليه من أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث رسله إلى الملوك يبلغونهم التوحيد وهم آحاد.
وفي هذا دلالة على أن الذين يفرقون بين العلم والعمل فيقولون خبر الواحد يثبت العمل ولا يثبت العلم يقعون في تناقض عجيب وهم لا يشعرون ذلك أن هذا الحديث -على سبيل المثال- تقوم به الحجة على أهل الكتاب من أهل اليمن، وهو مشتمل على الشهادتين وعلى فريضتين من فرائض الدين فإمّا يفيدنا العلم بما اشتمل عليه أو لا يفيدنا، فإن قالوا أفادنا العلم كفينا القول بالتفريق بين العلم والعمل، وإن قالوا لا يفيدهما فقد نفوا ما هو معلوم من إقامة الحجة على أهل الكتاب من أهل اليمن بخبر معاذ، وإن فرقوا فقالوا: لا يفيد العلم بالشهادتين -لأنها عقيدة- ويوجب العمل بالفريضتين تناقضوا واتبعوا مقالة لا نوافقهم عليها البتة ذلك أنه حديث واحد ثبت به مجموع الشهادتين والفريضتين وهما علم وعمل (2)، ولا سبيل إلى التفريق بين هذا المجموع لا بشرع ولا عقل.
وبهذا نقطع بأن كل خبر عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تقوم به الحجة، ومجموع ذلك هو "الشريعة" لا فرق بين ما يسمونه اعتقادًا وما يسمون عملًا، قال الإِمام الشافعي في الرسالة:"الحجة في تثبيت خبر الواحد" وذكر أدلة كثيرة منها ما نحن بصدد الحديث عنه فقال: "وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن وأمره أن
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13/ 241 وانظر الرسالة مسألة رقم 1151 وما بعدها.
(2)
وهذا الذي ذكرته هنا تنزل على مذهب الخصم، وإلا فقد أبنت سابقًا عن حقيقة الأحكام العملية أنها لا بد أن تكون علمية إذ العمل فرع عن العلم والاعتقاد كما صرح بذلك ابن القيم رحمه الله، انظر ما سبق ص 160.
يقاتل من أطاعه من عصاه (1)، ويعلمهم ما فرض الله عليهم، ويأخذ منهم ما وجب عليهم لمعرفتهم بمعاذ ومكانه منهم وصدقه.
وكل من ولّي فقد أمره بأخذ ما أوجب الله على من ولاه عليه، ولم يكن لأحد عندنا في أحد ممن قدم عليه من أهل الصدق أن يقول: أنت واحد وليس لك أن تأخذ منا ما لم نسمع رسول الله يذكر أنه علينا، ولا أحسبه بعثهم مشهورين في النواحي التي بعثهم اليها بالصدق: إلا لما وصفت من أن تقوم بمثلهم الحجة على من بعثه إليه
…
وبعث في دهر واحد اثني عشر رسولًا إلى إثني عشر ملكًا يدعوهم إلى الإِسلام، ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة وقامت عليه الحجة فيها .. " (2).
وقال: "وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث اليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله"(3).
وهذه أخبار آحاد كما ترى قامت بها الحجة لا فرق بين ما هو من الأصول وما هو من الفروع.
ومذهب الشافعي هذا لا يعلم له مخالف من السلف، وعليه الإِمام أحمد رحمه الله، قال أبو بكر الخلال في كتاب "السنة":"أخبرني علي بن عيسى أن حنبلًا حدثهم قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تُروى "أن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا" (4) و"أن الله يُري" (5) و"أن الله يضع
(1) قال الأستاذ أحمد محمد شاكر هكذا في الأصل وهو صحيح "من أطاعه" فاعل "يقاتل" و"من عصاه" مفعول. الرسالة هامش المسألة رقم 1140.
(2)
الرسالة المسائل رقم 1140 - 1141 - 1144، 1148.
(3)
الرسالة مسألة رقم 1130.
(4)
الحديث من رواية أبي هريرة كما في البخاري - باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 3/ 29، فتح الباري بشرح صحيح البخاري.
(5)
المصدر نفسه - باب قول الله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" 13/ 419 - 424.
قدمه" (1) وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى -أي لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل، فنقول معناها كذا (2)، ولا نرد منها شيئًا، ونعلم أن ماجاء به الرسول حق إذا كان بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله
…
" (3).
وهذا النص يدل على عقيدة الإِمام أحمد في وجوب اعتقاد موجب خبر الأحاد وأن رد ذلك وعدم قبوله هو رد لقول الله سبحانه.
(1) قطعة من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يزال يُلْقى فيها وتقول: "هل من مزيد حتى يضع فيها رب العالمين قدمه فينزوي بعضها إلى بعض
…
" المصدر نفسه - كتاب التوحيد 13/ 369.
(2)
قصده رحمه الله: أن معناها معلوم، ولا يقول السلف كيف، ولا يحرفونها عن معناها إلى معنى آخر.
(3)
درء تعارض العقل والنقل 2/ 30 - 31، وألاحظ هنا أن شيخ الإِسلام لم يشر إلى الرواية الأخرى التي تقول أن الإِمام أحمد رحمه الله لا يرى إفادة أخبار الأحاد العلم، وسند هذه الرواية -والله أعلم- أن أحمد قال بأن أحاديث النزول تفيد العلم لأنها ثبتت من طرق كثيرة فهي في حكم المتواتر.
وهذه وحدها لا تكفي في تقرير رواية تؤخذ عنه لأن المجتهد قد يجمع بين الأدلة ويصرح بأنها تفيد العلم -على مذهب الخصم- تقريرًا للحجة عليه وقطعًا للنزاع. وهي تفيده عنده أحادًا .. كما أن الحجة قامت برسول أو رسولين كما في سورة يس، ثم نصرهم الله بثالث لا لأن الأولين لا تقوم بهما الحجة وإنما زيادة تأكيد وإعذار، انظر الآيات من سورة يس:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} 13 - 14، والمعول عليه بعد ذلك هو ما نقل عنه من النص على عقيدته من مثل قوله -وقد سبق في المتن- ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كان بأسانيد صحاح .. ".
وقد أثبت الأستاذ عبد الوهاب الشنقيطي في رسالته خبر الواحد وحجيته رسالة ماجستير رقم 58 بجامعة أم القرى، أن القاضي في الكفاية نصر رواية أحمد هذه وعليها جماعة من أصحابه وهو قول جمهور الحديث وجمهور أهل الظاهر، ونقله ابن القيم عن مالك والشافعي وأصحابه وأبي حنيفة وداود وأصحابه ونقله ابن خويز منداد عن مالك. انظر 129. وانظر المسودة في أصول الفقه لآل تيمية تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد 240، 242، 243 - 244.