الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الرابع
المناقشة
وتقع في ثلاث فقرات:
الفقرة الأولى: سبب نشوء هذا القول.
الفقرة الثانية: الأسباب التي ساعدت على انتشاره.
الفقرة الثالثة: الأدلة على بطلانه.
الفقرة الأولى:
وأختار ما ذكره ابن تيمية سبباً لنشوء هذا القول فإنه الخبير باصول المتكلمين والعارف بمثالبها، قال في كتابه الاستقامة "إنّ طوائف كبيرة من أهل الكلام من المعتزلة وهم أصل هذا الباب (1)
…
ومن اتبعهم من الأشعرية كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأبي حامد والرازي ومن اتبعهم من الفقهاء يعظمون أمر الكلام الذي يسمونه أصول الدين حتى يجعلون مسائله قطعية ويوهنون من أمر الفقه الذي هو معرفة أحكام الأفعال حتى يجعلوه من باب الظنون لا العلوم، وقد رتبوا على ذلك أصولاً انتشرت في الناس حتى دخل فيها طوائف من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث لا يعلمون أصلها ولا ما تؤول إليه من الفساد، مع أن هذه الأصول التي ادعوها في ذلك باطلة واهية كما سنبينه في فروع (2) " (3).
(1) عنون له المحقق الدكتور محمد رشاد سالم بقوله: فصل في "فساد قول المتكلمين أن الفقه من باب الظنون، وبيان أنه أحق باسم العلم من الكلام" 1/ 47، كتاب الاستقامة، لأبي العباس تقي الدين بن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد، الطبعة الأولى 1403 هـ، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود.
(2)
قال المحقق "سنبينه في غير هذا الموضع" وجعلها في الأصل وجعل ما في الأصل في الهامش، وقد صنعت العكس، لأن شيخ الإِسلام أشار إلى هذه الفروع في ص 50 فقال: "ومن فروع ذلك
…
" فتعليق المحقق بقوله: "في الأصل" كما سنبينه في فروع والكلام لا معنى له وفيه تحريف أو نقص ولعل ما أثبته هو أقرب شيء إلى سياق الكلام وما ورد في الأصل لا غبار عليه.
(3)
1/ 49.
ثم ذكر من هذه الفروع: "أنهم صنفوا في أصول الفقه وهو علم مشترك بين الفقهاء والمتكلمين فبنوه على أصولهم الفاسدة حتى أن أول مسألة منه وهي الكلام في حد الفقه لما حدّوه: بأنه العلم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية، أورد هؤلاء كالقاضي أبي بكر والرازي والآمدي (1) ومن وافقهم من فقهاء الطوائف كأبي الخطاب (2) وغيره السؤال المشهور هنا وهو أن الفقه من باب الظنون لأنه مبني على الحكم بخبر الواحد والقياس والعموم والظواهر وهي إنّما تفيد الظن فكيف جعلتموه من العلم حيث قلتم: العلم"(3) أي في التعريف ثم ذكر مذهب الرازي كما نقلته سابقاً، وبهذا نعلم أن السبب هو اعتقادهم أن العلم مخصوص بدراسة "علم الكلام"، أمّا الفقه فأكثره ظنون كما أشار القاضي وغيره أو كله كما قال الرازي.
الفقرة الثانية - الأسباب التي ساعدت على انتشار هذا الرأي:
1 -
كثرة التقليد والجهل: إن بعض أتباع المذاهب المشهورة قد ينقل أقوالها ويعتمد على دليل ضعيف من قياس أوظاهر، أو يكتفي كل تابع بنقل المذهب مجرداً عن الدليل إنْ كان حسن الفهم وإلّا نقله على غير وجهه إذا لم يحفظ من المذهب إلّا حروفه، فتطرق الظن والتوهم إلى أذهان كثيرين ممن وقعوا في التقليد ولم يكن ما حصل لهم من الفهم علماً وإنْ كان العالم الذي نقلوا عنه عنده دليل يفيد العلم، ثم قال شيخ الإِسلام منبهاً ومحذراً "وهذا الأصل الذي ذكرته أصل عظيم، فلا يصد المؤمن، العليم عنه صاد، فإنه لكثرة التقليد والجهل والظنون في المنتسبين إلى الفقه والفتوى والقضاء استطال عليهم أولئك
(1) ويبقى بعد هذا ملاحظة الفرق بين قول القاضي والآمدي وأبي الخطاب من جهة وبين ما تفرد به الرازي من جهة أخرى.
(2)
هو محفوظ بن أحمد بن الحسن الكولذاني، نسبة إلى قرية بأسفل بغداد ولد بها سنة 432 وتوفي بها سنة 510، انظر طبقات الحنابلة 2/ 258، وشذرات الذهب 4/ 27 - 28.
(3)
الاستقامة 1/ 50 - 51.
المتكلمون حتى أخرجوا الفقه الذي نجد فيه كل العلوم من أصل العلم لما رأوه من تقليد أصحابه وظنهم" (1).
ومما يؤكد ذلك أن من أحكام الفقه ما يعلمه بعض المجتهدين ويقطعون به لعلمهم بالنص ومنهم من يجهله أصلًا، أو يتكلم فيه بنوع من الظن، إمّا لعدم العلم بالنص أو الشك فيه، وإما بعدم فهمه، أو يذهل عنه فيقع الظن بسبب ذلك عند بعض المجتهدين وينقل أتباعهم المذهب على هذه الصورة وتجده عند إمام آخر مقطوعاً به إما لعلمه بالنص، أو لمعرفته لدلالته وقطعه بها .. وهكذا.
فهذا الظن في مثل هذا الموضع لا يصبغ الفقه بهذه الصبغة وإنْ كَثُر لأنه في الحقيقة محمول على أسباب خاصة لا يلزم وقوعها لكل مجتهد، فإن من المجتهدين من يتوفر له القطع في تلك المسائل التي وقع فيها الظن عند غيره (2).
ومن نظر في الفقه من زاوية خاصة وقع في تلك الشبه وألحق الفقه بالظنيات وهذا سبب يؤكد السبب السابق.
2 -
انتشار باع المتكلمين فقد كان ذلك سبباً في التوهين من أمر الفقه ووصفه بانه ظن وأن العلم والقطع إنّما هو عند المتكلمين حتى مال كثير من الطلاب لدراسة الكلام والفلسفة فإن النفس تطلب ما هو علم وتنفر مما هو ظن (3).
الفقرة الثالثة - الأدلة على بطلانه:
1 -
إن جمغ الفقهاء يذكرون في كتب الفقه الأحكام المقطوع بها مثل وجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم واستقبال القبلة ووجوب الوضوء والغسل
(1) المصدر السابق 1/ 55 - 56.
(2)
الاستقامة 1/ 68.
(3)
المصدر السابق 1/ 65 - 66
من الجنابة وتحريم الخمر والزنى والسرقة واللواط والقتل والفواحش مطلقاً، وكل ذلك مما هو معلوم لا مظنون (1).
2 -
إن غالب أحكام الفقه والحمد لله معلومة، أي أن العلم بها ممكن وإنْ لم يكن حاصلاً لكل أحد بل ولا لغالب المتفقهة المقلدين لأئمتهم (2).
وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو وقضى بالدية على العاقلة (3)، وأن الولد للفراش، وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة وأكثر الناس لا يعلمه بتة، فالشيء المعلوم بالضرورة إضافي. فإن الرجل الذي نشأ ببادية أو كان قريب عهد بجاهلية قد لا يعلم ذلك بالكلية (4)، فكثير مما يعتبره بعض أهل العلم من المظنون إنّما هو باعتبار فهمهم له، وإلّا فإنه من المعلوم عند غيرهم، بل إن أكثر الأفعال أحكامها معلومة وإنْ وقع الظن فيها عند بعض العلماء.
وهذا لا يعني أنّ الفقه كله من المقطوع به عند شيخ الإِسلام بل منه ما هو معلوم ومنه ما هو مظنون، يقول "الفقه هو معرفة أحكام أفعال العباد سواء كانت المعرفة علما أو ظناً أو نحو ذلك"(5).
مناقشة مذهب القاضي ومن وافقه:
وبعد أن تبين لنا بطلان مذهب الرازي، ننتقل إلى بيان موقف الجويني وابن تيمية من مذهب القاضي أبي بكر، وحاصل مذهبه أن المسائل التي لا نص فيها إنّما يتبع فيها المجتهد ظنه ولا مرجح عنده، إلّا ما أشار إليه الغزالي
(1) مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 118.
(2)
الاستقامة 1/ 55.
(3)
العاقلة جمع عاقل، وعاقلة الرجل هم قرابته الذين يحملون عنه الدية، المصباح المنير مادة عقل 505، لأحمد بن محمد الفيومي -بيروت 1398، توزيع دار الباز- مكة الكبرى، الطبعة بدون.
(4)
مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 118.
(5)
الاستقامة 1/ 55.
-وهو ممن نصر قول القاضي- من ميل النفس إلى أحد القولين دون الآخر كميل ذي الشدة إلى قول وذي اللين إلى قول، وأما الأمارات فليست من المرجحات لأنها لا تفيد علماً (1).
وقد أنكر أبو المعالي ابن الجويني هذا القول إنكاراً بليغاً، فقال: إن مذهب القاضي يئول إلى أنه لا أصل للاجتهاد، وكيف يستجيز مثله أن يثبت الطلب والأمر به ولا مطلوب؟ وهل يستقل طلب دون مطلوب مقدّر ومُحقّق؟
…
وقال: "
…
فإنّا على اضطرار نعلم من عقولنا أنّ الأولين كانوا يقدمون مسلكاً على مسلك ويرجحون طريقاً على طريق" (2).
وهذا الذي نص عليه الجويني هو مذهب السلف والأئمة الأربعة كما حكاه ابن تيمية حيث يقول: "وأما السلف والأئمة الأربعة والجمهور فيقولون: بل الأمارات بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر، وعلى الإِنسان أن يجتهد ويطلب الأقوى فإذا رأى دليلاً أقوى من غيره ولم ير ما يعارضه عمل به ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها"(3).
وقال في موضع آخر: "الظنون عليها أمارات ودلائل يوجب وجودها ترجيح ظن على ظن، وهذا أمر معلوم بالضرورة، والشريعة جاءت به ورجّحت شيئاً على شيء" ثم قال بعد كلام طويل:
فقد تبين أن الظّن له أدلة تقتضيه وأنّ العالم إنّما يعلم بما يوجب العلم بالرجحان لا بنفس الظن إلّا إذا علم رجحانه، وأمّا الظن الذي لا يعلم رجحانه فلا يجوز اتباعه، وذلك هو الذي ذم الله به من قال فيه:
(1) انظر ما سبق ص 65.
(2)
البرهان 2/ 890.
(3)
مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 123.
(4)
سورة النجم: آية 28.