الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبذلك نستطيع أن نقرر هنا. أن مقالة واصل بن عطاء تطورت على يد أبي الهذيل لتصبح الحجة فقط في اتباع المقاييس العقلية، وهنا التقى فكر المعتزلة بفكر الفلاسفة.
ولا يعكّر على هذا التقرير القول بأن أبا الهذيل اشترط للمتواتر شروطًا ليحتج به، وهذا يفيد أنه لا يعتمد على المقاييس العقلية فقط، ذلك لأن شروطه من أعجب الشروط ولا تدل بحال على أنه يسلّم بحجية الأخبار ويكفي أن نعلم أنه يشترط لحجية الخبر أن يكون متواترًا وأن يكون أحد رواته من أهل الجنة (1)، وهذا يدل على تلاعبه وعبثه، ويؤكد اعتقاده الخبيث:"من أن الرواية ريبة والحجة في المقاييس".
الفرع الثالث
تطورها مرة أخرى على يد النظام
وإذا صرنا إلى "النظام" نجده قد حفظ كتاب "أرسطاطليس" في الفلسفة والمنطق (2)، وقد قال عنه تلميذه الجاحظ ما رأيت أعلم بالكلام من النظام (3)، وقد شهد النظام على نفسه بذلك (4).
وكان من ثمرة ذلك كله أن قَوي اتجاه فكر المعتزلة نحو فكر الفلاسفة واشتد تمسكهم بمنهجهم العقلي الذي أخذ في التولي عن الأدلة النقلية رويدًا رويدًا حتى بلغ القمة على يدي النظام، فبقدر ما يقربون من الفكر الفلسفي المترجم بقدر ما يبعدون عن الأدلة النقلية، فلما تعانق الفكر المعتزلي والفلسفي
(1) انظر الفرق بين الفرق الفضيحة السادسة 109 قال البغدادي (ما أراد أبو الهذيل باعتباره عشرين في الحجة من جهة الخبر إذا كان فيهم واحد من أهل الجنة إلا تعطيل الأخبار في الأحكام الشرعية عن فوائدها .. " 110 ولعل القارئ يلحظ في هذا الموضع خطورة هذه المقالة على العقيدة والشريعة معًا.
(2)
فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة 264.
(3)
المصدر نفسه 264.
(4)
المصدر نفسه 258.
على يد النظام استوت مقالة واصل بن عطاء على سوقها بعد أن اشتد عودها على يد أبي الهذيل لتعجب الفلاسفة وتغيظ أهل السنة، فكانت مقالة النظام إن الحجة العقلية قادرة على نسخ الأخبار (1)، وتجاوز النظام بقوله هذا قول صاحبيه من قبل واصل بن عطاء وأبي الهذيل وتمت مقالة المعتزلة على ثلاث مراحل:
الأولى: إطراح جميع الأخبار ما لم يتقرر عدم إمكان التواطؤ.
الثانية: الأخبار ريبة والحجة في المقاييس.
الثالثة: الحجة العقلية قد تنسخ الأخبار (2).
وننتقل بعد ذلك إلى آخر مقررات المعتزلة لنرى حصاد الفكر الفلسفي المعتزلي، ولنزداد يقينًا بهذا الذي تقرر لنا من خلال تحليل نصوص أئمة المعتزلة.
قال القاضي عبد الجبار المعتزلي، تحت عنوان:"بيان ما يجوز أن يدل عليه الخطاب وسائر الأدلة السمعية" وأجاب عن اعتراض وُجّه إليه حاصله: أن الخطاب يدل كدلالة الخبر فإن لم تسلموا بذلك لزمكم القول بأن ما فى القرآن لا يدل على عقيدتكم .. ولا يجوز لكم الاحتجاج به.
فأجاب بقوله: "ليس بصحيح الاحتجاج بذلك في إثبات التوحيد والعدل وإنما نورده لنبين خروج المخالفين عن التمسك بالقرآن مع زعمهم أنهم أشد
(1) تأويل مختلف الحديث 43.
(2)
وقارن بين قول النظام وقول أبي الهذيل لتدرك أن النتيجة النهائية هي تضعيف الأدلة ووصفها بعدم إفادة العلم، وهذا الباطل قد خدعوا به أناسًا كثيرين حتى انتشر في الكتب وكأنه مسلمة من المسلمات وهو بدعة خبيثة ودسيسة من دسائس المعتزلة، ولو أمكنهم توزيع أشنع من ذلك داخل الأمة لفعلوا، وانظر الفرق بين الفرق لتعلم أن النظام يشك في الأخبار مطلقًا ولا يرى ثبوت شيء عن طريق الخبر 125، وهي مقالة أبي الهذيل الأخبار ريبة والحجة في المقاييس.
تمسكًا به، ونبين أن القرآن كالعقل في أنه يدل على ما نقول وإن كان دلالته على طريق التأكيد" (1).
وقارن إن شئت بين محصلة قول أبي الهذيل الأخبار ريبة والحجة في المقاييس وبين قول متأخريهم، "ليس بصحيح الاحتجاج بذلك (أي بما في القرآن من الأخبار) في إثبات التوحيد".
وبعد تحليل نصوص أئمة الاعتزال الثلاثة يتبين لنا على وجه القطع أنهم لا يرون الحجة في اتباع الأخبار إلا بشروط عجيبة غريبة تدل بذاتها على عدم إثبات الحجة للأخبار الشرعية، ثم استقر الأمر عند المعتزلة على أن الحجة تعرف بالنظر العقلي وأن "الشريعة" قرآنًا وسنة لا يصح الاحتجاج بها على إفادة العلم، ومن خلال هذه الدراسة نبين بوضوح أن القول بتضعيف الأدلة النقلية نشأ على يد أئمة المعتزلة واصل بن عطاء، وأبي الهذيل والنظام، وهم كما تبين من تراجمهم سابقًا ما بين مبتدع هالك، وكذاب أفاك، وزنديق متستر ثم إن فكر الفلاسفة شجع المعتزلة على التمسك بالأهواء ومخالفة أهل السنة (2)، وقد استخدمه النظام وشيخه في إسقاط الحجة عن الأخبار الشرعية، وحاصل ما نقرره في المبحثين السابقين ما يلي:
(1) المغنى في أبواب التوحيد والعدل 17/ 94 أملاه القاضي عبد الجبار الاسترابادي 415 هـ حرر نصه أمين الخولي دار الثقافة - مصر.
(2)
تم التقاء الفكر المعتزلي بفكر الفلاسفة مبكرًا وسيأتي بيان أن هذا من أهم الأسباب التي ساعدت على انتشار القول بالظنية. وحاصل فكر الفلاسفة سقراط وأرسطو هو اتخاذ العقل حكمًا يقول الأستاذ محمد قطب في فصل "العقلانية" وهي "تمرير كل شيء في الوجود من قناة العقل لإِثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه""وهو مذهب قديم في البشرية، يبرز أشد ما يبرز في الفلسفة الإغريقية القديمة ويمثله أشد ما يمثله سقراط وأرسطو" مذاهب فكرية معاصرة 500، دار الشروق الطبعة الأولى 1403 هـ.
وسيأتي في آخر هذه الرسالة إثبات انتصار المستشرقين الذين هم يمثلون هذه الفلسفة لأفكار المعتزلة، وهذا يدل على عمق التشابه الفكري بين فكر المعتزلة وفكر الفلاسفة والعقلانيين.
1 -
أن عقيدة الصحابة والتابعين أن الأدلة النقلية تفيد العلم تعلموا هذه العقيدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمهم كيف يحتجون ويستدلون بها على العقيدة وسائر الأحكام سواء منها ما كان متواترًا أو أحادًا وذلك بإقرارهم على هذا المنهج البين الذي تدل عليه الشريعة (1).
2 -
أن القول بظنية الأدلة النقلية دين أحدثه أئمة المعتزلة ولم يعرف من قبل، وبدعة منكرة وشجرة خبيثة تتابع على غراسها وسقيها واصل بن عطاء وأبو الهذيل والنظام وغيرهم من شيوخ المعتزلة .. ثم سقاها الفكر الفلسفي واستظل بها أهل الأهواء وخدعوا بها كثيرًا من الناس، وظنوا أنها من الدين وما هي من الدين، ومثل كلمة المعتزلة هذه وكلمة اتصحابة والتابعين كما قال الله تعالى في سورة إبراهيم:
فإفادت الشريعة العلم كلمة طيبة من قوم طيبين أصحاب عقيدة طيبة، هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، والأدلة على هذه الكلمة ثابتة في الكتاب والسنة كما قدمنا، فمثلها مثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تعجب الزراع وتغيظ أهل الأهواء.
والقول بأن الأدلة النقلية لا تفيد العلم كلمة خبيثة - من قوم أصحاب
(1) انظر الأمثلة السابقة ص 163 - 164 وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم قبول خبر الواحد في أمور عظيمة من الدين كالعقائد والفرائض.
(2)
سورة إبراهيم: الآيات: 24 - 25 - 26 - 27.
عقيدة خبيثة وسيرة خبيثة هم أتباع واصل بن عطاء رأس البدعة - سندها الأهواء وفكر الفلاسفة المنكرين للرسالات فمثلها مثل شجرة خبيثة زخرفت للناظرين لا ظل لها ولا ثمر .. تعجب الفلاسفة وتغيظ أهل السنة، وكان حريًا أن لا يكون لهذه الشجرة الخبيثة بقاء لوأن الفكر الإِسلامي سلم من شبه كثيرة ساعدت على قبول أجزاء مبعثرة من تلك الشجرة، وقد كان للفكر الفلسفي وما زال آثاره السيئة التي ضمنت لبعض تلك الأجزاء المتقطعة البقاء والاستمرار، وسأذكر أهم الأسباب التي ساعدت على انتشار القول بالظنية في المبحث الثالث بتوفيق الله وعونه (1).
* * *
(1) نذكر أهم الأسباب التي ساعدت على انتشار هذه المقالة، ونوقف البحث عند هذا الحد ونكتفي بهذا التتبع التاريخي لهذه الفترة، لأني كما أسلفت من قبل لا أجد إلّا موافقًا للجيل القدوة أو مخالفًا له، فأما الموافق فهو مناصر ومؤيد، وأما المخالف فهو إما متابع عن علم للمبتدعة وجوابنا عن مقالته هو الجواب نفسه وموقفنا هو الموقف نفسه، وإما مخدوع ببعض شبههم ففي عقيدة الصحابة والتابعين وأقوال أئمة السلف شفاء له إن شاء الله.
ومن هنا أضرب صفحًا عن مخالفة من خالف من الأصوليين لأن أقوالهم لا تخرج عن أحد أمرين أما الموافقة للمقويين للأدلة المحتجين بها، وهذا هو الحق، وأما موافقة لأقوال المضعفين للأدلة .. وهذا قول تبين الجواب عنه، والله أعلم.