الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا ما يسر الله لي تحريره من أجوبة العلماء الذين ناقشوا طريقة المتكلمين وقد تبين من أجوبتهم أنها تدل على علم راسخ يدعمه البرهان الشرعي والعلم بلغة العرب، ومنهجهم في الاستدلال منهج متميز يبتعد عن الإِطلاقات والاحتمالات المجردة عن الأدلة وعن الفرضيات التي لا برهان عليها، وأسلوبهم في الأداء تطبيقي على مفردات الآيات ومفردات اللغة وسهل ميسر للفهم ومجاف لأسلوب المتكلمين العقلي التجريدي وسنؤكد على ذلك بعد قليل.
وبهذا يتبين لنا أن رفع القطعية عن العمومات الشرعية لا موجب له، مع أنه مخالف لكلام العرب ومؤد إلى التلبيس ومخالفة السلف كما صرح به الشاطبي (1)، وقولهم ما من عام إلا وخصص لا يصح، فلم يبق عندهم إلّا القول بكثرة تخصيص العمومات وهذا -إن سلمناه- لا يوجب المصير إلى مقالتهم، لأن وجود هذه الكثرة يقابلها وجود كثرة مثلها في عمومات لم تخصص، فما الذي رجح اعتبار إحدى الكثرتين، فيبقى الأمر كما قال الحنفية وإلا ارتفع الأمان عن اللغة ووقع التلبيس، أما إذا اعتبرنا منهج الإِمام الشاطبي وابن تيمية ونصرناه فإن ذلك أقوى في إسقاط طريقة المتكلمين، ذلك لأن طريقتهم مبنية على التجريد العقلي، والتجريد اللغوي وإغفال المقاصد اللغوية والشرعية، وقبل أن نذكر جواب الإِمام الشاطبي أذكر الدليل على ما قلته آنفًا -من أنهم اتبعوا التجريد العقلي والتجريد اللغوي .. وذلك يُعرف بتحليل طريقة المتكلمين وبيان الفرق بينهما وبين طريقة الشاطبي.
الفرع الرابع
تحليل طريقة المتكلمين وبيان الفرق بينها وبين طريقة السلف كما يمثلها الشاطبي
ونبدأ بتحليل موضعين اثنين:
الأول: تحليل جوابهم عن اعتراض الحنفية عليهم بأن مقتضى قولهم ما من عام إلا وخصص مؤد إلى التلبيس ورفع الأمان عن اللغة.
(1) الموافقات 3/ 184.
الثاني: تعلقهم حين الاستدلال بالوضع اللغوي دون الالتفات إلى مقصد الشرع واستعماله.
وسيكون تحليل هذين الموضعين في سياق متتابع الفقرات دون الفصل بينهما، اللهم إلا ببيان لمميزات طريقة الشاطبي وابن تيمية لأن الأمور تعرف بأضدادها.
وأبدأ بتحليل ما أجاب به المتكلمون عن قول الأحناف: "إن القول بالتخصيص للعمومات بدون قرينة يؤدي إلى رفع الأمان عن اللغة"، حيث اجابوا بقولهم: إن القرينة وإن لم تكن موجودة لكنها خافية علينا، وخفاؤها وفقدها لا يدل على انعدامها فلا يلزم من ذلك التلبيس ولا رفع الأمان عن اللغة، لأنا في الحقيقة عولنا على قرينة -في قولنا بالتخصيص للعمومات ومن ثم وصفها بالظنية- والقرينة موجودة وإن خفيت علينا وفقدناه (1).
وهذا تجريد عقلي محض، فكأنهم يقولون الأدلة العامة على الظنية لأنها تحتمل التخصيص، فإذا قلنا: لا بد من قرينة وهي مفقودة، قالوا وإن كانت مفقودة لكنها لم تنعدم.
وقارن بين هذه الطريقة في الاستدلال وبين طريقة المعتزلة ومن تابعهم من المتكلمين عند الاستدلال على بدعتهم من أن الأدلة النقلية ظنية، فقد استدلوا -كما ذكرنا سابقًا- بأن وجود المعارض العقلي قد أوجب ذلك، فإذا ثبت عندهم فقدان المعارض العقلي لم يقولوا أيضًا بأن الأدلة النقلية تفيد العلم، بل قالوا إنه وإن فُقِد لكنه لم ينعدم، فتبقى الظنية ملازمة للأدلة النقلية.
القائلون بظنية العمومات يدّعون بأن القرينة التي أدت إلى احتمال التخصيص منعت القول بالقطعية، وإن فقدنا القرينة لم تثبت القطعية لأن القرينة موجودة وإن فقدت.
(1) التحرير وشرحه 1/ 268، تخصيص العام 42.
والقائلون بظنية الأدلة النقلية يقولون إن المعارض العقلي أدى إلى منع القول بإفادتها العلم، وإن فقدناه لم تفد العلم أيضًا، لأنه يُحتمل وجود المعارض.
احتمال وجود القرينة وإن فُقدت ينبني عليه القول بظنية العمومات الشرعية.
احتمال وجود المعارض العقلي وإن فُقد ينبني عليه القول بظنية الأدلة الشرعية (1). فهل ترى بينهما من فارق!؟
وبعد هذا نستطيع أن ندرك بعمق منهج الإِمام الشاطبي لأن الأمور تعرف بأضدادها.
يرفض الإِمام الشاطبي جعل العقل حكمًا في تحديد القطعية في العمومات بناء على منهجه العام في الاستدلال كما أوضحه في المقدمات، فالعقل ليس له أن يقرر ابتداء حكمًا من الأحكام ولا أن يتقدم بين يدي الأدلة الشرعية، فهو محكوم لا حاكم يسرحه الشرع كما يشاء (2).
أمر آخر مهم جدًا وهو أن طريقة الاستدلال على القضايا الشرعية طريقة شرعية أيضًا تأخذ طبيعة هذه الشريعة، فإذا أنزلت هذه الشريعة المباركة للإفهام (3) فطريقة الاستدلال ينبغي أن تكون كذلك، وإذا خوطب بها الأميون واعتبر في خطابها الجمهور فينبغي أن تكون طريقة الاستدلال كذلك (4)، ومن هنا ابتعد الإِمام الشاطبي عن مسلك المتكلمين في أصول الفقه، وابتع طريقًا
(1) انظر الجواب عن بدعتهم هذه وتفنيد شبههم ص 195.
(2)
انظر ما سبق ص 286.
(3)
الموافقات من مقاصد الشريعة الإِفهام 4/ 44.
(4)
قد نحتاج في رد طريقة المتكلمين وطريقة الفلاسفة إلى استعمال مصطلحاتهم وتفنيدها وذلك لا بأس به، ويستعمل بقدر الحاجة، أما جعله أصلًا في منهج تفكيرنا وأسلوب كتابتنا -كما غلب على طريقة المتكلمين في أصول الدين وأصول الفقه- كما شهد بذلك الغزالي - انظر ص 194 فذلك مناف لطبيعة هذه الشريعة في البيان، انظر الموافقات - المقدمة السادسة 1/ 25.
شرعياً واضحًا يتميز فيه عن أهل الأهواء مطلقًا سواء من الفرق الضالة أو من تأثر بهم (1).
فلا عجب إذًا أن يجانب طريقة المتكلمين في دراسة العموم
…
وحاصل ما عنده -وقد سبق- أن العام وبيانه أصبح بين أيدينا عند انقطاع الوحي، فمجموعهما هو الدليل، وهذا المجموع من العام وبيانه هو عبارة عن مجموع المقصد اللغوي والشرعي، ولا دخل لما يصوره العقل في مناحي الكلام ومن هنا لا حاجة لنا بطريقة المتكلمين في التعلق بالاحتمال المبني على وجود القرينة -التي إن فُقدت ما عُدمت- كما يقولون، فما يرد على العام إنما هو تفسير لبيان المقصود منه، وهو في اللغة وفي الشرع موضوع وضعًا استعماليًا وهو مقدم على الوضع الإِفرادي، هذا هو الجاري في كلام العرب، والرجوع في هذا إليهم لا إلى العقل وما يصوره.
فالشاطبي -مراعاة لمنهج الشريعة في الإِفهام- ينزل مباشرة إلى الواقع الاستعمالي سواء في كلام العرب أم في خطاب الشارع، فيجد ذلك كله، وضعًا إفراديًا يقابله وضع استعمالي، فالمقصود عند العرب هو الاستعمالي فَلْيُعْتبر إذًا ولا حاجة لغيره، وكذلك في خطاب الشارع نجد مجموع اللفظ العام وتفسيره فلنأخذهما معًا فيكون التفسير بيانًا -نظير البيان الذي يأتي عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه- وإذا كان كذلك فلا حاجة لتوهين العمومات الشرعية فلا نصفها بأنها ظنيات ونستدل بها على تحسين الظن وعدم القطع، كلا بل هي قطعية والقول بغير ذلك "مخالف لما كان عليه السلف الصالح من القطع بعموماته (أي القرآن) التي فهموها تحقيقًا بحسب قصد العرب في اللسان وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام.
وأيضًا فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث بجوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارًا على وجه هو أبلغ ما يكون وأقرب ما يمكن في التحصيل، ورأس هذه
(1) يبرز ذلك أشد ما يبرز في المقدمات وكتاب الاجتهاد من الموافقات وكتابه الاعتصام.
الجوامع في التعبير العمومات، فإذا فرض أنها ليست بموجودة في القرآن جوامع بل على وجه تفتقر فيه إلى مخصصات ومقيدات وأمور أخر فقد خرجت تلك العمومات عن أن تكون جوامع مختصرة" (1).
وطريقة المتكلمين تأثرت بالفلسفة التجريدية -كما بينا سابقًا- فهي طريقة مجافية لمقصد الشريعة ومنهجها في الاستدلال، ولذلك وقعوا في كثرة الاحتمالات وأوقعوا الأدلة الشرعية معهم في ذلك ووصفوها بالظنية، وكان جل علمهم موسوم بالجدل العقلي -كما هو شأنهم في دراسة العقيدة- وابتعدوا كثيرًا عن الواقع العملي -ولذلك بقيت بينهم وبين عوام المسلمين فجوة ضخمة وما زالت- ولما كان البحث في أصول الفقه لا بد من أن تكون له ثمرة تطبيقه غُلب المتكلمون على طبيعتهم فما استطاعوا أن يخرجوا منها إلّا بعسر شديد تلحظ أثره في أن كثيرًا من مسائل الأصول لا ينبني عليها عمل (2) وإن كثر عليها الخلاف، والمسائل التي خرجت عن طبيعتهم هي المسائل التي تبنى عليها آثار تطبيقه مثل مسائل العموم، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يدخلوا إلا عن طريق التجريد العقلي، فلما تنزلوا إلى واقع التطبيق كان منهجهم قريبًا من منهج الإِمام الشاطبي، لأن الواقع العملي مغاير في طبيعته للواقع الفلسفي التجريدي -ولو أن المتكلمين ابتعدوا عن التصورات العقلية التجريدية ونزلوا إلى الواقع العملي التطبيقي لسلموا من كثير من الفساد- ويكفيني دليل واحد صرح به الغزالي في المستصفى: ذلك قوله إن إطلاق التخصيص تجوز قال الشيخ أبو زهرة "ومهما يكن اختلاف الفقهاء في مدى المخصصات وقوتها فإنهم يقررون أن التخصيص ليس إخراجًا لبعض أفراد العام من الحكم بعد أن دخلوا فيه بل يقررون أن التخصيص هو بيان إرادة الشارع بعض أفراد العام ابتداء، وأن
(1) الموافقات 3/ 184.
(2)
انظر المقدمة الخامسة من الموافقات بعنوان "كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي .. " 1/ 18.
وهناك من المسائل المذكورة في الأصول ما هو عارية وليس من صلب العلم. انظر المقدمة الرابعة 1/ 17 - 18 وسبب ذلك غلبة مسلك المتكلمين على أصول الفقه.
الأفراد التي لا تشملها الأحكام المقترنة بلفظ العام لم تدخل في ضمن العام بالنسبة لهذه الأحكام، فقد نصت كتب الأصول شافعية كانت أو حنفية أو مالكية على أن التخصيص هو قصر العام على بعض أفراده بالإِرادة الأولى، فيكون المخصص مبينًا لإِرادة الخصوص، ولقد ذكر الغزالي أن تسمية الأدلة مخصصة تجوز، إذ التخصيص على التحقيق بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص" (1). ولذلك لم ير الشاطبي أن هذا التخصيص موجود في الشريعة، لأنه لا إخراج من الصيغة في الحقيقة، بل الإِرادة -أي الوضع الاستعمالي الشرعي- استخدم اللفظ العام وأطلقه على بعض أفراده، وهذا الاستعمالي مقدم على الوضع الأول، فما يقوله الأصوليون من أن المخصص قصر العام على بعض أفراده إنما هو تَجوَّز، ولذلك يعتبر الشاطبي هذا -الذي يسميه الأصوليون تخصيصاً- يعتبره بينًا وتفسيرًا، يدلنا على الوضع الاستعمالي -أي ما أراده الشرع- وفي الحقيقة ليس هناك تخصيص في محصول الحكم لا لفظًا ولا قصدًا كما قرره في الموافقات (2) وهذا الذي قاله هو الذي تؤول إليه طريقة المتكلمين والحنفية أيضًا عندما ينزلون إلى واقع العمل التطبيقي كما بين الشيخ أبو زهرة، وشهد به الغزالي.
ومن عظمْ فقه الإِمام الشاطبي أن التفت إلى هذه الحقيقة فقال: "فإن قيل: أفيكون تأصيل أهل الأصول كله باطلًا أم لا؟ فإن كان باطلًا لزم أن يكون ما أجمعوا عليه من ذلك خطأ، والأمة لا تجتمع على الخطأ، وإن كان صوابًا -وهو الذي يقتضيه إجماعهم- فكل ما يعارضه خطأ، فإذا كل ما تقدم بيانه خطأ.
فالجواب: إن إجماعهم أولًا غير ثابت على شرطه، ولو سلم أنه ثابت لم يلزم منه إبطال ما تقدم، لأنهم إنما اعتبروا صيغ العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإِفرادي، ولم يعتبروا حالة الوضع الاستعمالي حتى إذا أخذوا في
(1) أصول الفقه 130، وقارن مع ما حكاه شيخ الإِسلام عن الجمهور انظر ص 301.
(2)
الموافقات 3/ 182.
الاستدلال على الأحكام رجعوا إلى اعتباره كل على اعتبار رآه أو تأويل ارتضاه، فالذي تقدم بيانه مستنبط من اعتبارهم الصيغ في الاستعمال بلا خلاف بيننا وبينهم إلا ما يفهم عنهم من لا يحيط علمًا بمقاصدهم ولا يجود محصول كلامهم .. وبالله التوفيق" (1).
فكأن الإِمام الشاطبي يريد أن يصحح لكثير من الأصوليين طريقة الاستدلال ولذلك تجنب رحمه الله طريقة التجريد العقلي واللغوي، واعتبر المقصدين اللغوي والشرعي وقدمهما على الوضع الإِفرادي واستند في ذلك كله إلى ركن ركين (2)، ولو دخل الأصوليون من هذا المدخل لسلموا من الوقوع في شناعات خطيرة، ولا يسلمهم من ذلك أنهم إذا أخذوا في الاستدلال على الأحكام رجعوا إلى اعتبار الوضع الاستعمالي لأن تلك المحظورات والشناعات يؤدي إليها مسلكهم الأول من ذلك ما قاله الشاطبي واعتمده الشيخ أبو زهرة (3) "فإن قيل: حاصل ما مر أنه بحث في عبارة والمعنى متفق عليه ومثله لا ينبني عليه حكم، فالجواب: أن لا، بل هو بحث فيما ينبني عليه أحكام، منها أنهم اختلفوا في العام إذا خص هل يبقى حجة أم لا (4) وهي من المسائل الخطيرة في الدين، فإن الخلاف فيها في ظاهر الأمر شنيع لأن غالب الأدلة الشرعية وعمدتها هي العمومات فإذا عُدت من المسائل المُختلفِ فيها بناء على ما قالوه أيضًا من أن جميع العمومات أو غالبها مخصص صار معظم الشريعة مختلفًا فيها هل هو حجة أم لا، ومثل ذلك يلقى في المطلقات فانظر فيه، فإذا عرضت المسألة على هذا
(1) الموافقات 3/ 183.
(2)
انظر أدلته من كلام العرب ومقاصد الشريعة وكلام السلف ص 321 - 322 وهذا ما نصره عليه شيخ الإِسلام ابن تيمية ص 337.
(3)
أصول الفقه 127.
(4)
انظر أراء المخالفين: الأحكام للآمدي 2/ 232، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي 213، وتخصيص العام 97 - 103، وقد ذكر ثمانية مذاهب في حكم العام بعد التخصيص هل يبقى حجة أم لا؟
الأصل المذكور (أي) على ما قرره الإِمام الشاطبي لم يبق الإِشكال لمحظور وصارت العمومات حجة على كل قول.
ولقد أدى إشكال هذا الموضع (أي طريقة المتكلمين في الاستدلال) إلى شناعة أخرى وهي أن عمومات القرآن ليس فيها ما هو معتد به في حقيقة العموم وإن قيل بأنه حجة بعد التخصيص، وفيه ما يقتضي إبطال الكليات القرآنية وإسقاط الاستدلال به جملة إلا بجهة من التساهل وتحسين الظن لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم (1)، وفي هذا إذا تؤمل توهين الأدلة الشرعية وتضعيف الاستناد إليها" (2).
فالإمام الشاطبي يعتبر الأصل الاستعمالي الشرعي ابتداء .. ولذلك سلم مذهبه من هذه الشناعات، والمتكلمون وقعوا في التجريد العقلي والتعلق بالاحتمالات والتأثر بأصول الكلام في وصف دلالة الألفاظ الشرعية بالظنية ولزمهم من الشناعات ما لزمهم.
وعلى طريقتهم في إغفال واقع الاستعمال الشرعي -الذي هو الحجة المعتبرة في فهم إرادة الشارع- أغفلوا واقع الاستعمال العربي - الذي
(1) قارن ما أدى إليه القول بالظنية، كما صور الإِمام الشاطبي - وبين ما نقلته عن المعتزلة وقاضيهم عبد الجبار حيث قالوا بظنية الأدلة القرآنية والسنّة وليس الاحتجاج عندهم بها على أصولهم وإنما الاحتجاج بالعقل، ويأخذونها على جهة تحسين الظن كما قالوا
…
وهو ما يؤدي إليه القول بظنية العمومات ولعلك بذلك تلحظ مدى سيطرة علم الكلام على أصول الفقه، وقارن بما سبق في أكثر من موضع ص 193 - 195 وفي هذا جواب عما استغربه الأستاذان الفاضلان عبد الله دراز وأديب الصالح من قول الشاطبي "إن ذلك توهين للعمومات وإبطال للكليات القرآنية". انظر ما سبق ص 331 وانظر مذكرة أصول الفقه للشنقيطي 58 - 59 - 60 حيث بين أن هناك من يقول بأن العام مجاز بعد التخصيص ثم بين فضيلته كيف يكون المجاز محتملًا وأنه يصح نفيه، ومثل هذا لا يحتج به، وقد أنكر ذلك فضيلته وبين الصواب فيه، فانظر هذه الشناعة وهي واحدة مما حذر منها الإِمام الشاطبي.
(2)
الموافقات 3/ 183 - 184.
هو الحجة المعتبرة في فهم مقاصد العرب من كلامها - فجعلوا العام المخصص مجازاً واعتبروا أصل اللغة وأغفلوا عرف الشارع واستعماله، وعلى طريقة الشاطبي أغفلوا المقصد الاستعمالي العربي، إذ لو اعتبروه لعلموا أنه وضع استعمالي معتبر عند العرب ومقدم على الأصل القياسي الذي هو أصل الوضع، ولكنهم أغفلوا ذلك وذهبوا إلى القول بالمجاز -والمجاز محتمل- وقالوا: إن القائلين بأنه حقيقة لا يستقيم قولهم إلا إذا أرادوا بذلك أنه حقيقة في عرف الشارع واستعماله ثم قالوا: "والكلام ليس فيه وإنما هو في اللفظ من حيث وضع اللغة"(1) واللفظ الواحد لا يكون حقيقة ومجازاً بالنسبة إلى معنى واحد في استعمال واحد (2)، وهنا يتبين لنا بوضوح الفرق بين طريقة المتكلمين وطريقة الشاطبي، فالمتكلمون أغفلوا المقصدين الشرعي واللغوي، ووقعوا في مقابل ذلك في التجريد العقلي واللغوي، وطريقة الإِمام الشاطبي اعتمدت المقصدين الشرعي واللغوي، وبعدت عن التجريد العقلي واللغوي، فليس هناك وضع واحد أو استعمال واحد وإنما هما وضعان، وضع إفرادي ووضع استعمالي، والثاني مقدم على الأول -وقد ذكرت الحجة لذلك فيما سبق- والبحث محكوم بعد ذلك بمقصد الشارع واستعماله وليس نظراً مجرداً في وضع اللفظ وإن خالف المقصد الاستعمالي في اللغة والشرع.
وعلى ضوء ما سبق نستطيع أن نحدد معالم منهج الإِمام الشاطبي مع الإشارة إلى ما يضاده عند التكلمين:
1 -
إن منهج الإِمام الشاطبي منهج شرعي راعى فيه المقصد الاستعمالي الشرعي، ومنهج لغوي راعى فيه المقصد الاستعمالي في كلام العرب، وأما طريقة المتكلمين فعلى الضد من ذلك أغفلت المقصد الاستعمالي الشرعي والمقصد الاستعمالي اللغوي، والبحث في العموم يقوم على اعتبار المقصدين لأنه بحث لغوي من جانب وشرعي من جانب آخر، فقاعدة الشاطبي في بحثه أسلم وأحكم وأشمل، بخلاف طريقة المتكلمين.
(1) تخصيص العام 96.
(2)
المرجع السابق 96.
2 -
تحرر الإِمام الشاطبي من مسلك أهل الكلام في المنهج والأسلوب فلا هو يتبع العقل وما يصوره، ولا يغفل الواقع التطبيقي العملي وما يقتضيه، بخلاف مسلك أهل الكلام فقد غلبت عليهم طبيعتهم حتى في أصول الفقه (1) فاتبعوا "العقل" وما يصوره وأغفلوا الواقع الاستعمالي لهذه الشريعة وللغة العرب وما يترتب عليه.
ولهذا الفرق بين الطريقتين - ولما مر ذكره من الأدلة المباشرة يعتبر منهج الإِمام الشاطبي منهج أصيل متميز مستند إلى منهج السلف في الاستدلال تحوطه الأدلة البينة من حيث الاستعمال الشرعي والاستعمال اللغوي، وهو منهج يأخذ طبيعته من طبيعة هذه الشريعة من حيث الإِفهام ومن حيث الاحتجاج.
3 -
تحرر الإِمام الشاطبي من القول بأن العمومات عند السلف ظنية الدلالة لأنهم مخصصون لها بأخبار الآحاد وهي ظنية الدلالة فلو كانت العمومات قطعية لما خصصها السلف بأخبار الآحاد. وقد سبق بيان أن ما نسبه المتكلمون إليهم لا برهان عليه (2). ولعله من أعظم الشبه التي حملت المتكلمين في أصول الفقه على قولهم بظنية العمومات.
وقد تحرر الشاطبي من ذلك كله فلم يتبع هذا الفرض الذي لا صحة له وتحرر من جانب آخر من مذهب الحنفية، فإنه وإن وافقهم في القول بقطعية العمومات إلا أنه يرى أن العام وبيانه دليل واحد ووضع واحد استعمالي يدل على مقصد الشارع، ولا يجعلهما متقابلين بحيث نحتاج إلى التخصيص بالمنفصل أوالمتصل ثم نقع في مقالة المتكلمين أو مقالة الحنفية، ولأن كانت طريقة المتكلمين قد أوجبت على العمومات الشرعية وصف الظنية، فإن الحنفية قد حجزوا أخبار الآحاد - مع صحتها وعدم شذوذها وعلتها - عن تخصيص
(1) انظر كلام الغزالي عنهم ص 194.
(2)
أثبت فيما سبق ص 167 أن افتراض أن الصحابة قائلون بظنية أخبار الآحاد فرض لا برهان عليه بل الحجة على خلافه.
العمومات باعتبار أنها قطعية وأخبار الآحاد ظنية، ولا يخصصون بها العمومات والحالة هذه.
وكما لم نسلم للمتكلمين القول بظنية العمومات فكذلك لا نسلم للحنفية منع هذه الأخبار من تفسير العام وبيانه، وكما أن ما فرضه المتكلمون من نسبة الظنية إلى الصحابة في العام وبيانه نسبة لا برهان عليها، فكذلك ما فرضه الحنفية من ظنية تلك الأخبار فرض لا صحة له، وقد تبين بالدليل الشرعي والنقل المتفق عليه من لدن الصحابة والتابعين أن أخبار الآحاد على تلك الصفة يصح بها الاستدلال على العقيدة ويزاد بها على القرآن وتكون تفسيراً وبياناً للعمومات (1).
فيتحصل لنا من هذه الدراسة:
1 -
إن عمدة الشريعة العمومات وهي صادقة العموم قطع السلف بذلك تحقيقاً لما فهموه حسب المقصد اللغوي والمقصد الشرعي.
2 -
إن ما ثبت من الدليل الشرعي متواتراً أوآحاداً يصح الاستدلال به على تفسير العمومات وبيانها، كما يصح الاستدلال به على إضافة السنّة لحكم جديد وإن كان زيادة على ما جاء به القرآن، ويصح الاستدلال بها -أيضاً- على العقيدة، سواء وصفه هؤلاء أوأولئك بالظنية أو القطعية (2).
(1) انظر نقل الاتفاق على إثبات هذه العقيدة ص 167.
(2)
انظر ما قاله الشيخ عبدالرزاق عفيفي تعليقاً على دراسة الآمدي لحجية أخبار الآحاد - وقد تعجب من الاحتمالات الكثيرة وإدخال مسائل الأصول في الظنيات مع أن الفرض أن تكون قطعية. انظر هامش ص 71 من الجزء الثاني من الأحكام، وقال 2/ 50 هامش رقم واحد "أحكام الشريعة أصولًا وفروعاً عقيدة وعملاً كل منها يصح إثباته والاستدلال عليه بأنواع الأدلة متواترة وآحاداً قطعية وظنية فمن علم حكماً عقيدة أو عملاً من دليل قطعي أو ظني وجب عليه اعتقاده في درجته والعمل بمقتضاه ولا يسعه الغاؤه والإعراض عنه وحسابه على الله لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ولا يتركها سدى فيما بلغها".
3 -
إن العمومات حجة ثابتة تحقيقاً قبل التخصيص وبعده.
وهذه من أعظم قواعد الثبات والشمول، فالشريعة عمدتها هذه العمومات الصادقة التي قطع بها السلف .. فهي علم ثابت راسخ الأركان هوقوام الكليات الشرعية منها يستخرج المجتهد -عن طريق الاجتهاد- الأحكام الشرعية وهي معلومة للأمة بل هي أساس الشريعة فهي حجة ثابتة -قبل التخصيص وبعده- وعنها يتفرع شمول الشريعة لأن العموم هو الشمول، وينبني على قاعدة راسخة ثابتة - لا على ظن واحتمال ومجاز .. فتنطلق مهمة الاجتهاد من تلك القاعدة - وطرق الاجتهاد كثيرة كما سيأتي معنا - وذلك بإعمال تلك العمومات واستخراج الجزئيات غير المتناهية منها - إضافة لما ورد من الأحكام الجزئية في الشريعة -فتكون تلك الكليات- التي هي العمومات - هي المعين الذي لا ينضب والبحر الذي لا ينفد يغترف منه المجتهدون ما تحتاجه الأمة من الأحكام فلا ينقطع الاجتهاد ولا ينفد البحر (1)، وإن عملية الاجتهاد كما تحدثنا عنها وكما سنتحدث عنها عند عرض أهم طرق الاجتهاد الأخرى هي الكفيلة باستخراج تلك الكنوز التي اشتملت عليها تلك العمومات سواء عن طريق استخراج النص مباشرة .. أو عن طريق قياس العلة أو عن طريق قياس المصلحة، فالاجتهاد بجميع أنواعه تنقيح المناط أو تخريجه أوتحقيقه هوعمل المجتهدين الذي به يتحقق الشمول في واقع الناس ويستقر على تلك القواعد الصادقة العموم التي تقوم بها الحجة وتثبت بها الأحكام كما هو منهج السلف الصالح بالقطع بعموماتها تحقيقاً، وبيان تلك العمومات بكل ما ثبت في الشريعة.
* * *
(1) انظر ما بينه سابقاً من وجه الإِعجاز في العمومات ودلالتها على الشمول والثبات ص 310.