الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على حساب الطرف الآخر، فهو جامع بين المحافظة على ألفاظ الشريعة وآخذ بالمعاني التي دلت عليها دون أن يلغي أحدهما بالآخر، بخلاف الفريق الأول حيث جرد المعاني فنظر في الشريعة بها واطرح خصوصيات الألفاظ، وبخلاف الفريق الثاني حيث جرد مقتضيات الألفاظ فنظر في الشريعة بها واطرح خصوصيات المعاني القياسية" (1).
المطلب الثالث
الإِجماع
وقد نقله العلماء الثقات من المحققين:
1 -
حكى الشاطبي إجماع السلف - رضوان الله عليهم - على العمل بالقياس (2).
2 -
قال المزني صاحب الإِمام الشافعي:
"الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وهلم جراً، استعملوا المقايس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم.
قال: وأجمعوا بأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل فلا يجوز لأحد إنكار القياس لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها" (3).
3 -
ونقله أيضاً شيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (4).
(1) الموافقات 4/ 151 - 152، وقل أن تجد مثل هذا التحقيق والبيان للأسباب التي حملت كل فريق على مذهبه الذي ذهب إليه، وهو تحقيق بالغ الأهمية لمعرفة مسارب الفكر وكيف يخرج منها البصير بحيث لا تختلط عليه السبل، هذا مع ما فيه من دلالة قوية على تأويل كل من الطرفين وستأتي الإشارة إلى هذا .. وتحسن الإِشارة هنا إلى أن الشاطبي لم ينتصب لدراسة القياس كما انتصب لها غيره، وفي هذا دلالة قوية على عمق فكره ونفاذ بصيرته رحمه الله.
(2)
الاعتصام 1/ 226.
(3)
جامع بيان العلم وفضله 1/ 96 - 97.
(4)
أصول الفقه وابن تيمية 1/ 203، 205، 218 وأعلام الموقعين ونبراس العقول 1/ 113.
4 -
ونقله ابن عقيل الحنبلي، والصفي الهندي، والرازي، وابن دقيق العيد (1).
وقد زعم من أنكر القياس عدم انعقاد الإِجماع، وحاصل ما عندهم أن من الصحابة والتابعين من أنكر العمل بالقياس، لأنهم ذموا العمل بالرأي وأوردوا نصوصاً كثيرة عنهم (2).
وقد تبين أن الرأي المذموم عند السلف من الصحابة ومن بعدهم، هو الجاري على غير أصل الشرع وكذلك القياس المذموم هو المبني على غير أصل (3).
وأول من خرق الإِجماع النظام وتابعه قوم من المعتزلة، وممن قال بإنكاره داود الظاهري من أهل السنة.
قال ابن عبد البر: "ما علمت أحداً سبق النظام إلى القول بنفي القياس والاجتهاد"(4).
وخلاف هؤلاء غير معتبر لأنه جاء بعد انعقاد الإِجماع (5).
(1) إرشاد الفحول 203.
(2)
المصدر السابق 203.
(3)
انظر ما سبق ص 371 - 380.
(4)
جامع بيان العلم وفضله 1/ 62، 63، 74.
(5)
إرشاد الفحول 203 البرهان 2/ 761، 818، 819، وقد صرح الجويني بأن علماء الظاهرية لا يُعدون من علماء الأمة وحملة الشريعة فإنهم مباهتون أولاً على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواتراً، ومن لم يزعه التواتر ولم يحتفل بمخالفته لم يوثق بقوله ومذهبه" هذا نص الجويني والذي أرى أنه الحق - أن أقصى ما نحتاج إليه في المسألة هو عدم اعتبار مخالفتهم، لحدوثها بعد الإِجماع، أما أنهم ليسوا من علماء الأمة فهذا موضع نظر لأن المخالف للقياس متأولاً لا يعد مباهتاً، وتأولهم ثابت بأمور:
1 -
معارضتهم القياس بنقول في غير محل النزاع.
2 -
خلطهم بين القياس الصحيح والفاسد.
3 -
اضطرابهم في مسألة تعليل الأحكام. =
مقارنة بين طريقتي ابن القيم والشاطبي:
1 -
أنهما قد حررا موضع النزاع بين المثبتين للقياس والمنكرين له.
2 -
اشتركا في نقل إجماع السلف من الصحابة والتابعين على إعمال القياس والرأي المبنيين على أصل شرعي، وذم ما سوى ذلك من الرأي والقياس المبنيين على غير أصل شرعي، مع بيانهما للفرق بين الرأي المحمود والرأي المذموم.
= وقد نقل ابن القيم مذهبهم وما تأولوه من الأدلة فيما يقارب مائة صحيفة أعلام الموقعين 1/ 227/ 330، فإذا ضممت مع هذا تحليل الشاطبي لمذهبهم. انظر ما سبق ص 381 علمت أنهم متأولون غير مباهتين ولا معاندين، وحينئذ لا وجه لا قاله الجويني اللهم إلّا أن يوصف به النظام ومن شاكله، وقد ناقشه الإِمام الجويني ولم يناقش الظاهرية، والذي اخترته السعي في إزالة شبهتهم إذ هم متأولون ونحتاج إلى إزالة الشبه نعليماً، والإِجماع منعقد لا يؤثر عليه خلاف من خالفه، أما النظام فلا يناقش إلّا لإِظهار زندقته وكفره، لأنه منكر للإِجماع مستهتر بالصحابة طاعن فيهم معروف بذلك، وقد أحسن الجويني في كشف كفره وزندقته فقال:"والإِجماع - الذي هو الحجة في إثبات القياس - قد نفاه النظام، وزعم أن أصحاب رسول الله دعوا الناس إلى اتباع الإِجماع، وراموا أن يتخذوا رؤساء، فقرروا الإِجماع، وأسندوا إليه ما يرون، وأخذوا يحكمون مسترسلين فيما لا نهاية له" 2/ 762 ثم قال عنه: "وما ذكره النظام كفر وزندقة، ومحاولة استئصال قاعدة الشرع لأنه إذا نسب حامليها إلى ما هذى به فبمن يوثق؟ وإلى قول من يرجع؛ وقد رد القياس وطرد مساق رده إلى الوقيعة في أعيان الأمة ومصابيح الشريعة، فإذا لا نقل ولا استنباط، ولا تحصل الثقة على ما قاله بآي القرآن .. " 2/ 763 والنظام - وهذا شأنه - ليس متأولاً بل مقتحم حمى الكفر والزندقة بعقيدته في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر مخازيه فيما سبق ص 182، ووجود التأويل المعتبر وعدمه سبب ظاهر في عدم جواز جعل المنكرين للقياس تحت حكم واحد، ومن المفيد أن نذكّر هنا بما نردده مراراً من أن الإِنصات إلى علماء البدعة وعدم الحذر من آثار علم الكلام سبب في التأثر بهم كما فعل داود الظاهري حيث أنكر القياس، ولو أن حذر من هذه المقالة لمخالفتها طريقة السلف في الاستدلال، ولأنها مسلك من مسالك أهل الأهواء لسلم بمشيئة الله من الوقوع فيها. وفي هذا تذكرة لمن أراد أن يتذكر ليحذر من آثار الفرق الضالة ويتحصن بالأمر الأول الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
3 -
أن طريقة كل منهما تقوم على الاستدلال بالقرآن والسنة والإِجماع وسواء كان استدلالاً موسعاً كاستدلال ابن القيم، أوعن طريق الاستقراء كاستدلال الشاطبي.
وهما في هذا يكمل أحدهما الآخر، فإن شئت أن تقوي استدلالات ابن القيم الجزئية باستقراء الشاطبي تحقق لك ذلك، إذ الاستقراء دليل كلي معتمد.
وإن شئت أن تقوي استقراء الشاطبي بالاستدلالات الكثيرة المتنوعة من الأيات والأحاديث التي ذكرها ابن القيم ظفرت باليقين وتحقق لك إجراء الاستقراء بطريقة أوسع مما نبه عليه الشاطبي.
4 -
أنهما يذهبان إلى القول بتعليل الأحكام الشرعية وابتنائها على المصالح، ويريان أن ذلك من ألطف الفقه وأدقه، وأن ذلك هو قاعدة الاجتهاد.
5 -
أنهما وسط بين المتعمقين في القياس .. والمنكرين له.
6 -
أنهما يدركان إدراكاً عميقاً وجهة كل من الفريقين، ويختلفان في أن ابن القيم توسع في ذكر أدلة كل منهما، وأن الشاطبي كان أكثر التفاتاً لتحديد السبب الذي حمل الفريقين على ذلك بصورة عميقة وبيان شاف مع أنه لم يفرد القياس بدراسة خاصة.
7 -
أن طريقتيهما في العرض والاستدلال والأسلوب بعيدتان عن الجدل والمصطلحات الفلسفية.
8 -
أنهما حريصان كل الحرص على المحافظة على خصوصيات الألفاظ من جانب والمحافظة على اعتبار المعاني من الجانب الآخر، وذلك هو قاعدة الثبات والشمول في الشريعة.
9 -
أن ما كتباه يعتبر تجديداً لمذهب السلف في القياس دون إفراط أو تفريط بحيث يتحقق الشمول وتسلم الأحكام من التغيير والتبديل، قال
الإِمام ابن عبد البر وهو يحكي مذهب السلف في الاجتهاد والقياس على الأصول وبيَنَ أن المذموم هو: "القياس على غير أصل والقول في دين الله بالظن، وأما القياس على الأصول والحكم للشيء بحكم نظيره فهذا ما لا يختلف فيه أحد من السلف بل كل من رُوي عنه ذم القياس قد وجد له القياس الصحيح منصوصاً لا يدفع هذا إلّا جاهل أو متجاهل مخالف للسلف في الأحكام"(1) وهذا معنى ما قلته سابقاً من أن طريقة ابن القيم وطريقة الشاطبي وسط بين الصادين عن القياس والمتعمقين فيه، إضافة إلى بيان مذهب الصحابة من خلال بيان مذهب هذين الإمامين.
* * *
(1) جامع بيان العلم 2/ 77.