الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه المادة لا بد من المحافظة عليها تمامًا كما نحافظ على خصوصيات الألفاظ
لأنها مصدر وشاهد، فما خالفها من القياس فهو باطل.
ومن هنا تأتي خطورة الجمود على خصوصيات الألفاظ، أو الإِغراق في اتباع المعاني وإهمال خصوصيات الألفاظ، ولذلك قررت طريقة ابن القيم والشاطبي لأنها تمثل الوسط والعدل في إعمال القياس الشرعي، كما عمل به الصحابة - رضوان الله عليهم - (1).
وننتقل إلى معنى آخر مهم جداً ألا وهو الأمر الثاني وهو: هل القياس مسلك عقلي أم منهج شرعي؟
المطلب الثالث
القياس منهج شرعي لا مسلك عقلي
ومعنى ذلك أن القياس أداة شرعية محكومة بالضوابط الشرعية فلا يتصور أبداً أن تخرج عنها إلّا إذا رُفعت عنه صفة "الشرعية" وحينئذ لا تلزمنا نتيجته.
أما إذا كان مسلكًا عقلياً فمعنى ذلك أنه حاكم على الشرع ويأخذ صلاحيته من صلاحية النظر العقلي، فإذا حكم العقل بشيء أصبح حكمه حجة وما يعارضه -وإن كان من الشرع- لا عبرة به، فإذا كان القياس مسلكاً عقلياً فقد خرج حينئذ عن الالتزام بضوابط الشرع لأنه حجة مستقلة بنفسه، هو فيها حاكم ورائد، فإذا كان الأول أخذناه المأخذ الذي حددنا سماته في أول الباب وعرفنا ضوابطه وكيف يتحقق من خلالها الشمول والثبات، وهو لا يأتي حينئذ إلّا بخير، لأن قاعدة المنهج الشرعي هي الإِعجاز كما بيناه سابقًا، وهذا الإِعجاز من سمته الثبات والشمول وهو متحقق في باب القياس، فالنصوص يستفاد منها في تتبع معانيها ويكون منها المصدر والشاهد في الوقت نفسه ويستمر هذا الاستثمار ولا ينقطع أبداً، كل ما جاء جيل من أجيال البشرية - وهو مهتد
(1) هناك أئمة كثيرون يمثلون منهج الوسط في العمل بالقياس بين المانعين والمتوسعين، وقد اقتصرت على ذكر ما قاله ابن القيم والشاطبي للأسباب المذكورة سابقاً. انظر ما سبق ص 375.
بأحكام هذه الشريعة - وجد له علماؤه المجتهدون فيها ما يحتاج إليه من الأحكام فيتجدد الاستنباط مع المحافظة على "الأصل"، وهو المصدر والشاهد على سلامة ذلك الاستنباط، ولا يمكن "للعقل" أن يقوم بهذه المهمة، لأنها في حقيقتها هي عبارة عن إنزال الوحي - الذي هو مجموع النصوص - والنص الواحد هو عبارة عن "الأصل" الذي هو أحد أركان القياس، وهذا الوحي متضمن لمعاني وحكم مناسبة منضبطة منصوص عليها أو متضمنة فيه وهي ما يطلق عليها العلل والحكم، وهذه هي مادة القياس، فمن يستطيع أن يقوم بهذه المهمة وهي إنشاء "الأصل" المتضمن للعلل والحكم إلّا الشارع الحكيم؟ ولهذا كان القياس منهجاً شرعياً لا مسلكاً عقلياً، أي أنه لا يُبنى على حكم العقل، وإنما يُبنى على حكم الشرع، وحينئذ يتحقق فيه الثبات والشمول على ما بيناه سابقاً، ويسلم من ضد ذلك، إذ لو كان عقلياً لوقع في الاختلاف والاضطراب والقصور.
بقي أن نفسر عمل المجتهد في نقل الحكم من الأصل إلى الفرع وهو عمل بشري أداته العقل، فكيف والحال كذلك يكون القياس منهجًا شرعياً، ونذكر جواب الإِمام الشاطبي في هذا الموضع ثم نبني عليه، وحاصله: أن القياس نظر في أمر شرعي، مأخوذ من الأدلة الشرعية يُبنى عليها ويُضبط بها، فإذا ألحقنا المسكوت عن حكمه وهو "الفرع" بالمنصوص عليه وهو "الأصل" فإن العقل لا دخل له في إنشاء حكم الأصل الذي هو المنصوص عليه، ولا في حكم "الفرع" الذي هو المسكوت عنه، فإن الأول عُلم بالنص وهو من عند الله سبحانه، والثاني عُلم بعد أن تتبع المجتهد علة الحكم فوجدها في "الفرع" فَنَقَل الحكم إليه التزامًا بأمر الشارع حيث طلب منه أن يسوي بين "الفرع" و"الأصل" في الحكم إذا استويا في العلة، والعقل لم يُنشئ الحكم في النص، ولم يحكم بوجوب إلحاقه بالفرع، وهذا معنى قولنا القياس منهج شرعي، لا عقلي، فهو وإن كان فيه جهد عقلي إلّا أنه كما يقول أبو إسحاق الشاطبي:"مهتد فيه بالأدلة الشرعية يجري ما أجرته ويقف حيث وقفته"(1).
(1) الموافقات 1/ 88 - 89.
وإليك شرح هذه العبارة وذلك بمراجعة أركان القياس:
"الأصل" و"الفرع" و"حكم الأصل" و"العلة"، أما الأصل وحكمه وعلته فهو عبارة عن "النص ومعناه" وهذا من وضع الشارع لا دخل للعقل فيه البتة.
وأما "الفرع" فوجوب تعدية الحكم إليه إن كان محلًا له أمر شرعي أيضاً لا حكم عقلي.
فالشارع أنزل أصلاً وحكماً وضمنه علة أو نص عليها وأمر بنقل الحكم اذا وُجِدتْ تلك العلة في موضع آخر، والمجتهد يبذل جهده - وهو مهتد بهذه الأوامر الشرعية فيجري حيث أجرته ويقف حيث وقفته، فإذا أمرته بتعدية الحكم تبين علته وحددها واستنبطها من النص إن لم يكن منصوصاً عليها ثم ينظر بجهده العقلي في الفرع ليتحقق من كونه محلًا للحكم، فإن وجده كذلك نقل الحكم إليه وهذا النقل استجاب فيه لحكم الشرع، وإن لم يجده كذلك قصر الحكم على الأصل ولم ينقله وهو مستجيب في ذلك لحكم الشرع أيضاً، فيجري حيث أجراه ويقف حيث أوقفه.
فالسلطان إذاً للشرع في إنزال النص ومعناه، وفي الأمر بالتعدية، وهو الذي يُجري عقل المجتهد أو يوقفه حسب أوامره وضوابطه، وهذا معنى قولنا أن العقل ليس بشارع وإنما يسرح حيث سرحه المشرع ويقف حيث أوقفه (1)، وإذا كان منهج القياس منهجاً شرعياً لا عقلياً تحقق ما قدمناه آنفاً من أن هذا المنهج معجز يجمع بين الثبات والشمول، والعقل - وطبيعته القصور والضعف - لا حكم له في عملية القياس لأنه غير مستقل بل هو محل للعبودية محكوم بحكم الشرع يسرح حيث يسرحه ويقف حيث يوقفه، تماماً كما يدرك القافة شبهًا بين غلام ورجل فتحكم أنه منه وينسب إليه، فإنها تعمل بأمر الشرع وإدراكها لوجود الشبه لا يعني أنها أنشأته في الأول أو الثاني، وترتب الحكم لم يكن شرعياً لو لم يأمر الشرع بتعديته.
(1) سيأتي زيادة بيان لهذه القضية عند الحديث عن المصلحة إن شاء الله.
فكذلك إدراك الشبه بين "الأصل" و"الفرع" وإن كان أداته العقل إلّا أنه لم ينشئه ولم يرتب حكماً ولا يمكنه ذلك لو لم يأمر الشرع به.
فإذا عزل تصرف العقل عن ذلك كله استقر الحكم الشرعي وسلم من نناقضات العقول وضعفها، وكان لزاماً على العقل أن يتعبد بأحكام الشريعة، وهو مما شُرف الإنسان به، فإن لم يخضع أحسن ما في الإنسان كيف تتحقق العبودية إذاً (1)، وبهذا يتحقق الإِعجاز - على ما قدمنا - من خلال منهج شرعي متوازن، ويُعزل عنه المسلك العقلي وجميع سلبياته لتستقر قاعدة الثبات والشمول في توازن واتساق والله أعلم.
* * *
(1) ولذلك كان مما ينافي صحة العبودية أن يقدم العبد بين يدي الشريعة فيقول كيف؟ ولم؟ ولكن يجب عليه أن يقول بمقتضى إيمانه بأن الله هو الموصوف بجميع صفات الكمال الذي حكمه العدل والحق: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} البقرة 285.
أما فائدة وجود بعض الحكم الظاهرة في الأدلة الشرعية فهي معرفتها لكي يقيس المجتهد عليها
…
ثم يقول المؤمنون بعد ذلك وقبل ذلك {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} لكل حكم من الأحكام حتى وإن لم يدركوا الحكمة منه.