الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأصل الشرعي -كما هو ظاهر- لا يقتصر على أن يكون نصاً شرعياً بل ويكون معنى شهد له نص معين أو مجموعة نصوص كما سيأتي بيانه وهذا هو قاعدة الشمول فإن جميع الحوادث والوقائع التي تجد للناس إما أن تدخل تحت نص شرعي أو تحت معنى شرعي أو تحت أصل مستنبط منهما، والبناء على أصل شرعي يزيد شمول الشريعة عمقاً ووضوحاً عند تحقيقها في عالم الواقع، ذلك أن الأصل الشرعي المستنبط يأخذه المجتهدون في كل جيل ويهتدون به، فهو لهم ضابط عن الوقوع في التغيير والتبديل، كما أنه معلم لهم وقاعدة يبنون عليها، فلا يزداد هذا الأصل مع مر العصور وتعاقب أجيال هذه الأمة إلّا قوة في الثبات وعمقاً في الشمول، وبهذه المعالم يُحفظ جهد المجتهدين ويُبنى بعضه على بعض، ويدركون به شمول الشريعة من جانب ومن جانب آخر يحول بينهم وبين تغيير الأحكام والوقوع في الابتداع، ويربط أجيال هذه الأمة برباط متين من خلال توحيد وتنمية جهد المجتهدين، وهذه أكبر سمات فقهاء أهل السنّة، أما المنحرفون عن هذه الشريعة من أهل الأهواء والابتداع فقد بنوا على غير أصل شرعي، واتبعوا أهواء الأمم الكافرة وطوائفها، وفرقوا دينهم ومناهجهم وقطعوا ما بينهم وبين الجيل الأول، وغيروا الشريعة بعقائدهم وأحكامهم الفاسدة ولم يدركوا ثباتاً ولا شمولاً، فانصرفوا عن الشريعة إلى ما يخالفها يبتغون غير الله حكماً، ويلبسون على الأمة دينها، فليس لهذه الشريعة عندهم معالم ثابتة تميزها عن غيرها، ولم يكفهم أن نزّلها الله عليهم، بل اتبعوا عقولهم القاصرة أضلتهم العجمة وأفسدهم سوء الفهم وأهلكهم الزيغ والانحراف.
المطلب الثاني
الجهل بلغة العرب
تقدم الكلام في أن المجتهد لا بد أن يكون في فهم لغة العرب كالعربي .. بحيث يعلم لغة العرب، وكيفية خطابها، فلا يخرج اللفظ عما وضع له ..
وإن لم يكن كذلك لم يجز له النظر في الشريعة، بل عليه الرجوع إلى أئمة
العربية. فإن نطق بالصواب من حيث لم يعلمه فهو مخطئ آثم كما قال الشافعي في كتابه الرسالة (1).
وقد مر معنا بيان هذا الشرط والاستدلال عليه بما فيه الكفاية ونقتصر هنا على بيان أثر انعدامه على ثبات الأحكام بشيء من التفصيل باعتبار أن الجهل بها صفة من صفات أهل الأهواء ومسلك من مسالكهم.
وأول ما نبدأ به هنا ما أشار إليه الشاطبي في الاعتصام، من أن من أعظم الأسباب التي خرجت بها الفِرَقُ ووقعت بها الضلالات، وتغيرت بها معالم الشريعة في واقع الناس، هو وقوع الناس في العجمة، وتضييعهم للغة العرب .. ونظرهم في الشريعة وهم لا يملكون الآلة، فجاؤوا بالعجائب وقلبوا الشريعة ظهراً لبطن (2).
فإذا كانت الشريعة تأمر بالألفة والمحبة صارت تأمر عند هؤلاء أشباه الأعاجم بالفرقة والعداوة، واذا كانت تأمر بإصلاح ذات البين والكف عن الخوض في الباطل صارت عند هؤلاء على الضد من ذلك (3).
وما زال جهلهم بلغة العرب التي نزل القرآن بها يرمي بهم في أودية المهالك حتى ضلوا وأضلوا ..
وهذا وإن كان في أصل الاعتقاد إلّا أنه انجر إلى أحكام الشريعة.
وقد أحسن الإِمام الشاطبي عندما بين أصول الفرقة الناجية وهي أهل السنّة والجماعة فذكر من هذه الأصول: أنه لا يتكلم في القرآن والسنة إلّا من هو عربي اللسان (4). أما المنحرفون عن هذه الشريعة فيتكلمون فيها ولا يتبعون
(1) الرسالة: مسألة 178.
(2)
الاعتصام 1/ 237.
(3)
الموافقات 4/ 122 - 123.
(4)
الاعتصام 2/ 297.
لغة العرب بل تقودهم مسالكهم الفاسدة وتحف بهم العجمة من كل جانب ومن أمثلة ذلك:
1 -
قول من زعم أنه يجوز نكاح تسع من النساء بدليل قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} (1). لأنه جمع أربعاً إلى ثلاث إلى إثنتين فكانت تسْعاً.
والحق أن معنى الآية فانكحوا إن شئتم إثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً.
والقائل بنكاح التسع "لم يشعر بمعنى فعال ومفعل في كلام العرب، وإن معنى الآية فانكحوا إن شئتم اثنتين اثنتين، أو ثلاثاً أو أربعاً أربعاً على التفصيل لا على ما قالوا"(2). ومثنى وثلاث ورباع ممنوع من الصرف على وزن فعال ومفعل، فثلاث معدولة عن ثلاثة ثلاثة، ومثنى معدولة عن اثنتين اثنتين، فتقول جاء القوم ثلاث ثلاث أي ثلاثة ثلاثة، ومثنى أي اثنين اثنين (3).
قال ابن العربي المالكي مقصود الكلام ونظام المعنى فيه "فلكم نكاح أربع، فإن لم تعدلوا فثلاثة فإن لم تعدلوا فاثنتين، فإن لم تعدلوا فواحدة فنقل العاجز عن هذه الرتب إلى منتهى قدرته، وهي الواحدة من ابتداء الحل وهي الأربع ولو كان المراد تسع نسوة لكان تقدير الكلام فانكحوا تسع نسوة، فإن لم تعدلوا فواحدة وهذا من ركيك البيان الذي لا يليق بالقرآن"(4).
2 -
قول من زعم أن الرجم ليس ممن قضى الله به لأنه ليس في كتاب الله. ففي الحديث الذي رواه عبيد الله أنه "سمع أبا هريرة وزيد بن خالد قالا: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله إلّا ما قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي قال: قل،
(1) سورة النساء: آية 3.
(2)
المصدر نفسه 2/ 302.
(3)
شرح ابن عقيل 3/ 325 - 326 الطبعة السادسة عشر - دار الفكر 1394 هـ.
(4)
أحكام القرآن 1/ 313 - وانظر تفسير ابن كثير 1/ 450 - 451 وفيه نقل الأدلة من الأحاديث على منع الزيادة على أربع.
قال: إن ابني هذا كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذكره، المائة شاة والخادم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها" (1).
وقي هذا الحديث دلالة على أن الرجم ممن قضى الله به لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأقضين بينكما بكتاب الله" ومثله قوله تعالى:
{كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} (2).
أي حكمه وفرضه الذي شرعه لكم وألزمكم به فلا تخرجوا عن حدوده وأمره الذي أمركم به، ولا تقربوا ما حرم عليكم (3).
ولكن العجمة أهلكت هؤلاء فزعموا أن الرجم ليس في كتاب الله فلا يعتبر من شريعته، ولو علموا معنى الأقضين بينكم بكتاب الله" لما انحرفوا في تغيير هذه الشريعة وهي شريعة "الرجم" (4) ولعلموا أن الله لما أرسل جبريل إلى محمد عليهما السلام أرسله بالوحي، فكما أن الكتاب وحي من الله وقضاء فكذلك السنّة وحي من الله وقضاء على ما بيناه فيما سبق (5).
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 12/ 136 - 137 باب الاعتراف بالزنا. ومعنى "إن ابني هذا كان عسيفاً" أي أجيراً. المصدر نفسه 12/ 138.
(2)
سورة النساء: آية 24.
(3)
تفسير ابن كثير 1/ 475، وجامع البيان 5/ 9.
(4)
الاعتصام 2/ 315، وقد ذكر الشاطبي هذا المثال لبيان كيف أهلكت العجمة من ظن بنفسه القدرة على الاستدلال وهو يجهل لغة العرب، وهو كما قال، وأضيف أن هؤلاء هلكوا مهالك شتى منها ما ذكره الشاطبي ومنها أنهم لم ينظروا في السنة العملية لرسول الله وصحابته من بعده، فخالفوا الإِجماع وردوا المحكم من النصوص الآمرة باتباع الرسول وتعلقوا بالمتشابه فضلوا وأضلوا.
(5)
انظر ما سبق ص 30 - 32.
3 -
قول من زعم أن شحم الخنزير حلال، لأن القرآن حرم اللحم دون الشحم: ولو سأل عن لغة العرب لعلم أن اللحم يطلق على الشحم (1)، فإذا حرم القرآن لحم الخنزير فقد حرم شحمه، بخلاف الشحم فإنه لا يطلق على اللحم (2).
قال ابن العربي المالكي "وقد شغفت المبتدعة بأن تقول: فما بال شحمه بأي شيء حرم؟ وهم أعاجم لا يعلمون أنه من قال لحماً فقد قال شحماً، ومن قال شحماً فلم يقل لحماً
…
" (3). فالعجمة وهي عدم التمرس بلغة العرب وعدم الرجوع إلى أئمتها هو من الأسباب التي أدت إلى تغيير الأحكام كما هو واضح من هذا المثال.
ثم ذكر الشاطبي أمثلة أخرى متفرقة وعلق على بعضها بقوله: "فقد ظهر بهذه الأمثلة كيف يقع الخطأ في العربية في كلام الله سبحانه وتعالى وسنّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأن ذلك يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه، والصحابة رضوان الله عليهم براء من ذلك، لأنهم عرب لم يحتاجوا في فهم كلام الله تعالى إلى أدوات ولا تعلّم. فكل من اقتدى بهم في تنزيل الكتاب والسنة على العربية - إن أراد أن يكون من أهل الاجتهاد فهو -إن شاء الله- داخل في سوادهم الأعظم، كائن على ما كانوا عليه، فانتظم في سلك الناجية"(4).
وقد استند الشاطبي على ما حرره الإِمام الشافعي في الرسالة حيث قال: "
…
وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها لا يذهب منه شيء عليها ولا يطلب عند غيرها. ولا يعلمه إلّا من قَبِلَهُ عنها، ولا يشركها فيه إلا من
(1) تقول العرب رجل لحيم إذا كان سميناً - مجمل اللغة 804.
(2)
الاعتصام 2/ 302 - 303.
(3)
أحكام القرآن 1/ 54.
(4)
يقصد في سلك الفرقة الناجية وهي التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضوان الله عليهم -. الاعتصام 2/ 304. ومع هذا الشرط شروط أخرى ستأتي الإِشارة إليها.
اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها، وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله" (1).
وقد علق عليه الشاطبي بقوله: "هذا ما قال ولا يخالف فيه أحد، فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي به أُدّيت، وأن لا يُحَسِّنْ ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل علم العربية بأنه يستحق النظر، وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها، فإذا ثبت على هذه الوصاة كان - إن شاء الله - موافقاً لما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام"(2).
وما زل أهل الأهواء - وفارقوا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - إلّا بتركهم لهذه الوصاة، فلم يطلبوا لغة العرب من عند أهلها العالمين بها، ولم يتبعوا معهود العرب في لسانهم، وحسّنوا الظن بأنفسهم، وأوقعوها في المسائل المشكلة فقالوا في الشريعة برأيهم لا بلسانها، فضلوا وأضلوا
…
وخالفوا المسلمات في العقائد والأحكام .. وخالفوا مواطن الإِجماع من حيث يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ومثل هذه الاستدلالات لا يعبأ بها ولا يعد خلاف أهلها خلافاً "وما استدلوا عليه من الأحكام الفروعية أو الأصولية فهو عين البدعة إذ هو خروج عن طريقة كلام العرب إلى اتباع الهوى"(3).
إذا ثبت هذا فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولًا وفروعاً أن يراعي ذلك، ويتق الله في نفسه وفي غيره، ولا يتكلم في الشريعة إلّا وقد تحقق من هذا الشرط مع الشروط الأخرى فإن لم يستطع فعليه بأخذ العلم عن الصحابة وأئمة السلف.
وحينئذ لن يتكلم في الشريعة أحد برأيه وإنما سيتكلم فيها بلسانها .. فقد
(1) الرسالة: مسألة 143.
(2)
الاعتصام 2/ 300 - 301.
(3)
المصدر السابق 1/ 238.