المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأولمقارنة بين الإعجاز الكوني والإعجاز التشريعي وبيان سماته - الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

[عابد السفياني]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيدفي أهم خصائص الشريعة الإِسلامية بوجه عام

- ‌الباب الأولالشريعة الإِسلاميةثباتها وشمولها وحجيتها

- ‌الفصل الأولالشريعة الإِسلامية والفقه الإِسلامي

- ‌المبحث الأولالتعريف بمصطلح الشريعة الإِسلامية

- ‌المطلب الأولالمعنى اللغوي

- ‌المطلب الثانيالمعنى الشرعي

- ‌المبحث الثانيتعريف "الفقه الإِسلامي" وبيان الفرق بينه وبين "علم الكلام

- ‌المطلب الأولتعريفه في اللغة

- ‌المطلب الثانيتعريف الفقه في الاصطلاح وهل هو علم أو ظن

- ‌الفرع الأولذكر أهم التعريفات

- ‌الفرع الثانيالقيود المتفق عليها

- ‌الفرع الثالثاستخراج أهم القيود المختلف فيها وهل الفقه من المعلومات أو من الظنيات

- ‌الفرع الرابعالمناقشة

- ‌الفرع الخامسمقارنة بين "علم الكلام" و"علم الفقه

- ‌المبحث الثالثالفرق بين "الفقه" و "الشريعة

- ‌الفصل الثانيالمقصود من الثبات والشمول والأدلّة على ذلك

- ‌المبحث الأولالمقصود من الثبات والأدلة على ذلك

- ‌المطلب الأولمعنى الثبات في اللغة

- ‌المطلب الثانيالدليل الأول على ثبات الشريعة

- ‌المطلب الثالثالدليل الثاني

- ‌المطلب الرابعالدليل الثالث

- ‌المطلب الخامستطبيقات على منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - في المحافظة على ثبات الأحكام

- ‌المبحث الثانيالمقصود من الشمول والأدلة على ذلك

- ‌المطلب الثانيالدليل الأول على الشمول

- ‌المطلب الثالثالدليل الثاني على الشمول

- ‌المطلب الرابعالدليل الثالث على الشمول

- ‌الفرع الأولذكر كلام المفسرين في معنى الإكمال

- ‌الفرع الثانيذكر كلام الشاطبي في معنى الإِكمال

- ‌الفرع الثالثحاصل كلام أهل العلم في معنى الإِكمال

- ‌الفرع الرابعذكر بعض الشبه والجواب عنها

- ‌الفصل الثالثالاحتجاج بالأدلة النقلية

- ‌المبحث الأولقوّة الأدلّة النقلية

- ‌المطلب الأول

- ‌المطلب الثانيالاستقراء يثبت أن هذه البينات والجوامع لا بد من العلم والعمل بها معًا

- ‌المطلب الثالثالشريعة هي الحجة على الخلق على الإِطلاق والعموم

- ‌الفرع الأولذكر رواية البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما

- ‌الفرع الثانيذكر حديث معاذ كما رواه مسلم

- ‌الفرع الثالثذكر روايتي البخاري عن البراء وأنس رضي الله عنهما

- ‌المطلب الرابعذكر اتفاق الصحابة والتابعين على ذلك كما نقله الثقات من أهل العلم

- ‌المطلب الخامسذكر أوصاف الشريعة

- ‌الفرع الأولأوصاف الشريعة كما بينها الشاطبي

- ‌الفرع الثانياعتراض وجوابه

- ‌المبحث الثانينشأة القول بتضعيف الأدلة النقلية

- ‌المطلب الأولحقيقة هذه المقالة وموقف الخوارج والمرجئة منها

- ‌المطلب الثانينشأة هذه المقالة على يد المعتزلة

- ‌الفرع الأولمقالة واصل بن عطاء رأس المعتزلة (80 - 151)

- ‌الفرع الثانيتطور فكر المعتزلة على يد أبي الهذيل العلاف(توفي سنة 232 ه

- ‌الفرع الثالثتطورها مرة أخرى على يد النظام

- ‌المبحث الثالثأهم الأسباب التي ساعدت على انتشار القول بالظنية

- ‌المطلب الأولموقف الخوارج من رد السنة

- ‌المطلب الثانيموقف الفلاسفة وبيان وجه ارتباط تلك البدعة به، وذكر شبهة المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة

- ‌المطلب الثالثمناقشة شبهة المخالفين والجواب عنها بأكثر من وجه

- ‌الباب الثانيالاجتهاد وأهم طرقه وقضيّة الثبات والشمول

- ‌الفصل الأولالاجتهاد وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولحكمه وحكمته وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المبحث الثانيأنواع الاجتهاد وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولتنقيح المناط

- ‌المطلب الثانيتخريج المناط

- ‌المطلب الثالثتحقيق المناط

- ‌المبحث الثالثأذكر أهم شروط الاجتهاد وأثرها على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولالعلم بلغة العرب

- ‌المبحث الرابعضوابطه وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولالبناء على غير أصل

- ‌المطلب الثانيالجهل بلغة العرب

- ‌المطلب الثالثالاعتماد على "العقلى واتباع المتشابه

- ‌الفصل الثانيالعموم وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولمقارنة بين الإِعجاز الكوني والإِعجاز التشريعي وبيان سماته

- ‌المبحث الثانيالعموم اللفظي

- ‌المطلب الأول

- ‌الفرع الأولطريقة الإِمام الشاطبي

- ‌الفرع الثانيالاعتراضات التي ذكرها وأجاب عنها

- ‌الفرع الثالثاعتراضات أخرى وجوابها

- ‌المطلب الثانيطريقة المتكلمين ومناقشتها

- ‌الفرع الأولذكر طريقة المتكلمين

- ‌الفرع الثانيمناقشة الحنفية والإِمام الشاطبي والإِمام ابن تيمية لطريقة المتكلمين

- ‌الفرع الثالثمناقشة ابن تيمية لطريقة المتكلمين ومقارنتها بمذهب الشاطبي

- ‌الفرع الرابعتحليل طريقة المتكلمين وبيان الفرق بينها وبين طريقة السلف كما يمثلها الشاطبي

- ‌الأول: أصل رفع الحرج:

- ‌الثاني: قاعدة سد الذريعة

- ‌الفصل الثالثالقياس وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولطريقة الإِمام ابن القيم

- ‌الفرع الأول الأدلة من الكتاب والسنة:

- ‌الفرع الثانيعمل الصحابة بالقياس أو التفريق بين الرأي المذموم والرأي المحمود

- ‌المبحث الثانيطريقة الإِمام الشاطبي

- ‌المطلب الأولالأدلة على إثبات القياس

- ‌المطلب الثانيجوابه عن أقوال المعاوضين

- ‌المطلب الثالثالإِجماع

- ‌المبحث الثالثتطبيقات على أركان القياس وبيان شرط التعليل بالحكمة

- ‌المطلب الأولتطبيقات على أركان القياس

- ‌الفرع الأول

- ‌الفرع الثاني

- ‌الفرع الثالث

- ‌الفرع الرابعتحقيق مذهب الإِمام الشاطبي في التعليل بالحكمة

- ‌الفرع الخامسبيان أثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الثالثالقياس منهج شرعي لا مسلك عقلي

- ‌الفصل الرابعالمصلحة وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولتعريف المصلحة والتأكيد على الضوابط الشرعية فيه

- ‌المبحث الثانيالعقل لا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد

- ‌المبحث الثالثالمصلحة ودلالتها على الثبات

- ‌المبحث الرابعالمصلحة ودلالتها على الشمول

- ‌المطلب الأولتحرير موضع النزاع

- ‌المطلب الثانيأسباب التغير وتصوير مذهب المخالفين

- ‌ المطلب الثالث

- ‌المطلب الرابعبيان موقف الصحابة - رضوان الله عليهم - من النصوص

- ‌المطلب الخامسمناقشته في رده لضوابط المصلحة عند الأصولين

- ‌المطلب السادسمناقشة اعتباره المصلحة دليلاً مستقلاً

- ‌المطلب السابععدم فهم بعض الباحثين لمعنى "التعبد" في الشريعة ومناقشته فيما نقله عن الشاطبي

- ‌المطلب الثامنالفرق بين العبادات والعاديات

- ‌المطلب التاسعمناقشة ما نسبه بعض الباحثين إلى الإِمامين: ابن القيم والشاطبي

- ‌الفرع الأولفيما نسبوه إليهما

- ‌الفرع الثانيالمناقشة

- ‌المطلب العاشرموقف الشريعة من العادات والأعراف والمصالح

- ‌الفصل الخامسمواطن الإِجماع ومواطن الخلاف وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولكيفية تحقق الثبات والشمول في الحكم المجمع عليه

- ‌المطلب الأولالاعتراض الأوّل وجوابه

- ‌المطلب الثانيالاعتراض الثاني وجوابه

- ‌المطلب الثالثالاعتراض الثالث وجوابه

- ‌المبحث الثانيكيفية تحقق الثبات والشمول في الأحكام التي لم يتحقق فيها إجماع

- ‌خاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌المبحث الأولمقارنة بين الإعجاز الكوني والإعجاز التشريعي وبيان سماته

‌المبحث الأول

مقارنة بين الإِعجاز الكوني والإِعجاز التشريعي وبيان سماته

تبين مما سبق أن "الشريعة الإِسلامية" موصوفة بالكمال والثبات والشمول، وهذه ألفاظ أتراب يأخذ بعضها بحجز بعض، فإن قلت كمالها يقتضي ثباتها وشمولها فقد صدقت، لأنها لا تكون كاملة إلّا وهي ثابتة شاملة، لأن عدم الثبات نقص وعدم الشمول كذلك.

وإن قلت ثباتها يقتضي كمالها وشمولها فقد صدقت، لأن ثباتها اقتضى -في مراد الله- أنها لازمة للبشر كافة على جميع العصور، ولا تكون كذلك إلا وهي كاملة شاملة لأن ذلك مقتضى الرحمة والحكمة والعدل الرباني تفضلًا منه سبحانه ونعمة.

وإن قلت شمولها يقتضي ثباتها وكمالها فقد صدقت، لأنها لا تكون شاملة إلّا أن تكون ثابتة ما بقي تكليف وعمل في الأرض، وإلّا لم يتحقق الشمول إذا انقطع الثبات، وكذلك لا تكون شاملة إلّا إذا كملت فلا يلحقها نقص أبدًا.

فالكمال والثبات والشمول مقطوع به، وهو قمة الإِعجاز التشريعي (1)

(1) الطرق لهداية القلب البشري للاستسلام لشريعة الله كثيرة جدًا، فقد يهتدي إنسان بمجرد التفكير في آيات كونية أو آيات تشريعية ومع ذلك فإن الأصل في هداية القلب البشري إلى الله هو ما كان بالفطرة ألصق وبمعهود الأميين أقرب، وبالاطلاع على الكون أيسر، لأنه يمكن أن يقرأه كل أحد في كل حال حتى الذين لا يطلعون على أسرار التشريع وهم أكثر البشر، ولذلك اعتمد الرسل عليهم السلام على هذا الأصل القرآني في تصحيح العقيدة وهو قاعدة الدعوة ما بقيت البشرية في حاجة إلى التصحيح.

ص: 310

وهو متواكب مع إعجاز الخلق لما نرى من الآيات الكونية، بل هو كما تبين فيما سبق مطبوع بطابع الإِعجاز الخلقي للكون، فالإعجاز التشريعي -الذي يعجز عن الإتيان بمثله أو بشيء منه البشر أجمعون- هو صادر عن إرادة الله في إنزال القرآن - الذي هو كلامه سبحانه - والإعجاز في خلق الكون وآياته ما علمنا منها وما لم نعلم - الذي يعجز عن خلق شيء منه البشر أجمعون - هو صادر أيضًا عن إرادته سبحانه حيث يقول للشيء كن فيكون، ولذلك كان سمة الإِعجاز في الموضعين واحدة حيث طبع بطابع الكمال والثبات والشمول.

ولذلك فإن هذين الإعجازين لا ينقطعان، أما الإِعجاز الكوني فكما قال سبحانه:

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (1).

وأول صفاته ضخامته وتعدد مواضعه وكثرة خصائصه وتنوع أشكاله وعمق دلالته - يقابل ذلك كله ضعف طاقات الإِنسان في جميع عصوره - حتى في عصرنا الحاضر - وهذا جعل الإِنسان لا يستطيع أن يتملى هذا الإِعجاز ويكشف عن جميع مجالته ومظاهره وخصائصه دفعة واحدة في جيل واحد فضلًا أن يدرك عمقه، وفي ذلك رحمة بالإنسان لكي يدرك في كل عصر من دلالة هذا الإِعجاز ما يحمله على تصحيح عقيدته في الله واتباع منهجه، وهو في جميع العصور واجد لا محالة من خصائص هذا الإِعجاز ودلالته بحيث يفكر في حق الله عليه فلا يعدم ما يطلع عليه من خصائص الإِعجاز ودلالته ولا يمل من ذلك لأن مواضعه متعددة وأشكاله متنوعة.

ومن الإِعجاز في تدبيره سبحانه لأمر هذا الكون أن جعل الإِعجاز التشريعي متواكباً مع الإِعجاز الكوني، فيجد المتدبر لهذا القرآن حديثًا مفصلًا عن الكون وآياته -بحيث ينكشف له من خصائص الإِعجاز وعمق دلالته وتعدد مواضعه وتنوع أشكاله- ما يدل على أن هذه الشريعة التي جاء بها القرآن

(1) سورة فصلت: آية 53.

ص: 311

هي من عند خالق هذا الكون فيطمئن لها حينئذ ويسكن إليها - وقد استولى على عقله وقلبه ذلك الإِعجاز في الخلق والتدبير، فيدرك بعمق دلالة الإِعجاز التشريعي، ذلك أن القرآن -بحديثه عن الإِعجاز الكوني بذلك الوضوح الذي يزيده إشراقًا إبداع الصنعة المحسوسة -قد يسر للعقل البشري والقلب الإِنساني تلقي وتفهم مظاهر الإِعجاز التشريعي، ولذلك كانت البداية في الخلق والأمر ببيان الإِعجاز الكوني فيأتي حينئذ الإِعجاز التشريعي ليستوي القلب البشري على الطاعة المختارة التي يتمثل فيها الرضى والطمأنينة لحكم الله الذي حفته مظاهر الإِعجاز من كل مكان، وهناك يتفاوت المؤمنون في إيمانهم وذلك لتفاوتهم في إدراك مظاهر الإِعجاز والإِبداع في الخلق والأمر.

ولا يزال هذان الإِعجازان الكوني والقرآني متواكبين إلى يوم القيامة وما زال التحدي بهما لقادة البشرية اليوم من الحكماء والعلماء والمشرعين - قائمًا فإن التحدي لم يكن لكفار قريش فقط، وما زال أهل الحق يعرضون هذا التحدي على أئمة البشرية اليوم في أوروبا وأمريكا وروسيا وغيرها من الأمم إن كانوا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا الإِعجاز الكوني أو التشريعي أو بشيء منه، وما هم بمستطيعين وما ينبغي لهم ومازال هذا قائمًا في هذا القرن وما بعده من القرون أمام جميع الجاهليات في الأرض:

{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1).

ولنبدأ بتلمس خيوط الإِعجاز التشريعي -زيادة توثق في الإِيمان وبيانًا لعلاقة الإِعجاز الكوني به، وكشفًا عن حقيقة الثبات والشمول.

لا عجب أن تتشاكل طبيعة هذين الإِعجازين فالله صاحب الخلق والأمر وإنّ من أبرز ملامح هذه المشاكلة ما يلي:

1 -

الكون خلقه الله وقدر فيه طاقاته، فبقدر ما يتعامل الإِنسان معها بقدر ما يستخرج منها، فالماء طاقة مقدرة في الأرض، إذا استخرجها الإِنسان

(1) سورة طه: آية 50.

ص: 312

فإنما استخرج طاقة كامنة يسر الله له استخراجها ولكنها ليست خلقاً جديدًا مستأنفًا في الأرض:

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (1).

وفي هذه الآية دلالة على أن الله جعل في هذه الأرض جميع ما تحتاجه البشرية من الطاقات وكل جيل يستخرج منها ما يطيق حسب قدراته ونشاطه ومبلغه من العلم، وكذلك هذه الشريعة، جاءت نصوص الوحي بها متضمنة معاني لا حصر لها، فقد جعلها الله شاملة لما يشاء أن يعلّمه للبشر في جميع أجياله، وكل جيل يعلم منها ما يحتاج إليه في جميع شؤونه، فيستخرج منهاجًا يحكم حياته كلها، فيحفظ له هذا المنهج عقيدة صحيحة -فيسلم من التخلف العقيدي وهو الارتكاس إلى الجاهليات البشرية -ويحفظ حياته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية فتتحقق حينئذ العبادة في هذه الأرض وهي المهمة التي خلق الله الإنسان من أجلها.

يأتي كل جيل ليرتبط بهذه الشريعة، ويجد علماؤه فيها كل ما يحتاجه في تلك الأمور -وليس شيئًا من ذلك قد أنزل إنزالاً جديدًا مستأنفاً، كلا، وإنما هو متضمن في هذه الشريعة، تماماً كما هو الشأن في هذا الكون فيقف كل جيل ليجد ما يحتاجه من الطاقات في هذا الكون مدخرًا له، ويجد المنهج الصحيح الذي يحكم له جزئيات حياته مدخرًا له في هذه الشريعة فيعلم أن له رباً خلق له كوناً يعيش فيه ليستخرج طاقاته، وإلهاً أنزل له شريعة ليستخرج منها ما يبصره بالمنهج الصحيح، وهذه أول ملامح تلك المشاكلة بين الإِعجاز الكوني والإِعجاز التشريعي.

2 -

إن هذا الكون لا تضاد فيه ولا تناقض بل هو صنعة محكمة مبدعة

(1) سورة فصلت: الآيتين 9، 10.

ص: 313

وهذا هو الإِعجاز الذي يقابله إعجاز تشريعي حيث أنزل الله شريعته لا تضاد فيها ولا تناقض ولا اضطراب بل هي قول محكم.

وملامح هذه المشاكلة تظهر في مثل قوله تعالى: عن بيان امتناع هذا الكون عن الفساد والاضطراب:

{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1).

نعم لو كان في السماء والأرض آلهة إلّا الله لاقتضى ذلك أن تتعدد الإرادات في تدبير هذا الكون فهذا يسير القمر إلى جهة وآخر يأمره بضدها وهذا يريد الشمس جارية وذاك يريدها ساكنة، وحينئذ يقع الفساد، فلا يمكن أن تتعدد الألهة -وكل إله يستحق الألوهية- كلا لو كان كذلك لفسدت السموات والأرض.

وشريعة الله التي هي كلامه المعجز ووحيه إلى نبيه لا يمكن أن تتعارض ولذلك قال تعالى:

{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (2).

نعم لو كان القرآن من عند غير الله لوجدنا فيه ذلك الاختلاف، فلما لم نجد قطعنا حينئذ أنه من عند الله، مثل سلامة الكون من الفساد دلنا ذلك على أنه من خلق الله، وهذا وذاك هو سند الثبات في هذا الكون وفي هذه الشريعة إلى أن تقوم الساعة فيقدر الله حينئذ ما يشاء، والثبات هو من أهم معالم الإِعجاز التشريعي والإِعجاز الكوني.

3 -

من مظاهر الإِعجاز في الكون أنك تجده متجددًا معطاء بفضل من الله، والإنسان يستثمر ذلك العطاء، وكلما اتجه الإنسان إلى الاستثمار الصحيح

(1) سورة الأنبياء: آية 22.

(2)

سورة النساء: آية 82.

ص: 314

وجد خيرًا كثيرًا بإذن الله، وفي هذا الكون طاقات كلية ثابتة يستخرج منها الإِنسان -عن طريق الاستثمار الصحيح- طاقات جزئية لا حصر لها، ولذلك يختلف البشر في إمكان الحصول على ذلك ما بين مستكثر ومستقل، وقد حمّل الله الإِنسان هذا الجهد ليكابد الحياة ويعمل ويُعمر الأرض فتتحقق العبادة بإقامة الخلافة فيها.

والإِنسان في كل ذلك ليس خالقًا ولا منشئًا حتى وإن اكتشف، لأن أصل الخلقة لله سواء في الكون أو الإِنسان، وجهد الإِنسان إنما هو اكتشاف لِما يسره الله له حسب السنن الربانية.

وكذلك هذه الشريعة -التي هي وحي من الله- جعلها سبحانه متضمنة لكليات تشريعية تحفها جزئيات تشريعية كذلك، ثم كلف الأمة المتبعة لهذه الشريعة أن تجهد جهدها في إقامة فرض الكفاية وهو التعلم، وتهيئة طائفة منها لتقوم بمهمة التعليم والاجتهاد وذلك كله فرض كفاية، وعلى الأمة العمل لإقامته، وهؤلاء المجتهدون يستثمرون تلك الكليات التشريعية، وقد علموا منها ومن تلك الجزئيات كيف يتم الاستثمار وتتحقق مقاصد الشريعة، وحينئذ يتحقق لكل جيل عن طريق -المجتهدين- الحكم في مسائل لا يمكن حصرها البتة، وهذا هو غاية الاستثمار للكليات التشريعية (1)، وهذا الاستثمار اكتشاف لحكم الله، وليس إنشاء ولا تشريعًا تمامًا كما تبيّن لنا في الإِعجاز الكوني، ذلك أنَّ اللهَ وحده هو الخالق والمشرع والآمر سبحانه لا إله إلّا هو.

4 -

من مظاهر الإِعجاز الكوني أنك تجد شجرة واحدة -وهي آية من آيات الله - تتفرع عن أصلها فروع كثيرة جدًا، وتجد أيضًا أنواعًا كثيرة من

(1) نتحدث هنا عن الوضع السوي الذي خلق الله الإنسان له، وإلّا فإن هناك أجيالًا تنحرف عن مقصد الإِعجازين الكوني والتشريعي فلا هي استثمرت طاقات الكون، ولا هي اتبعت الشريعة، وهذه الحالة السيئة مرت بأجيال كثيرة جدًا من أجيال البشرية.

ص: 315

المخلوقات -كالهواء والماء والبذر والتربة .. - تجتمع لتخرج -بإذن الله- الزرع بجميع أجناسه، الذي يصلح لسد كثير من حاجات الإِنسان.

وإنك لتجد هذه الملامح في الإِعجاز التشريعي:

فمثلًا إذا تأملت في العموم اللفظي وجدته كأصل الشجرة الواحدة تقوم عليها تلك الفروع المتكاثرة، فاللفظ العام يشتمل في دلالته على فروع كثيرة، أصله لفظ واحد وفروعه لا تنحصر.

وإذا نظرت في مثال آخر وهو العموم المعنوي وجدت جزئيات من الشريعة قد اجتمعت من كل مكان على معنى واحد، فأصبح هذا المعنى جنسًا ينتج لنا أحكامًا خاصة بمسائل كثيرة بل يصبح مثل العموم اللفظي، فهناك لفظ عام تبنى عليه فروع شتى، وهنا جزئيات كثيرة يخرج منها أصل واحد يُحكم به على جزئيات لا تنحصر، فهل رأيت مثل هذا الإِعجاز، شجرة واحدة في الأصل تنمو فروعها وتتكاثر، وجزئيات متناثرة -من تراب وماء وهواء وبذور- تجتمع لتخرج بإذن الله شجرة ذات فروع كثيرة، عمومات لفظية -هي عمدة الشريعة- يتفرع عن كل واحد منها فروع لا تنحصر، وجزئيات كثيرة يتفرع عنها فروع كثيرة جدًا تشابهها في الحكم -عن طريق القياس الشرعي- وهذه الجزئيات تجتمع مرة أخرى لتنتج العموم المعنوي فيحكم به على فروع لا تنحصر.

هكذا في دورة تشريعية معجزة لا أجد لها شبيهًا إلا تلك الدورة الفلكية أو دورة الزروع والثمار المعجزة في الخلقة، التي تظنها قد تقف فينقطع عطاؤها، فكلما طاف بك طائف من شك أبصرتها تنطلق في دورة جديدة تبدد تلك الشكوك، هذه دورة الإِعجاز الكوني الذي يقول الله عنها متحديًا البشر في جميع العصور:

{هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1).

(1) سورة لقمان: آية 11.

ص: 316

وهذه هي دورة الإِعجاز التشريعي الذي يقول الله عنها متحديًا كذلك:

{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1).

أقول -والله أعلم بمراده- إن هذه الشريعة وهي كلام الله لا تنفد أبدًا -مهما قدر الله أن يخلق من الأجيال على هذه الأرض وسيجد فيها كل جيل ما يحتاجه يستنبطه منها علماؤه- فلا تنفد أبدًا، بل ينفد البحر دون أن ينفد منها شيء (2).

وأقتصر على ما في الوسع من تبيين الملامح التي تظهر بين الإعجازين الكوني والتشريعي لعل فيه الكفاية في بيان حقيقة الإِعجاز التشريعي، وأنتقل بعده إلى دراسة موضوع العموميين اللفظي والمعنوي وهما من سمات ذلك الإِعجاز.

* * *

(1) سورة الكهف: آية 109.

(2)

قارن بين هذا وبين ما أشرت إليه عند بيان صلة المعنى الاصطلاحي للشريعة بالمعنى اللغوي فقد قلت هناك أن العرب لا تسمي مورد الماء "شريعة" حتى يكون الماء عدًّا لا انقطاع فيه.

ص: 317