الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
مقارنة بين الإِعجاز الكوني والإِعجاز التشريعي وبيان سماته
تبين مما سبق أن "الشريعة الإِسلامية" موصوفة بالكمال والثبات والشمول، وهذه ألفاظ أتراب يأخذ بعضها بحجز بعض، فإن قلت كمالها يقتضي ثباتها وشمولها فقد صدقت، لأنها لا تكون كاملة إلّا وهي ثابتة شاملة، لأن عدم الثبات نقص وعدم الشمول كذلك.
وإن قلت ثباتها يقتضي كمالها وشمولها فقد صدقت، لأن ثباتها اقتضى -في مراد الله- أنها لازمة للبشر كافة على جميع العصور، ولا تكون كذلك إلا وهي كاملة شاملة لأن ذلك مقتضى الرحمة والحكمة والعدل الرباني تفضلًا منه سبحانه ونعمة.
وإن قلت شمولها يقتضي ثباتها وكمالها فقد صدقت، لأنها لا تكون شاملة إلّا أن تكون ثابتة ما بقي تكليف وعمل في الأرض، وإلّا لم يتحقق الشمول إذا انقطع الثبات، وكذلك لا تكون شاملة إلّا إذا كملت فلا يلحقها نقص أبدًا.
فالكمال والثبات والشمول مقطوع به، وهو قمة الإِعجاز التشريعي (1)
(1) الطرق لهداية القلب البشري للاستسلام لشريعة الله كثيرة جدًا، فقد يهتدي إنسان بمجرد التفكير في آيات كونية أو آيات تشريعية ومع ذلك فإن الأصل في هداية القلب البشري إلى الله هو ما كان بالفطرة ألصق وبمعهود الأميين أقرب، وبالاطلاع على الكون أيسر، لأنه يمكن أن يقرأه كل أحد في كل حال حتى الذين لا يطلعون على أسرار التشريع وهم أكثر البشر، ولذلك اعتمد الرسل عليهم السلام على هذا الأصل القرآني في تصحيح العقيدة وهو قاعدة الدعوة ما بقيت البشرية في حاجة إلى التصحيح.
وهو متواكب مع إعجاز الخلق لما نرى من الآيات الكونية، بل هو كما تبين فيما سبق مطبوع بطابع الإِعجاز الخلقي للكون، فالإعجاز التشريعي -الذي يعجز عن الإتيان بمثله أو بشيء منه البشر أجمعون- هو صادر عن إرادة الله في إنزال القرآن - الذي هو كلامه سبحانه - والإعجاز في خلق الكون وآياته ما علمنا منها وما لم نعلم - الذي يعجز عن خلق شيء منه البشر أجمعون - هو صادر أيضًا عن إرادته سبحانه حيث يقول للشيء كن فيكون، ولذلك كان سمة الإِعجاز في الموضعين واحدة حيث طبع بطابع الكمال والثبات والشمول.
ولذلك فإن هذين الإعجازين لا ينقطعان، أما الإِعجاز الكوني فكما قال سبحانه:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (1).
وأول صفاته ضخامته وتعدد مواضعه وكثرة خصائصه وتنوع أشكاله وعمق دلالته - يقابل ذلك كله ضعف طاقات الإِنسان في جميع عصوره - حتى في عصرنا الحاضر - وهذا جعل الإِنسان لا يستطيع أن يتملى هذا الإِعجاز ويكشف عن جميع مجالته ومظاهره وخصائصه دفعة واحدة في جيل واحد فضلًا أن يدرك عمقه، وفي ذلك رحمة بالإنسان لكي يدرك في كل عصر من دلالة هذا الإِعجاز ما يحمله على تصحيح عقيدته في الله واتباع منهجه، وهو في جميع العصور واجد لا محالة من خصائص هذا الإِعجاز ودلالته بحيث يفكر في حق الله عليه فلا يعدم ما يطلع عليه من خصائص الإِعجاز ودلالته ولا يمل من ذلك لأن مواضعه متعددة وأشكاله متنوعة.
ومن الإِعجاز في تدبيره سبحانه لأمر هذا الكون أن جعل الإِعجاز التشريعي متواكباً مع الإِعجاز الكوني، فيجد المتدبر لهذا القرآن حديثًا مفصلًا عن الكون وآياته -بحيث ينكشف له من خصائص الإِعجاز وعمق دلالته وتعدد مواضعه وتنوع أشكاله- ما يدل على أن هذه الشريعة التي جاء بها القرآن
(1) سورة فصلت: آية 53.
هي من عند خالق هذا الكون فيطمئن لها حينئذ ويسكن إليها - وقد استولى على عقله وقلبه ذلك الإِعجاز في الخلق والتدبير، فيدرك بعمق دلالة الإِعجاز التشريعي، ذلك أن القرآن -بحديثه عن الإِعجاز الكوني بذلك الوضوح الذي يزيده إشراقًا إبداع الصنعة المحسوسة -قد يسر للعقل البشري والقلب الإِنساني تلقي وتفهم مظاهر الإِعجاز التشريعي، ولذلك كانت البداية في الخلق والأمر ببيان الإِعجاز الكوني فيأتي حينئذ الإِعجاز التشريعي ليستوي القلب البشري على الطاعة المختارة التي يتمثل فيها الرضى والطمأنينة لحكم الله الذي حفته مظاهر الإِعجاز من كل مكان، وهناك يتفاوت المؤمنون في إيمانهم وذلك لتفاوتهم في إدراك مظاهر الإِعجاز والإِبداع في الخلق والأمر.
ولا يزال هذان الإِعجازان الكوني والقرآني متواكبين إلى يوم القيامة وما زال التحدي بهما لقادة البشرية اليوم من الحكماء والعلماء والمشرعين - قائمًا فإن التحدي لم يكن لكفار قريش فقط، وما زال أهل الحق يعرضون هذا التحدي على أئمة البشرية اليوم في أوروبا وأمريكا وروسيا وغيرها من الأمم إن كانوا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا الإِعجاز الكوني أو التشريعي أو بشيء منه، وما هم بمستطيعين وما ينبغي لهم ومازال هذا قائمًا في هذا القرن وما بعده من القرون أمام جميع الجاهليات في الأرض:
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1).
ولنبدأ بتلمس خيوط الإِعجاز التشريعي -زيادة توثق في الإِيمان وبيانًا لعلاقة الإِعجاز الكوني به، وكشفًا عن حقيقة الثبات والشمول.
لا عجب أن تتشاكل طبيعة هذين الإِعجازين فالله صاحب الخلق والأمر وإنّ من أبرز ملامح هذه المشاكلة ما يلي:
1 -
الكون خلقه الله وقدر فيه طاقاته، فبقدر ما يتعامل الإِنسان معها بقدر ما يستخرج منها، فالماء طاقة مقدرة في الأرض، إذا استخرجها الإِنسان
(1) سورة طه: آية 50.
فإنما استخرج طاقة كامنة يسر الله له استخراجها ولكنها ليست خلقاً جديدًا مستأنفًا في الأرض:
وفي هذه الآية دلالة على أن الله جعل في هذه الأرض جميع ما تحتاجه البشرية من الطاقات وكل جيل يستخرج منها ما يطيق حسب قدراته ونشاطه ومبلغه من العلم، وكذلك هذه الشريعة، جاءت نصوص الوحي بها متضمنة معاني لا حصر لها، فقد جعلها الله شاملة لما يشاء أن يعلّمه للبشر في جميع أجياله، وكل جيل يعلم منها ما يحتاج إليه في جميع شؤونه، فيستخرج منهاجًا يحكم حياته كلها، فيحفظ له هذا المنهج عقيدة صحيحة -فيسلم من التخلف العقيدي وهو الارتكاس إلى الجاهليات البشرية -ويحفظ حياته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية فتتحقق حينئذ العبادة في هذه الأرض وهي المهمة التي خلق الله الإنسان من أجلها.
يأتي كل جيل ليرتبط بهذه الشريعة، ويجد علماؤه فيها كل ما يحتاجه في تلك الأمور -وليس شيئًا من ذلك قد أنزل إنزالاً جديدًا مستأنفاً، كلا، وإنما هو متضمن في هذه الشريعة، تماماً كما هو الشأن في هذا الكون فيقف كل جيل ليجد ما يحتاجه من الطاقات في هذا الكون مدخرًا له، ويجد المنهج الصحيح الذي يحكم له جزئيات حياته مدخرًا له في هذه الشريعة فيعلم أن له رباً خلق له كوناً يعيش فيه ليستخرج طاقاته، وإلهاً أنزل له شريعة ليستخرج منها ما يبصره بالمنهج الصحيح، وهذه أول ملامح تلك المشاكلة بين الإِعجاز الكوني والإِعجاز التشريعي.
2 -
إن هذا الكون لا تضاد فيه ولا تناقض بل هو صنعة محكمة مبدعة
(1) سورة فصلت: الآيتين 9، 10.
وهذا هو الإِعجاز الذي يقابله إعجاز تشريعي حيث أنزل الله شريعته لا تضاد فيها ولا تناقض ولا اضطراب بل هي قول محكم.
وملامح هذه المشاكلة تظهر في مثل قوله تعالى: عن بيان امتناع هذا الكون عن الفساد والاضطراب:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1).
نعم لو كان في السماء والأرض آلهة إلّا الله لاقتضى ذلك أن تتعدد الإرادات في تدبير هذا الكون فهذا يسير القمر إلى جهة وآخر يأمره بضدها وهذا يريد الشمس جارية وذاك يريدها ساكنة، وحينئذ يقع الفساد، فلا يمكن أن تتعدد الألهة -وكل إله يستحق الألوهية- كلا لو كان كذلك لفسدت السموات والأرض.
وشريعة الله التي هي كلامه المعجز ووحيه إلى نبيه لا يمكن أن تتعارض ولذلك قال تعالى:
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (2).
نعم لو كان القرآن من عند غير الله لوجدنا فيه ذلك الاختلاف، فلما لم نجد قطعنا حينئذ أنه من عند الله، مثل سلامة الكون من الفساد دلنا ذلك على أنه من خلق الله، وهذا وذاك هو سند الثبات في هذا الكون وفي هذه الشريعة إلى أن تقوم الساعة فيقدر الله حينئذ ما يشاء، والثبات هو من أهم معالم الإِعجاز التشريعي والإِعجاز الكوني.
3 -
من مظاهر الإِعجاز في الكون أنك تجده متجددًا معطاء بفضل من الله، والإنسان يستثمر ذلك العطاء، وكلما اتجه الإنسان إلى الاستثمار الصحيح
(1) سورة الأنبياء: آية 22.
(2)
سورة النساء: آية 82.
وجد خيرًا كثيرًا بإذن الله، وفي هذا الكون طاقات كلية ثابتة يستخرج منها الإِنسان -عن طريق الاستثمار الصحيح- طاقات جزئية لا حصر لها، ولذلك يختلف البشر في إمكان الحصول على ذلك ما بين مستكثر ومستقل، وقد حمّل الله الإِنسان هذا الجهد ليكابد الحياة ويعمل ويُعمر الأرض فتتحقق العبادة بإقامة الخلافة فيها.
والإِنسان في كل ذلك ليس خالقًا ولا منشئًا حتى وإن اكتشف، لأن أصل الخلقة لله سواء في الكون أو الإِنسان، وجهد الإِنسان إنما هو اكتشاف لِما يسره الله له حسب السنن الربانية.
وكذلك هذه الشريعة -التي هي وحي من الله- جعلها سبحانه متضمنة لكليات تشريعية تحفها جزئيات تشريعية كذلك، ثم كلف الأمة المتبعة لهذه الشريعة أن تجهد جهدها في إقامة فرض الكفاية وهو التعلم، وتهيئة طائفة منها لتقوم بمهمة التعليم والاجتهاد وذلك كله فرض كفاية، وعلى الأمة العمل لإقامته، وهؤلاء المجتهدون يستثمرون تلك الكليات التشريعية، وقد علموا منها ومن تلك الجزئيات كيف يتم الاستثمار وتتحقق مقاصد الشريعة، وحينئذ يتحقق لكل جيل عن طريق -المجتهدين- الحكم في مسائل لا يمكن حصرها البتة، وهذا هو غاية الاستثمار للكليات التشريعية (1)، وهذا الاستثمار اكتشاف لحكم الله، وليس إنشاء ولا تشريعًا تمامًا كما تبيّن لنا في الإِعجاز الكوني، ذلك أنَّ اللهَ وحده هو الخالق والمشرع والآمر سبحانه لا إله إلّا هو.
4 -
من مظاهر الإِعجاز الكوني أنك تجد شجرة واحدة -وهي آية من آيات الله - تتفرع عن أصلها فروع كثيرة جدًا، وتجد أيضًا أنواعًا كثيرة من
(1) نتحدث هنا عن الوضع السوي الذي خلق الله الإنسان له، وإلّا فإن هناك أجيالًا تنحرف عن مقصد الإِعجازين الكوني والتشريعي فلا هي استثمرت طاقات الكون، ولا هي اتبعت الشريعة، وهذه الحالة السيئة مرت بأجيال كثيرة جدًا من أجيال البشرية.
المخلوقات -كالهواء والماء والبذر والتربة .. - تجتمع لتخرج -بإذن الله- الزرع بجميع أجناسه، الذي يصلح لسد كثير من حاجات الإِنسان.
وإنك لتجد هذه الملامح في الإِعجاز التشريعي:
فمثلًا إذا تأملت في العموم اللفظي وجدته كأصل الشجرة الواحدة تقوم عليها تلك الفروع المتكاثرة، فاللفظ العام يشتمل في دلالته على فروع كثيرة، أصله لفظ واحد وفروعه لا تنحصر.
وإذا نظرت في مثال آخر وهو العموم المعنوي وجدت جزئيات من الشريعة قد اجتمعت من كل مكان على معنى واحد، فأصبح هذا المعنى جنسًا ينتج لنا أحكامًا خاصة بمسائل كثيرة بل يصبح مثل العموم اللفظي، فهناك لفظ عام تبنى عليه فروع شتى، وهنا جزئيات كثيرة يخرج منها أصل واحد يُحكم به على جزئيات لا تنحصر، فهل رأيت مثل هذا الإِعجاز، شجرة واحدة في الأصل تنمو فروعها وتتكاثر، وجزئيات متناثرة -من تراب وماء وهواء وبذور- تجتمع لتخرج بإذن الله شجرة ذات فروع كثيرة، عمومات لفظية -هي عمدة الشريعة- يتفرع عن كل واحد منها فروع لا تنحصر، وجزئيات كثيرة يتفرع عنها فروع كثيرة جدًا تشابهها في الحكم -عن طريق القياس الشرعي- وهذه الجزئيات تجتمع مرة أخرى لتنتج العموم المعنوي فيحكم به على فروع لا تنحصر.
هكذا في دورة تشريعية معجزة لا أجد لها شبيهًا إلا تلك الدورة الفلكية أو دورة الزروع والثمار المعجزة في الخلقة، التي تظنها قد تقف فينقطع عطاؤها، فكلما طاف بك طائف من شك أبصرتها تنطلق في دورة جديدة تبدد تلك الشكوك، هذه دورة الإِعجاز الكوني الذي يقول الله عنها متحديًا البشر في جميع العصور:
(1) سورة لقمان: آية 11.
وهذه هي دورة الإِعجاز التشريعي الذي يقول الله عنها متحديًا كذلك:
أقول -والله أعلم بمراده- إن هذه الشريعة وهي كلام الله لا تنفد أبدًا -مهما قدر الله أن يخلق من الأجيال على هذه الأرض وسيجد فيها كل جيل ما يحتاجه يستنبطه منها علماؤه- فلا تنفد أبدًا، بل ينفد البحر دون أن ينفد منها شيء (2).
وأقتصر على ما في الوسع من تبيين الملامح التي تظهر بين الإعجازين الكوني والتشريعي لعل فيه الكفاية في بيان حقيقة الإِعجاز التشريعي، وأنتقل بعده إلى دراسة موضوع العموميين اللفظي والمعنوي وهما من سمات ذلك الإِعجاز.
* * *
(1) سورة الكهف: آية 109.
(2)
قارن بين هذا وبين ما أشرت إليه عند بيان صلة المعنى الاصطلاحي للشريعة بالمعنى اللغوي فقد قلت هناك أن العرب لا تسمي مورد الماء "شريعة" حتى يكون الماء عدًّا لا انقطاع فيه.