الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحقيق النظر والقطع بالحكم، وذلك هو الموافق لكلام العرب -الذي نزل القرآن به- وموافق "لما كان عليه السلف الصالح من القطع بعموماته التي فهموها تحقيقًا بحسب قصد العرب من اللسان وبحسب قصد الشارع من موارد الأحكام"(1).
2 -
أن هذه العمومات حجة أيضًا بعد التخصيص (2).
3 -
السلامة من جميع الإِشكالات والشناعات التي وقع فيها بعض الأصوليين (3).
وبعد أن تعرفنا على مذهب الإِمام الشاطبي أنتقل إلى ذكر الاعتراضات التي يمكن أن ترد عليه وهي قسمان، منها ما ذكره هو وأجاب عنه، ومنها ما ذكره غيره وأجيب عنه هنا -إن شاء الله تعالى- وذلك في الفرع الثاني والثالث.
الفرع الثاني
الاعتراضات التي ذكرها وأجاب عنها
* الاعتراض الأول: إذا ثبت أن حالة الوضع تقتضي إطلاق اللفظ على جميع ما هو موضع له، فإن حالة الاستعمال والتركيب وهي الحالة الثانية لا تخرج عن أحد اعتبارين:
(أ) ما أن تبقى دلالة اللفظ على ما هي عليه، فهو حينئذ الوضع الإفرادي وهذا مقتضاه.
(ب) إذا لم تبق دلالته على ما هي عليه فهو الوضع الاستعمالي الذي خصص الوضع الإِفرادي، وهذا التخصيص لا بد له من مخصص عقلي أونقلي، وهو مذهب الأصوليين وعلى ذلك فلنكتفي بما قرره الأصوليون ولا داعي للقول بالعموم الاستعمالي.
(1) المصدر نفسه 3/ 183 - 184.
(2)
المصدر نفسه 3/ 183 - 184.
(3)
انظر اختلاف القائلين بالعموم في صحة الاحتجاج به بعد التخصيص - الأحكام للآمدي 2/ 232.
وأجاب الشاطبي عن هذا بجواب حاصله: أن التخصيص غير وارد وذلك أن اللفظ إذا بقيت دلالته فلا تخصيص وهذا ظاهر.
وإذا لم تبق دلالته على أصل الوضع الإِفرادي فذلك سببه كما ورد في الاعتراض وقوع الوضع الاستعمالي، وهذا الوضع الاستعمالي ذو أصالة مستقلة عن الوضع الإِفرادي، بل هو شبيه بالحقيقة العرفية القابلة للحقيقة اللغوية، فمقابلة الوضع الإِفرادي للاستعمالي كمقابلة الحقيقة اللغوية للعرفية، فهما وضعان حقيقان لا مجازيان وعليه فإن العموم الاستعمالي وضع حقيقي لا مجازي.
والدليل على ذلك هو ما ثبت في الأصول العربية من أن اللفظ العربي له أصالتان قياسية واستعمالية، والاستعمالية أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع، وعلى هذا فإن "الاستعمالي" وضع ثان وليس تخصيصًا للوضع الأول.
• الاعتراض الثاني: أن "الاستعمالي" لا يؤثر في دلالة اللفظ حال الإِفراد، ولا يصير وضعًا ثانيًا، بل هو باق على أصله ثم يأتي التخصيص بمتصل أو بمنفصل بعد ذلك.
والدليل على صحة هذا الاعتراض: أن العرب تفهم التعميم من ورود اللفظ العام في سياق الاستعمال حتى يأتي مخصص له، مع أن هناك من الأمثلة ما دل السياق فيها على خلاف ما فهموا، والأمثلة تبين المقصود ومنها:
1 -
فهمهم لقوله تعالى:
فقال الصحابة: أينا لم يلبس إيمانه بظلم، فقال عليه الصلاة والسلام:"إنه ليس بذاك، ألا تسمع إلى قول لقمان: "إن الشرك لظلم عظيم".
(1) سورة الأنعام: آية 82.
2 -
ومن ذلك أنه لما نزل قوله تعالى:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (1)
قال بعض الكفار فقد عبدت الملائكة وعبد المسيح فنزل:
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (2)
فقد فهم العرب من مقتضى اللفظ العموم وبادرت أفهامهم إليه، واعتبروا اللفظ بما وضع له في الأصل، وفهمهم هذا معتبر، كيف والقرآن قد نزل بلسانهم (3).
وأجاب الشاطبي بجوابين:
أحدهما مختصر والآخر مفصل، وأكتفي هنا بالأول وحاصله:
أن العموم الاستعمالي لا يفهم إلا باعتبار المقصد الشرعي فمن فهم مقصد الشارع أدرك العموم الاستعمالي، وكذلك يحتاج إلى إدراك المقصد الاستعمالي العربي، والعرب في إدراك مقصد العربية شرع سواء (4)، وأما إدراك المقصد الشرعي فالتفاوت فيه حاصل، فليس قديم العهد بالإِسلام كجديد العهد به، ولا الدارس والمشتغل به كغيره ولا المبتدئ فيه كالمنتهي والتفاوت حاصل بين المؤمنين:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (5).
(1) سورة الأنبياء: آية 98.
(2)
سورة الأنبياء: آية 101.
(3)
الموافقات 3/ 173 - 174.
(4)
يقصد الشاطبي العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، أما غيرهم ممن لم تكن العربية سليقة لهم فهم متفاوتون في معرفة مقاصدها، ولذلك فإن الشاطبي يشترط في المجتهد أن يدرك مقاصد العربية ومقاصد الشريعة وهذا يقتضي أن يدرك العربي معنى اللفظ وإلا احتاج إلى من يدله على معناه كما ورد في الأمثلة السابقة.
(5)
انظر ما سبق 218.
فإذا توقف بعض الصحابة كما في الأمثلة السابقة وغيرها، فلأن إدراك المقصد الشرعي يتفاوت الصحابة فيه فمن خفي عليه ذلك المقصد ثم علمه زال الإشكال، فعدم إدراك بعض الصحابة فيه للعموم الاستعمالي سببه عدم إدراك المقصد الشرعي، كما أن من لم يعرف القصد الاستعمالي العربي لم يدرك العموم الاستعمالي وحينئذ يحمل اللفظ على أصل الوضع.
وليس في هذا دلالة على أن اللفظ ليس له إلا وضع واحد، بل له وضع استعمالي فمن لم يعرفه اعتمد الوضع الأصلي.
وقد بين الشاطبي عدم إدراك المقصد الشرعي عند بعض الصحابة في الآية الأولى، وعدم إدراك المعترض من الكفار موقع الآية بل جهل مقصد السياق فإن الخطاب فيها لقريش وكانوا يعبدون ما لا يعقل، وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ
…
} الآية إشارة إلى ما لا يعقل، فلا يدخل فيه المسيح ولا الملائكة، فنزل بيانًا لجهل المعترض قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ .... } فالمسيح والملائكة لم يدخلوا في المعنى الذي من أجله نزلت هذه الآية، فإنها نزلت خطابًا لقريش وما كانوا يعبدون المسيح ولا الملائكة، فالعموم الوارد في الآية عموم استعمالي لم يدخل فيه الملائكة ولا المسيح (1).
"وبالجملة فجوابهم بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت في الشريعة وأن ثم قصدًا آخر سوى القصد العربي لا بد من تحصيله، وبه يحصل فهمها وعلى طريقه يجري سائر العمومات وإذ ذاك لا يكون ثم تخصيص بمنفصل البتة واطردت العمومات قواعد صادقة العموم"(2).
• الاعتراض الثالث: وهو وارد على جواب الاعتراض الثاني وأذكره هنا مستقلًا لِيُمكِن إيضاحه:
(1) الموافقات 3/ 177، درء تعارض العقل والنقل 7/ 58.
(2)
الموافقات 3/ 177 - 178.
وحاصله: أن ما في الجواب من أن بعض الصحابة لم يدركوا المقصد الشرعي، يعارضه أن منهم من أدرك المقاصد الشرعية كما أدركها كثير من العلماء من بعدهم وحملوا اللفظ أيضًا على عمومه في أصل الوضع مع أن السياق على خلافه، ومن أمثلة ذلك:
1 -
قصة عمر مع بعض أصحابه حيث رآهم يتوسعون في الِإنفاق فقال لهم: أين تذهب بكم هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية وسياق الآية يقتضي أنها إنما نزلت في الكفار الذين رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة ولذلك قال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} ثم قال:
{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ
…
} (1).
فالآية غير لائقة بحالة المؤمنين، ومع ذلك فقد أخذها عمر مستندًا في ترك الإسراف مطلقًا.
2 -
ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2).
نزلت فيمن ارتد عن الإِسلام بدليل قوله تعالى بعد ذلك:
{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3).
ثم إن عامة العلماء استدلوا بها على كون الإِجماع حجة وأن مخالفه عاص وعلى أن الابتداع في الدين مذموم" (4).
(1) سورة الأحقاف: آية 20.
(2)
سورة النساء: آية 115.
(3)
سورة النساء: آية 116.
(4)
الموافقات 3/ 181.
وغير هذين المثالين كثير وهي مبنية على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهي مسألة مختلف فيها، وحاصل البحث أن أحد القولين هو الأصح ولا فائدة زائدة (1).
وأجاب الشاطبي عن هذا بأحد جوابين:
الأول: إن هذا ليس من مسألة البحث، وهو فقه حسن يعرفه الراسخون في العلم، فإن الله ذكر المؤمنين بأحسن أعمالهم وذكر الكافرين بأسوء أعمالهم ليكون العبد بين الخوف والرجاء فيرى أحسن أفعال المؤمنين فيقتدي بها، ويرى أفعال الكافرين فيحذر منها، وليس هذا من قبيل الصيغ العمومية، بل من قبيل حمل ذلك محمل الداخل تحت العموم اللفظي.
والثاني: إن هذا بيان "فقه الجزئيات من الكليات العامة لا أن المقصود التخصيص بل بيان جهة العموم"(2).
وبهذا الجواب يتقرر عند الإِمام الشاطبي أن العموم الاستعمالي وضع ثان غير الوضع الأصلي، ويعرفه من عرف مقاصد العربية ومقاصد الشريعة وعلى ذلك فالعمومات صادقة العموم وهي حقيقة لا مجاز وليس هناك تخصيص بمنفصل، وهذا هو موقف الصحابة والسلف من عمومات الكتاب والسنة، يبينونها وهم ينظرون إلى مقاصد الشارع فيها، ولا يقتصرون على أصل الوضع، ولا يرون ذلك البيان إخراجًا من أصل اللفظ.
ويزيد الشاطبي هذه المسألة إيضاحًا: فيقول: إن التخصيص بالمتصل
(1) المصدر السابق 3/ 181. وأشار الشاطبي إلى أن في المسألة قولين -وهو ما ذكره الأصوليون- وانظر بحث الدكتور محمد العروسي "مسألة تخصيص العام بالسبب" طبعة سنة 1403 هـ -المطبعة العربية الحديثة- القاهرة. تجد فيه أن العبرة بعموم اللفظ ولا خلاف على هذه القاعدة، وما ينقل من الخلاف فإنما هو في تحقيق المناط وفي هذا البحث وضع -جزاه الله خيراً- الأمور في نصابها وأزال الإشكال الوارد على هذه القاعدة.
(2)
الموافقات 3/ 181.
سواء بالاستثناء كقولك: "عشرة إلا ثلاثة" فإنه مرادف لقولك سبعة، أو بالصفة وأشباه ذلك:"ليس في الحقيقة بإخراج الشيء بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ".
ويستشهد بقول سيبويه: "زيد الأحمر عند من لا يعرفه كزيد وحده عند من يعرفه"(1)، ولا تخصيص لا لفظًا ولا قصدًا، وأما أنه ليس بمجاز: فذلك لحصول الفرق عند العرب بين قول القائل: "ما رأيت أسدًا يفترس الأبطال" وقول القائل: "ما رأيت رجلًا شجاعًا" فالأول مجاز والثاني (2) حقيقة.
والشاطبي في هذا الاستدلال يعتمد على أمرين:
الأول: الرجوع إلى أهل العربية في هذا الاعتبار. الثاني: اعتبار المقصد الشرعي.
أما ما يصوره العقل في مناحي الكلام فلا يعتمده طريقًا لإِثبات مقصوده هنا (3).
أما التخصيص بالمنفصل عنده فليس هو التخصيص الذي يذهب إليه الأصوليون، بل هو بيان للمقصود من عموم الصيغ في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي، وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص.
وفرق بين قوله أن التخصيص بيان لوضع اللفظ، وبين قولهم أنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه.
والفرق بينهما كما يصوره الشاطبي كالفرق بين البيان عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه، وبين البيان الذي سبق عقب الحقيقة لبيان أن المراد المجاز كقولك:"رأيت أسدًا يفترس الأبطال".
(1) المصدر السابق 3/ 181.
(2)
المصدر السابق 3/ 182.
(3)
المصدر السابق 3/ 182