الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قبول السنة هذا مع ملاحظة أن الخوارج لم يذهبوا إلى القول بتقديم الحجة العقلية على القرآن مع طعنهم في السنة.
الثاني: أن موقف الخوارج مهّد لموقف المعتزلة، فعظيمة المعتزلة ليست أول عظيمة ترتكب في حق الشريعة، فقد سبقهم الخوارج في رد السنة فجرؤا المخالفين من أهل الأهواء على بدعهم وسَهُلَ على المعتزلة بعد ذلك الوصول إلى مقالة هي أخطر من مسلك الخوارج لأن هؤلاء بدعتهم لايسهل انتشارها في الأمة بعكس بدعة المعتزلة والواقع دليل يثبت هذا الذي نقول (1).
المطلب الثاني
موقف الفلاسفة وبيان وجه ارتباط تلك البدعة به، وذكر شبهة المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة
الفلاسفة قوم ينكرون الرسالات ويتخذون العقل طريقًا للتعرف على "الصانع" أي خالق هذا الكون، ولهم طرق كثيرة يلتزمون بها في إثبات ذلك (2)، وقد تُرجم فكر الفلاسفة اليونان في بداية القرن الثالث، وقد شهد أبو الهذيل وتلميذه النظام عصر الترجمة وأخذوا عن كتب الفلاسفة كما سبق بيانه.
وترتب على ذلك أن أثر هذا المسلك في عقل المعتزلة وتمكنت منهم بدعة الفلاسفة فتارة يجعلون أول النظر الواجب إثبات الصانع عن طريق العقل،
(1) عقيدة الخوارج مع استمرار انتشارها منذ نشات لا تعدل شيئًا بالنسبة لانتشار عقيدة المعتزلة، أضف إلى ذلك أن هؤلاء لهم جناح خارجي -وهو الفلسفة اليونانية- يساعدهم على التحليق، ولهم مناصرون لبعض اتجاهاتهم، مثل متكلمة الأشاعرة، وهم بين هذا وذاك يزعمون أنهم متسلحون بالحجة العقلية التي طالما خدعت وبهرت الكثيرين - بخلاف الخوارج فإن حجتهم في الغالب هي السيف، والسيف لا يطول أثره.
(2)
انظر في حقيقة أقوالهم والرد عليها "تهافت التهافت" لإبن رشد الحفيد تحقيق سليمان دنيا، ودرء تعارض العقل والنقل 8/ 137 الخ.
وتارة ينفون عنه بعض الصفات ويثبتون له صفات أخرى، وأما أخبار الرسول فهم وإن لم ينكروها كما صنعت الفلاسفة إلّا أنهم أعرضوا عنها وشاركوا الفلاسفة في عدم الانتفاع بها (1) اللهم إلا في الرد على خصومهم (2). وهذا مما يبين أثر الفلسفة في فكر المعتزلة، والمهم هنا هو بيان الأسباب التي ساعدت على انتشار تلك البدعة، وهذا كاف في الربط العام بين فكر الفلاسفة وبين فكر المعتزلة.
ونبدأ من هنا في معالجة أهم الشبه التي خدع بها الفلاسفةُ المعتزلة ثم خدع بها المعتزلةُ متكلمة الأشاعرة ثم انتشرت بعد ذلك في كتب الأصول بدع كثيرة مبنية على هذه الشبه منها:
1 -
تضعيف الأدلة النقلية ووصفها بالظنية بحيث لا يستدل بها إلا على سبيل التأكيد كما يقول القاضي عبد الجبار (3) أو لا يستدل بها على العقليات كما يقول الأيجي في المواقف (4).
2 -
أن أخبار الآحاد لا تفيد إلّا الظن (5).
3 -
تقديم حكم العقل على النص (6).
4 -
إنكار القياس والإِجماع كما فعل النظام المعتزلي (7).
(1) درء تعارض العقل والنقل 5/ 285.
(2)
انظر كلام القاضي عبد الجبار ص 189 - 190.
(3)
انظر ما سبق ص 189 - 190.
(4)
سيأتي كلامه في الصفحة التالية ..
(5)
وقد انتشرت هذه البدعة انتشارًا عجيبًا في كتب الأصول. انظر من كتب المعتزلة كتاب "المعتمد في أصول الفقه" 2/ 566 لمحمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي - تحقيق محمد حميد الله، دمشق 1385.
وانظر من كتب الأشاعرة: المحصول - 507 - 562، والإِحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 32 وما بعدها.
(6)
سيأتي لذلك تطبيقات عند أصحابها قديمًا وحديثًا في فصل المصلحة وقضية الثبات والشمول.
(7)
سيأتي بيان ذلك عند دراسة القياس وأثره على الشمول والثبات.
5 -
القول بأن الفقه من باب الظنيات كما فعل الرازي، واتباع المجتهد لما اتفق له في مسائل الاجتهاد بدون مرجح كما قال ابن الباقلاني (1).
6 -
وضع المقدمات العقلية الصرفة لأصول الفقه، وخلط علم الكلام به (2).
وبمعالجة تلك الشبه يظهر لنا أثرها الضخم في إنشاء هذه البدع في أصول الفقه، ولا نحتاج إلى تصوير مذهب المعتزلة فقد سبق بيان معارضتهم للنصوص بعقولهم، بل نبني عليه فنذكر مذهب المتكلمين من الأشاعرة وهم القنطرة التي انتقل عليها فكر المعتزلة والفلاسفة حتى انتشر في أصول الفقه، وإليك أهم الشبه التي انخدع بها هؤلاء:
يقول الأيجي في "المواقف" الدلائل النقلية لا تفيد اليقين إلّا إذا عُدم المعارض العقلي "إذْ لو وجد لقدم على الدليل النقلي قطعًا، إذ لا يمكن العمل بهما ولا بنقيضهما، وتقديم النقل على العقل إبطال للأصل بالفرع وفيه إبطال الفرع، وإذا أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضًا لنفسه فكان باطلًا، لكن عدم المعارض العقلي غير يقيني إذْ الغاية عدم الوجدان وهذا لا يفيد القطع بعدم الوجود فقد تحقق أن دلالتها تتوقف على أمور ظنية فتكون ظنية لأن الفرع لا يزيد على الأصل في القوة".
ثم قال: "والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات
…
نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأنه مبني على أنه
(1) انظر الرد على الرازي والقاضي وقد سبق ص 55 - 56 وانظر إن شئت الملاحظات التي أثبتها ابن القيم في كتاب "مختصر الصواعق المرسلة" على مصطلح القطعي والظني ص 489 الخ وهي ترجع إلى تلك الشبه.
(2)
وقد أسرف كثير الأصوليين في اتباع علم الكلام، وانظر تملل الغزالي من ذلك مع قبوله له لأنه كما يقول: الفطام عن المألوف شديد، المستصفى 1/ 10.