الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي وهل للقرينة مدخل في ذلك وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه" (1).
وحاصل هذا الاستدلال ما يلي:
1 -
أن النقل -وهو الشريعة- ثبتت عن طريق المعجزة التي ميّزت الرسول الصادق عن الدعي الكاذب، والمعجزة إنما تدرك صحتها بالعقل فهو الطريق إلى إثبات الرسالة، فإذا ورد في هذه الرسالة ما يعارضه فهو مردود لأنا لو قبلناه لقبلنا ما يعارض العقل، وهذا إلغاء له، وبه ثبتت الرسالة فإلغاءه إلغاء لها، فلابد من إلغاء ما يعارض العقل، وتوقف إفادة النقل للعلم على انعدام المعارض العقلي.
2 -
أن انعدامه ظني، فقد يكون هناك معارض عقلي للنص لا نعلمه نحن ويعلمه غيرنا، فإذًا تحقق المعارض العقلي ممكن، والعلم بانتفائه غير ممكن، ولذلك تبقى الأدلة النقلية ظنية لبقاء احتمال تحقق المعارض العقلي، ولا يُخْلّصنا من ذلك وجود القرينة التي تقوي الأدلة النقلية لأنّا لا يمكن لنا في العقليات أن نجزم على أساسها بعدم وجود المعارض العقلي.
المطلب الثالث
مناقشة شبهة المخالفين والجواب عنها بأكثر من وجه
قد سبق ذكر شبهة المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة وهي أصل الأصول في مسلكهم في النظر، وظاهر أثر الفكر الفلسفي في مادة "دليلهم" وأسلوبه (2).
(1) المواقف في علم الكلام 40 القاضي عبد الرحمن بن أحمد الأيجي، عالم الكتب بيروت - وقارن إن شئت بين النص المذكور وبين نصوص الفلاسفة والمعتزلة المذكورة في درء تعارض العقل والنقل 1/ 4 وما بعدها، وانظر مقدمة المحقق من ص 10 إلى ص 20، وانظر مذهب المعتزلة في تقديم حكم العقل: فضل الاعتزال 139، وقد سبقت الإِشارة ص 189 إلى ما ذكره القاضي عبد الجبار في كتابه المغني.
(2)
وقارن إن شئت بين مادة الدليل وأسلوبه وبين كتاب "الرساله" للشافعي لترى الفرق جليًّا بين أسلوب المتبعين للسنة وأسلوب أهل الكلام.
وقد كتب شيخ الإِسلام أعظم كتبه في الرد عليهم وبدأه بتصوير مذهبهم وأجاب عن شبهتهم هذه بنحو أربعة وأربعين وجهًا من الجزء الأول إلى آخر الجزء السابع وما بعده من كتابه الجليل "درء تعارض النقل والعقل" وقد كسر فيه الفلاسفة والمتكلمين من المعتزلة والأشاعرة كسرًا لا يجبرون بعده أبدًا ويتخلل هذه الوجوه دراسات عقدية ونقول لا تحصى كثرة عن السلف الأول وإليك بعضًا من تلك الوجوه مع عرض ميسر لها يسهل فهمها:
1 -
أن ثبوت المعجزة وإدراك ذلك بالعقل حتى يصدق ويؤمن بأن هذه المعجزة تدل على صدق الرسول في تبليغ الوحي الذي أنزله عليه سبحانه أمر طبيعي جدًا، لأن المعجزة إما مشاهدة في فترة زمنية أو مستمرة، وهي القرآن الكريم
…
وبعد إدراكها والإِيمان بها وسجود العقل الإِنساني لذلك يسلّم بأن من جاء بها إنّما هو رسول صادق ورسالته معصومة من الخطأ والضلال والاختلاف والتناقض، وأنها هي الحق والعدل الذي أنزله الله العليم الحكيم، وشهادته "بأن الله هو الحكيم الخبير العدل، وأن حُكْمَه كذلك وأنّ هذا الرسول صادق في تبليغ أمر الله" تقتضي هذه الشهادة وهذا الإِيمان أن يسجد العقل والوجدان لكل حكم من أحكام هذه الرسالة التي آمن بها فليس العقل إذًا أصلًا للنقل في كل شيء، وإنما هو أصل في إدراك ثبوت المعجزة التي منها يستدل على قدرة الخالق ثم يلزمه الاستسلام كما قلنا آنفًا (1).
2 -
أن الشريعة الإِسلامية ثابتة في نفسها -هذا مقتضى إيمان العقل بالمعجزة- وذلك متحقق قبل عرضها على العقول، بل قبل وجود أصحابها وذلك لأن ثبوتها متحقق من كونها أمر الله سبحانه إما وحيًا بلفظه كالقرآن أو معنى كالسنة، وثابتة في نفسها قبل إيمان الصحابة بها وقبل وجود المعتزلة ووجودنا فهي لا تتوقف على ذلك، وسواء بذلك علمناها أو جهلناها، وأيضًا
(1) 1/ 89 - 90، وانظر الوجه الثالث فى الرد عليهم وسنستفيد من هذا الجواب عند مناقشة بعض المحدثين عند دراسة موضوع الاستشراق وأثره على بعض الباحثين المحدثين في قضية الثبات والشمول إن شاء الله
…
فإن إيمان المؤمنين بالشريعة يعني أنها ثابتة عندهم علموا ذلك يقينًا ولا يضرهم جهل الأمم الأخرى بها، فثبوتها لايتوقف على وجود أحد، فضلًا عن وجود عقله، والعلم والإِيمان بها من أحد من الناس بعد أن يدرك المعجزة بعقله لا يعني ذلك أنها ليست ثابتة من قبل (1) ولا يعني تحكيم عقله في الشريعة بل الأمر الطبيعي أن إدراكه بعقله صحة المعجزة ثم إدراكه بعد ذلك ثبوت الشريعة وأنها حق كلها وصدق كلها وعدل كلها - وهذا مقتضى إيمانه بأنها من عند إله قادر حكيم عليم موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص - مقتضى ذلك أن يسجد بعقله وجميع جوارحه لكل ماجاءت به، فكيف يصح القول بمعارضته لشيء منها، بل كيف يصح القول بإيقاف العلم بها لاحتمال وجود المعارض العقلي.
3 -
إنّ دعوى أنّ العقل أصل للنقل هكذا على الإطلاق غير صحيح بل الحق كما سبق آنفًا أن العقل أصل لإِدراك المعجزة التي يُعلم بها صدق الرسول، فكأن ههنا مرحلتين:
الأولى: إدراك صدق الرسول وهذه الأداة فيها هي العقل.
الثانية: الالتزام بما جاء به الرسول علمًا وعملًا، وهذه العقل فيها تابع منقاد مستسلم لأنها إمّا غيب أو مبنية على الغيب، والعقل لا مدخل له هنا وليس أصلًا لها، بل هو هنا محل للعبودية والانقياد.
فإذا قال المعتزلة أو الأشاعرة أو الفلاسفة قديمًا أوحديثًا .. إنّ العقل أصل لثبوت المعجزة صدقناهم .. وإذا اشترطوا على النص أن لا يأتي بتكذيب المعجزة أو التشكيك فيها صدقناهم أيضًا (2).
أمّا إذا جعلوا العقل أصلًا يُحتكم إليه في إثبات "العلم" للأدلة الشرعية وما كان قدحًا فيه صار قدحًا في الشرع فذلك لا يصدقهم فيه عاقل يريد أن
(1) درء تعارض العقل والنقل 1/ 87 - 88 - 89.
(2)
1/ 90 مع العلم بأنه لايتصور مجيئ الشريعة بمثل ذلك.
يعبد الله وحده، ولا يمكن أن توسع دائرة العقل البشري الذي يجهل أكثر مما يعلم ليصبح حاكمًا على الأدلة النقلية يصحح منها ما شاء ويبطل ما شاء، لأن ذلك يخرج العقل البشري من العبودية إلى الحاكمية، وهو باطل.
4 -
أن تقديمهم لعقولهم على الأدلة الشرعية ممتنع متناقض (1)، وأما تقديم الأدلة الشرعية على عقولهم فهو ممكن مؤتلف، فوجب الثاني دون الأول.
يدل على ذلك أن علم العقل بالشيء أو عدمه من الأمور النسبية الإضافية وليس صفة لازمة لشيء من الأشياء، فقد يعلم رجل بعقله ما لا يعلمه آخر، ويعلم الإِنسان ما يجهله هو نفسه في وقت سابق.
والمسائل التي يقال أنه قد عارض فيها الشرعُ العقلَ جميعها اختلف فيها العقلاء اختلافًا كبيرًا ولم يتفقوا أن موجب العقل فيها كذا (2).
ويكفينا أن نعرف ما حدث داخل الأمة الإِسلامية وما هو حاصل في واقع البشرية اليوم لنجزم بهذه الحقيقة، أما ما حصل في داخل الأمة فقد نشأت فرق عد منها العلماء ما يقارب - اثنين وسبعين فرقة (3) وهؤلاء فيهم من العقلاء
(1) الدرء 1/ 144 - ولا يقال إن "القياس الشرعي" طريق لإِدراك حكم النص والقياس عمل العقل، فالجواب وسيأتي مفصلًا - إن عمل العقل هنا أنْ يدرك - في بعض المسائل - أن الله حرم كذا لعلة معينة، ثم يدرك مرة أخرى أن هذه العلة وجدت في واقعه لم يُنص على حكمها، فكأنه قال: إن هذه العلة التي رتب الشارع عليها حكمًا معينًا وُجِدت في واقعة أخرى - وهذا جهد بشري كلف الشارع العقل المسلم به - وهو حتى هذه اللحظة لم يشرع ولم يصحح ولم ينسخ ولم يقيد أو يخصص .. فيأتي الشارع ليقول حكمه في هاتين الصورتين التشابهتين فيجعل لهما حكمًا واحدًا، فعمل العقل هنا كشف عن حقيقة الصورتين، وأما الذي حكم على الأولى بحكم وعلى الثانية بالحكم نفسه فإنّما هو الشارع.
(2)
الدرء 1/ 145.
(3)
انظر ما سبق من الأحاديث التي أشارت إلى ذلك ص 84 - 85 وسبق ذكر أصول فرقهم ص 183 - 184 وما بعدها.
والأذكياء وأهل الفطنة خلق كثير، وطبقات علمائهم كثيرة وفي كل طبقة طائفة منهم ومع ذلك لم تجمعهم عقولهم على أمر واحد، بل إن الفرقة الواحدة تختلف اختلافًا عجيبًا مع أن أصولها واحدة وأهدافها واحدة ويقع عقلاؤها في العجائب من الأمور بحيث لا يصدق من عافاه الله من هذا الشر بأن هذا يصدر من أحد ينتسب إلى الإِسلام، ومع ذلك صدر عن هؤلاء وهم يملكون القدرة على التفكير والتدبر ومعهم الآلة التي تعينهم على ذلك ألا وهي العقل، هذا فيمن ينسبون إلى هذه الأمة، أما من لم ينتسبوا إليها فهم أشد تخبطًا وضلالًا، وفرق الديانات الجديدة في عالمنا اليوم كثيرة لا تحصى (1) وهؤلاء وأولئك يملكون آلة العقل، ويقدرون على التفكر والتدبر، فأين هذا "العقل" عن إدراك مصالحهم وجمع كلمتهم وتوحيد نظرتهم للكون والحياة والأشياء من حولهم .. !! ومرت العصور تلو العصور و"العقل" لم يمكنه أن يصنع ذلك ولو في فترة محدودة، ذلك لأنه عاجز عن تحقيق ذلك، ولا يملك القدرة عليه مهما بلغ في القوة من ناحية الإِنتاج المادي، أما الرسل عليهم السلام فقادرون على ذلك لا بوصفهم بشرًا عقلاء وإنما بوحي من الله ومشيئة منه، فكيف يقدم "العقل" على "الوحي" إذن.
5 -
والحاصل: أن قولهم أن العقل أصل النقل غير صحيح بل هو أصل الإِيمان بالمعجزة فقط، ولذلك:"إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع، لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل"(2).
ويكفينا من العقل أن يُعلّمنا صدق الرسول ومعاني كلامه بالطريقة التي
(1) انظر في أصول أفكارهم الملل والنحل لإبن حزم والملل والنحل للشهرستاني وكل كتاب من كتب الفكر الحديث عن المذاهب والنظريات والأفكار يشهد بذلك، بل واقع البشرية اليوم أصدق بيان وأقرب كتاب. ومن عجب أن كل فريق يزعم أن مقالته قد دل عليها العقل الصريح، وانظر كتاب الدرء 1/ 156 - 170 تجد صورة تطبيقية لذلك من معتقدات أهل الكلام والفلاسفة.
(2)
1/ 138.
يحددها الشرع (1) وذلك لأن العقل دل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، دلالة عامة مطلقة (2).
"وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإِنسان بالعقل أن هذا رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، وعلم أنه أخبر بشيء ووجد في عقله ما ينازعه في خبره كان عقله يوجب عليه أن يُسلّم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وأن لا يُقدّم رأيه على قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه وأنه أعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر منه"(3).
"ولهذا كان من المعلوم بالاضطرار من دين الإِسلام أنه يجب على الخلق الإِيمان بالرسول إيمانًا مطلقًا جازمًا عامًا: بتصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أوجب وأمر، وأن كل ما عارض ذلك فهو باطل، وأن من قال يجب تصديق ما أدركته بعقلي ورد ما جاء به الرسول لرأيي وعقلي، وتقديم عقلي على ما أخبر به الرسول مع تصديقي بأن الرسول صادق فيما أخبر به فهو متناقض فاسد العقل ملحد في الشرع"(4). وهذا المعلوم من الدين بالضرورة هو الحق وليس كما يظن بعض الناس أنه فكر خاص، يقول الإِمام الطحاوي "فمن سأل لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين"(5) فكيف بمن عارضه بعقله، ويشرح هذا القاضي أبو العز الدمشقي (6) فيقول "اعلم أن مبنى العبودية والإِيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه
(1) وهذا البحث من أوله إلى آخره يحاول إبراز معالم هذه الطريقة والتأكيد عليها من خلال موضوع الكتاب باعتبار أنها هي الطريقة الشرعية التي حافظ عليها السلف الأول في صدر هذه الأمة.
(2)
المصدر السابق 1/ 138.
(3)
المصدر السابق 1/ 141.
(4)
المصدر السابق 1/ 189.
(5)
شرح العقيدة الطحاوية 251 - إلا أن يكون متأولًا فلا بد من إزالة الشبهة 268.
(6)
هو القاضي صدر الدين علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي الأذرعي الصالحي الدمشقي فقيه حنفي ولد سنة 731 وتوفي بدمشق 792 - شذرات الذهب 6/ 326.
عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه، وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت وما عرفت من الحكمة عرفته وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك .. ولهذا كان سلف هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً لا تسأل نبيها لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإِيمان والاستسلام، وأن قدم الإِسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم" (1).
وهذا هو الجواب عن شبهة القائلين بالظنية وتضعيف الأدلة النقلية وببعض هذه الوجوه المذكورة تسقط شبهتهم.
وأنبه هنا إلى أمر مهم جداً -يفيدنا في ربط الشبه بعضها بالبعض الآخر ألا وهو تحديد المناط الذي ترتكز عليه تلك الشبه الأنفة الذكر، وهو وإن كان مناطاً فاسداً لمعارضته الدليل الشرعي إلّا أن تحديده يبصرنا بأمور مهمة، ومن خلال النظر في الشبه وجوابها يتبين أن المناط الذي بنيت عليه هو "الاحتمال العقلي" وله صورتان:
الأولى: احتمال المعارضة.
الثانية: احتمال عدم التمكن من نفيها (2).
وأمام هذين الاحتمالين العقليين الفاسدين تقف الشريعة أي "الأدلة النقلية" لا تجاوز "الظنون" ولا تفيد العلم، حتى يتمكن أهل الأهواء من نفي
(1) شرح العقيدة الطحاوية. هذه نظرة السلف من الصحابة والتابعين لمنزلة العقل البشري وان محله الذى يستحقه أن يكون عابداً لله متبعاً لمنهجه وكل ما ورد من الأحاديث في إخراج العقل عن هذا الحد المحدود له كلها كذب كما قال ابن القيم. وانظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/ 13 للألباني ط 4 - المكتب الإِسلامي.
(2)
هناك فارق بسيط بين المعتزلة والأشاعرة حاصله أنها لا تفيد العلم في العقليات فقط عند الأشاعرة.
احتمال المعارضة وهم كما سبق يزعمون عدم تمكن النفي!! وقد صدق من قال: الكلام أوله سفسطة وآخره زندقة، وقد نقله الغزالي عن الإمامين أحمد وأبي يوسف (1).
والواقع كما شهد به المتكلمون أصدق شاهد عليهم فهم في شك وحيرة واضطراب بخلاف الذين اتبعوا السنة في الاعتقاد والعمل فإنهم يعلمون أن خبرها صادق لا يمكن أن يعارضه دليل عقلي صحيح ولا سمعي صحيح، وليس عند المخالفين إلا أوهام فاسدة تارة يسمونها عقليات وتارة برهانيات وتارة وجدانيات، وذوقيات، ومخاطبات ومكاشفات ومشاهدات وهي عندهم تحقيق وعرفان أو حكمة وحقيقة أو فلسفة ومعارف يقينة ونحو ذلك من الأسماء (2).
ويقول ابنِ تيمية عن هذا كله -في كتابه الجليل عظيم الفائدة: "فنحن نعلم علماً يقينيًا لا يحتمل النقيض أن تلك جهليات وضلالات وخيالات وشبهات مكذوبات وحجج سوفسطائية وأوهام فاسدة وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسماها بل هي من جنس تسمية الأوثان آلهة وأربابًا، وتسمية مسيلمة الكذاب وأمثاله أنبياء".
"والمقصود أنه من جوّز أن يكون في علمه بحسه (4) وعقله (5) حجج صحيحة تعارض ذلك لم يثق بشيء من علمه ولم يبق له طريق إلى التصديق
(1) انظر الدرء 1/ 178، 7/ 156 - 157 وانظر ما سبق ص 78 من ذم أهل العلم لهم، وانظر تبيين كذب المفتري 333 - 334 والإِحياء 1/ 164.
(2)
5/ 255.
(3)
سورة النجم: آية 23.
(4)
بحسه كالمشاهدة والمكاشفة.
(5)
وعقله أي باشتراط انتفاء العارض العقلي، أو إثبات العارض.
بشيء من ذلك (1).
"وإذا كان ما أوجب الشك والريب ليس بدليل صحيح وإنما الدليل ما أفاد العلم واليقين وطريق هؤلاء لا يفيد العلم واليقين بل يفيد الشك والحيرة (2) علم أنها فاسدة في العقل كما أنها إلحاد ونفاق في الشرع. وهذا كله بين لمن تدبره، والأمر فوق ما أصفه وأبينه"(3).
"ولا ريب أن من قدم على كلام الله ورسوله ما يعارضه من معقول أو غيره وترك ما يلزمه من الإِيمان به كمن آمن بما يناقضه فقد آمن ببعض وكفر ببعض"(4) وهذه حال من أقر ببعض ما أخبره به الرسول عليه السلام دون أن يؤمن بالباقي حتى ينتفي المعارض العقلي .. فهذا قد أبطل فائدة تصديق العقل بالمعجزة وأبطل الشرع كذلك فلم يبق معه عقل ولا شرع (5) وهذه حال أهل البدع والأهواء (6).
وبعد أن ذكرت من الأدلة ما يفرق به الناصح لنفسه بين الحق والباطل أقول: إنَّه لا يمكن لأحد أن يدرك ثباتاً لأحكام هذه الشريعة ولا يحقق شمولها في واقع البشرية -بحيث تهيمن عليه بلا شريك وتنفرد بالحكم وتحول بين المجتمع وبين الشرك والبدعة وأحكامهما التي تمثلها المذاهب المنحرفة قديماً وحديثاً. أقول
إنه لا يمكن لأحد أن يتصور ذلك إلا أن يؤمن بهذه العقيدة التي بينا وجه
(1) 5/ 256.
(2)
قارن بما سبق ص 200 - 201.
(3)
5/ 257.
(4)
5/ 282.
(5)
5/ 282.
(6)
5/ 282 - ولذلك كان من منهجي في هذا البحث أن أعرض مسالكهم في صورتها الحقيقية وذلك على أنها شبهات، ثم أجيب عنها وأعلل سبب انتشارها حتى تأخذ وزنها الطبيعي.
الاحتجاج لها بالكتاب والسنة والإجماع الذي نقله الأئمة الثقات العدول من أئمة السلف -وهذه هي عقيدة الإِسلام التي عرفها رسول الله وبلّغها وعلمها لأصحابه وبلغها أصحابه لمن بعدهم، ومقتضاه سجود القلب والعقل لهذه الشريعة، والوقوف عند ماحده الله وشرعه في الاعتقاد، ما كان منه خاصاً بالأمور الغيبية كأحوال الآخرة وما كان منه خاصاً بصفات الله سبحانه .. فلا مراجعة ولا معارضة ولا تعطيل ولا تشبيه، بل نثبت ما أثبته الله لنفسه وننفي ما نفاه، ونسلّم لأمره في العقيدة كما نسلّم له في الشريعة، ولا نقول كيف في الغيبيات ولا لِمَ في الأحكام، ولا نرد شيئاً من أمره سبحانه ولا نعارضه بعقل ولا بعرف ولا بشيء من الأشياء بل نؤمن ونذعن وننقاد، مستسلمةً قلوُبنا وعقولُنا وجوارحنا وليس بعد ذلك إلّا إحسان العمل والصبر على مهمة التربية والجهاد في واقع الأرض، وهذه هي طبيعة الجيل الأول الذي هو خير القرون .. ولا بد من بذل الجهد في تصحيح العلم والدعوة إليه بكل ما أمكن حتى نرجع إلى صفات ذلك الجيل، وننقي عقولنا وقلوبنا وكتبنا ومناهجنا وحياتنا كلها من آثار الانحراف الذي اجتمع على زخرفته وتزيينه ونشره الفرق الضالة قديماً والمذاهب المعاصرة حديثاً، ولنذْكر وجه الربط بينهما لنكشف عن شيء من خطورتهما ..
إن مسالك الفرق الضالة -التي منها مخالفة طريق الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه وتابعيهم بإحسان - والتي من أقبح نتائجها -كما أسلفت - تغيير منهج التلقي، والذي ترتب عليه اتباع مسالك منحرفة في الاستدلال أفرزت عقائد وأحكاماً مجافية "للوحي" فزادت فيه ما يناقضه .. ونقصت من صلبه ما أدى إلى انحرافهم، وأخطر من ذلك كله أنها سهّلت على كثير من الناس قبول الزيادة في الدين والنقص منه، وما زالت آثار هذا الانحراف تزداد بقدر ما لآراء الفرق من سعة في الانتشار .. فلما جاء الغزو الفكري الحديث الذي تمثله المذاهب الفكرية المعاصرة جاء ليرتكز على هذا الانحراف نفسه ويوسعه ويدافع عنه ويسعى لحمايته فكان أن تقبل العالم الإِسلامي هذه المذاهب لتزيد في الدين ما ليس منه ولتكون هذه الزيادة هي أحكام القوانين
الوضعية باعتبار أن الشريعة تقبلها ولا ترفضها (1)، ومن جانب آخر تنقص من هذه الشريعة ما شاءت ابتداء من أحكام السياسة والاقتصاد .. وانتهاء بأحكام الجهاد والحدود، ولو لم تكن مسالك الفرق الضالة قد انتشرت في الأمة لما استطاعت المذاهب الفكرية المعاصرة وأحكامها أن تدخل العالم الإِسلامي.
وإذا عرفنا خطورة الفريقين وأنهم جميعاً لم ينتفعوا "بالوحي" المنزل من عند الله، أما الذين أقروا بالرسول عليه الصلاة والسلام فهم مع إقرارهم وتصديقهم اتخذوا مسلكًا غريباً يحول بينهم وبين الانتفاع بالوحي، وأما المنكرون له فأعرضوا عن التصديق وعن المتابعة (2).
والمخرج من ذلك كله هو دعوة الفريقين إلى توحيد الإِتباع والطاعة الذي نذكر به في كل موضع مناسب من هذه الرسالة وتربية الأمة عليه، وتحذيرها من هذين الانحرافين، انحراف الفرق الضالة وانحراف المذاهب الفكرية المعاصرة، والبديل لهذا وذاك هو ردها لما جاء به الإِسلام عقيدة وشريعة كما دعا إليها خاتم الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وكما تعلمه أصحابه وعملوا به ودعوا إليه.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (3).
* * *
(1) سيأتي في الباب الأخير تصوير هذه الدعوى وكشف زيفها - إن شاء الله.
(2)
هذا فيه مشابهة لكلام شيخ الإِسلام الذي نقلته سابقاً ص 195 والفرق بين الموضعين انه جعل الفلاسفة في مقابلة الفرق ووصفهم بهذا الوصف، وجعلت هنا بدل الفلاسفة تلامذتهم من أصحاب المذاهب المعاصرة، وفيما ذكرته من وجه الربط بينهما كفاية حتى لا يقول قائل ما وجه الجمع بين هذه الاتجاهات.
(3)
سورة الأحزاب: آية 4.