الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبين أن القياس طريق إلى معرفة أحكام الشرع في الوقائع التي لم ينزل بشأنها نص كتاب ولا سنة، وقد استدل على حجيته بالقرآن والسنة وأقيسة الصحابة ورد على المنكرين للقياس.
وسأبين طريقته مختصرة حسب الترتيب الآتي:
الفرع الأول: ذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة.
الفرع الثاني: عمل الصحابة بالقياس والتفريق بين الرأي المحمود والرأي المذموم.
الفرع الأول الأدلة من الكتاب والسنة:
إن حقيقة القياس هي تشبيه الشيء بنظيره والتسوية بينهما في الحكم، وقد اشتملت كثير من الآيات القرآنية على هذا المعنى، وقد ذكر ابن القيم أن هذه الأمثال بلغت بضعاً وأربعين مثلاً (1).
وأذكر منها:
1 -
أخبر القرآن أن حكم الشيء حكم مثله وذلك في قوله تعالى:
وقوله تعالى خطاباً لكفار قريش: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} (3).
أي أكفاركم يا قريش خير من الكفار من قبلكم، والمقصود هنا هو التسوية بينهم وبين من قبلهم في العذاب لأنهم اشتركوا في الاعتقاد، "فهذا
(1) أعلام الموقعين 1/ 130.
(2)
سورة محمد: آية 10.
(3)
سورة القمر: آية 43.
محض تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة وإلّا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية ولا تمت الحجة" (1).
ثم ذكر مواضع أخرى تدل على هذا المعنى ومنها: "كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالسير في الأرض سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب والسير المعنوي بالتفكر والاعتبار أو كان اللفظ يعمهما وهو الصواب"(2).
2 -
إن الله سبحانه نفى عن حكمه وحكمته التسوية بين المختلفين في الحكم ومن الآيات التي تدل على هذا المعنى:
3 -
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} قال ابن القيم: "فهذا قياس جلي، يقول سبحانه: إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم، فذكر أركان القياس الأربعة: علة الحكم وهي عموم مشيئته وكمالها، والحكم وهو إذهابه بهم وإتيانه بغيرهم، والأصل وهو من كان من قبل، والفرع وهم المخاطبون"(5).
4 -
القرآن يعلل الأحكام بمعان معتبرة وأوصاف مؤثرة، وقد جاء ذلك
(1) أعلام الموقعين 1/ 131 - 132.
(2)
المصدر نفسه: 1/ 132.
(3)
سورة الجاثية: آية 21.
(4)
سورة ص: آية 28.
(5)
أعلام الموقعين: 1/ 138.
في مواضع كثيرة، وورد التعليل بالباء، واللام، وإن، وكي، ومن أجل، وترتيب الجزاء على الشرط، والفاء المؤذنة بالسببية، وترتيب الحكم على الوصف المقتضي له، ولما وأن، ولعل، وبالمفعول له (1).
5 -
ومما ورد في السنة ما قاله ابن القيم:
"وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم علل الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها ليدل على ارتباطها بها، وتعديها بتعدي أوصافها وعللها"(2).
ثم ذكر أمثلة كثيرة جداً، وهي مشابهة للأمثلة التي أشرت إليها آنفاً ومنها:
(أ)"قياس العكس الجلي":
وذلك ما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان يكون عليه وزر قالوا نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر"(3).
(1) مثال الباء: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} غافر ومثال اللام: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} 197 - المائدة، "وأن مثل:{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} 156 الأنعام أي لئلا تقولوا، وقيل كراهة أن تقولوا، واللام مثل {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 165 النساء، وكي كقوله:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً} 7 الحشر. والشرط والجزاء: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} 120 آل عمران، والفاء {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} 139 الشعراء، وترتيب الحكم على الوصف {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} 16 المائدة، ولما:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} 55 الزخرف وإن مثل {كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} 77 الأنبياء، ولعل مثل {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 73 البقرة ومن أجل {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} 32 المائدة، وانظر أعلام الموقعين 1/ 196 - 197 - 198.
(2)
انظر المصدر السابق 1/ 198 - 199. وفيه أمثلة كثيرة.
(3)
قطعة من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم. مسلم بشرح النووي - 7/ 91 - 92، وانظر كتاب أقيسة النبي صلى الله عليه وسلم 78، لناصح الدين عبد الرحمن الأنصاري المعروف بابن الحنبلي تحقيق أحمد حسن جابر وعلي أحمد الخطيب - الطبعة الأولى 1393 هـ.
قال ابن القيم: "وهذا من قياس العكس الجلي، وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لثبوت ضد علته فيه"(1).
(ب) قياسه حكم القبلة في الصوم -وهي الفرع- على حكم المضمضة بالماء وهو الأصل بجامع أن كلًّا منهما لا يضر.
ففي الحديث أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "صنعت اليوم يا رسول الله أمراً عظيماً، قبلت وأنا صائم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم، فقلت لا بأس بذلك، فقال رسول الله فصم"(2).
قال ابن القيم رحمه الله:
"ولولا أن حكم المثل حكم مثله، وأن المعاني والعلل مؤثرة في الأحكام نفياً وإثباتاً لم يكن لذكر هذا التشبيه معنى، فذكره ليدل به على أن حكم النظير حكم مثله، وأن القبلة التي هي وسيلة إلى الوطء كنسبة وضع الماء في الفم الذي هو وسيلة إلى شربه فكما أن هذا الأمر لا يضر فكذلك الآخر"(3).
(ج) وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن نحج فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت نعم فقال: "اقضوا دين الله فإن الله أحق بالوفاء" (4).
وترجم له البخاري بقوله: "باب من شبه أصلاً معلوماً بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السائل"(5).
(1) أعلام الموقعين 1/ 199.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده "مسند عمر بن الخطاب" وانظر أعلام الموقعين 1/ 199 وأقيسة النبي عليه الصلاة والسلام 191.
(3)
أعلام الموقعين 1/ 199.
(4)
أخرجه البخاري كتاب الاعتصام 13/ 296.
(5)
المصدر السابق كتاب الاعتصام 13/ 296.