الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاجتماعي وإن كانت في مقابلة النصوص، وهذا يدل على أن المصلحة دليل كباقي الأدلة الأخرى.
ثالثاً: أن من المصالح ما يتغير بتغير الزمان ولذلك فإن الصحابة بدلوا بعض الأحكام لتبدل الزمان والمصالح، وتارة يقول أن هذا التبديل إنما هو في التطبيق، ويستدل على ذلك بوقائع متفرقة، ويرى مخالفة النص بهذه المصلحة لأنه قد ثبت حجية المصلحة كدليل شرعي بمجموع نصوص.
رابعاً: يعتبر هذا المنهج - الذي فهمه من تلك التطبيقات - هو المنهج الحق وأن الأصوليين حادوا عنه واشترطوا شروطاً لم يثبت عليها دليل.
ومما تنبغي الإشارة إليه أن الاعتماد على تصوير هذا المذهب من هذا الكتاب خاصة سببه أن هذا الكتاب يعتبر عمدة في الانتصار لهذا الرأي ومنه يغترف أولئك الباحثون الذين جاءوا من بعده، وستكون المناقشة في
المطلب الثالث
والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن حسب الترتيب الآتي (1) والله المستعان.
المطلب الثالث
مناقشة القول بأن الصحابة عملوا بالمصلحة والحكمة ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة بل اتبعوا وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول، وأنهم منعوا العمل ببعض الأحكام، وخالفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث غيروا بعض الأحكام لتغير المصالح واشتهر ذلك بينهم فكان إجماعاً:
(1) ولذلك فإني أعتبر هذه المطالب رداً وتفنيداً لشبهة تغير الأحكام سواء وردت في الكتاب المذكور أو في غيره من الكتب، وإنما تتبعتها كما جاءت فيه لأنه استوعب أكثر الشبه التي يمكن أن تروّج لقضية التغيير والتبديل، وقد بناها على القول باتباع المصالح، ونحن نحتاج إلى بيان مدى خطورة ترك ضوابط المصلحة من الناحية التطبيقية، ليكون في ذلك عبرة لكل من يتحدث عن الإِسلام ويعمل له، فكثيراً ما ضل قوم وهم يزعمون أنهم يتبعون المصلحة، ولا بد من استيعابه ومتابعة الشبه وتصحيح نقول بعض الباحثين عن الأئمة التي لم تصحح في بحوث أخرى، ولو اقتضى ذلك نوعاً من التطويل .. والله المستعان ..
1 -
منع عمر رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم: قال الدكتور مصطفى شلبي: "أحكام وردت مطلقة أو معللة بعلة فلما بحثوها وجدوا تلك العلل قد زالت، أو ما شرع له الحكم قد تغير، فغيروا الأحكام تبعاً لذلك .. من ذلك: حكم المؤلفة قلوبهم شرع الله إعطائهم من الزكاة وأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال الله كثيراً، وقال في بعض المواضع: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ تأليفاً لقلبه" هؤلاء المؤلفة قلوبهم منهم من كان مسلماً ضعيف الإِيمان ومنهم من كان على دينه، أعطاهم ليقوي إيمان الأول، ويحبب الثاني في الإِسلام، مضى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم حدث في زمن أى بكر رضي الله عنه ما رواه الجصاص في تفسيره عن ابن سيرين عن عبيدة قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها فأقطعها إياهما، وكتب لهما عليهما كتاباً فأشهد، وليس في القوم عمر، فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله ثم تفل فيه فمحاه!، فتذمرا وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإِسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أغنى الإِسلام، اذهبا فاجهدا جهدكما لا يرعى الله عليكما إن رعيتما
…
! فترك أبو بكر الإِنكار عليه" (1).
قال الدكتور: "وهذا دليل على أن من الأحكام ما يدور مع المصالح ويتبدل بتبدلها ومن أنكر ذلك فقد خالف إجماع الصحابة الذي كثيراً ما يحتج به، وقد اعترف بكون إجماعهم حجة كل من قال بحجية الإِجماع.
مناقشته: نسلم أن إجماع الصحابة حجة، ونخالف في تفسير النص المنقول عن عمر بهذا التفسير، والاستنتاج السابق من المستدل غير صحيح.
والدليل على ذلك أن الآية الواردة في المؤلفة قلوبهم والتي أمرت بإعطائهم تتضمن حكمين في آن واحد وهما:
(1) تعليل الأحكام 37 - 38.
الأول: أن المؤلفة قلوبهم يعطون من بيت المال.
الثاني: وهو ضده أن غير المؤلفة قلوبهم لا يعطون.
فعاد الأمر إلى تحديد من هم المؤلفة؟ .. والمؤلفة: هم أولئك الذين يكون الإِسلام بحاجة إليهم لأنهم زعماء في قومهم فإذا أسلموا أسلم من ورائهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فقد كانا من زعماء تميم فإذا أسلم أمثال هؤلاء تقوى الإِسلام بمن ورائهم.
ولعله يدخل في هذا المعنى ما أشار إليه المستدل من أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل وغيره أحب إليه منه حتى لا يضعف أو يُفتن ويكل الآخرين إلى إيمانهم.
فالأول من معنى التأليف لتقوية الإِسلام .. والثاني من معنى التأليف لمنع الفتنة أو الضعف.
وإذا وقفنا عند القصة المذكورة نجد أن التأليف لتقوية الإِسلام غير متحقق، فالإِسلام حينئذ كثير، وهذا معنى قول عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإِسلام يومئذ قليل، أما أنتما اليوم فتريدان أن نتألفكما والإِسلام كثير، فأنتما لستما من المؤلفة قلوبهم اليوم وإن كنتم منهم من قبل، وهذا من عمر هو الفقه، وهو ما يسميه الأصوليون "بتحقيق المناط"(1).
فإذا أراد الفقيه أن يطبق النص على حادثة حقق مناطها سواء أكان الفقيه صحابياً أو غير صحابي، فإذا وجد أنها تدخل في حكم النص أعطاها حكمه، وإلّا منعها من الدخول تحته، وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه ..
فقد حقق في شأن الرجلين، وشأن الإِسلام فعلم أنهما ليسا من المؤلفة قلوبهم، فمنعهم من الدخول تحت الآية ولم يعطهم ..
والنص الوارد في القرآن هو هو لم يُبدل ولم يُغيّر، فمن أعطى المؤلفة قلوبهم كما فعل رسول الله، أو ظنهم مؤلفة كما فعل أبو بكر فقد أعمل الآية ..
ومن منعهم لأنهم غير مؤلفة فقد أعمل الآية، ولا تغيير ولا تبديل.
(1) انظر بيانه فيما سبق ص 232.
ومناط الآية ثابت إلى يوم القيامة، وهو: إعطاء المؤلفة قلوبهم ومنع غير المؤلفة، والتطبيق بحسب الواقعة والحال فأين التبديل والتغيير للحكم، بل أين الإِجماع على ذلك؟
فهذا المثال لا يثبت من دعوى المؤلف شيئاً، وهو مثال يكثر الباحثون من استعماله على الدعوى نفسها ..
وأضرب مثالاً آخر يوضح المقصود ولا أحد يخالف فيه إن شاء الله، فأقول: لو أن إنساناً وقف مالاً على الفقراء من طلبة العلم في مسجد معين وجعل لكل منهم قسماً محدداً، ثم إن الناظر أعطى الفقراء ومنع غير الفقراء فهل يعتبر مغيّراً لشرط الواقف ومطلبه، كلا.
ثم لو أن بعض هؤلاء الفقراء أصبح غنياً فارتفع عنه وصف الفقر، فلم يعطه الناظر شيئاً هل يعتبر قد غير من شرط الواقف أو مطلبه شيئاً؟ كلا.
ثم إن هؤلاء الذين ارتفع وصف الفقر عنهم، لو أنه عاد لهم، ثم عاد الناظر، فأعطاهم أفلا يكون ذلك عملاً بشرط الواقف وقصده؟
إن عمل عمر رضي الله عنه لا يعدو هذه الصورة، ولم يغير ولم يبدّل.
إذا عُلم ذلك فلا يجوز لمسلم أن يقول أن عمراً أوقف حكم الآية، ولا أنه ألغاه فالحكم هو الحكم، وعمر هو عمر الوقّاف عند كتاب الله رضي الله عنه وأرضاه ..
2 -
استدل على دعوى تغيّر الأحكام بتغير الزمان فقال: "مثال آخر: أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء الخروج إلى المساجد للصلاة كما رواه أبو داود بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات" (1).
(1) سنن داود رقم 533، ومعنى تفلة أي غير متطيبة، وتفلة بفتح المثناة وكسر الفاء، وامرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح" فتح الباري 2/ 349.
هذا ما كان في زمن رسول الله، ثم حدث بعد ذلك أن تغيرت حالة النساء وأحدثن ما لم يكن في عصر النبوة، حتى قالت عائشة رضي الله عنها ما رواه أبو داود:"لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما مُنعت نساء بني إسرائيل" قال: "فقد رأت أن ما حدث يقتضي تغيّر الحكم السابق حينما كان الصلاح عاماً والقلوب عامرة بالإِيمان، ولم يوجد الدخل في بعض النفوس فلو استمر الحكم مع تغير الحال لأدى إلى مفسدة عظيمة تزيد على ما يجلبه الخروج من المصلحة من تعليم الدين وإدراك فضل الجماعة ..
ثم ذكر محاورة بين عبد الله بن عمر وابن له رواها أبو داود: قال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائذنوا للنساء إلى المساجد بالليل" فقال ابن له والله لا نأذن لهن فيتخذنه دغلًا والله لا نأذن لهن!! فسبه وغضب، وقال:"أقول قال رسول الله: ائذنوا لهن وتقول: لا تأذن لهن"(1).
قال المؤلف: "ولا غرابة في موقف ابن عمر هذا فذلك موقفه غالباً إزاء النصوص فلم يكن من أهل المعاني عكس والده رضي الله عنه، وذاك ابنه قد سلك مسلك جده من اعتبار المعاني التي شرعت لها الأحكام فيشرح لوالده السبب مع قسمه بالله، فهل ترى أنه يقسم مرتين وهو يسمع قول رسول الله ويرى غضب والده عليه وسبه له من أجل المخالفة من غير فائدة؟ لا شيء إلّا أنه دين الله والمحافظة عليه بدفع المفاسد عنه.
فماذا يقول نفاة التعليل في هذا الموقف؟ لعلهم يتعلقون بأذيال ابن عمر!!! ويقولون مقالته وقد رأوا فساد الأخلاق عم كل مكان وتهتك النساء فاق كل حد وتنطع الشبان بلغ الغاية" (2) ..
مناقشته: نسلم مع المؤلف الرد على نفاة التعليل ونعمل بالقياس والمصلحة التي شهد الشرع لها، ونسلم معه السعي للمحافظة على دين الله بدفع المفاسد عنه، ونخالفه في تحديد الطريق الذي يوصل إلى ذلك، وبيانه:
(1) سنن أبي داود رقم 536، وتعليل الأحكام 38 - 39.
(2)
رسالة تعليل الأحكام 39.
1 -
أن درء المفاسد مطلب شرعي وذلك للمحافظة على الدين، ولكن من أين نعلم أن هذا مفسدة؟ والجواب: من الشارع لأنه كما تقدم لا يستقل العقل بدرك المصلحة والمفسدة، فإذا قلنا هذا مفسدة فلا بد من شهادة الشرع لا نقول، وكذلك إذا قلنا أنه مصلحة.
2 -
موقف ابن عبد الله عمر يدل على أن الخروج إذا ترتب عليه مفسدة يمنع، وهذا لم يدركه بالعقل، بل شهد له الشرع.
وهذه الشهادة موجودة في النص نفسه، ألا ترى إلى اشتراط رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم منع النساء من الخروج - خروجهن غير متزينات حيث قال:"ولكن ليخرجن تفلات" فإذا لم يتحقق الشرط وهو الخروج تفلات لا يؤذن لهن لأنهم لم يلتزمن به.
فمن منع من الخروج علم أن الخروج غير تفلات مفسدة بالنص ..
فالقول إذاً بأن هذا مفسدة ليس اعتماداً على العقل وإنما هو بشهادة الشرع ..
فلا يقال: "فقد رأيت أن ما حدث يقتضي تغير الحكم السابق" لأن الحكم السابق هو: عدم جواز منع النساء من الخروج إلى المساجد إذا خرجن نفلات وأما إذا لم يخرجن كذلك فقد تركن العمل بالشرط الذي يجيز الخروج لهن فيمنعن، وهذا حكم ثابت لم يتغير ولن يتغير إلى يوم القيامة ..
بقي تحقيق المناط هل هذه المرأة تفلة فتخرج أو غير تفلة فلا تخرج .. وهذا وإن تغير فليس هو الحكم .. وإذا تبين هذا سقطت دعوى المؤلف وغيره ممن يعتمد على هذه الآثار في القول بتغير الأحكام بتغير الزمان ..
بقي أن نشير هنا إلى خطأ المؤلف في تصويره لمذهب ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال: "فماذا يقول نفاة التعليل في هذا الموقف، لعلهم يتعلقون بأذيال ابن عمر ويقولون مقالته" وهذا الكلام لا ينبغي أن يقال في حق أحد من
الصحابة، بل الواجب على كل مسلم التأدب معهم.
ومع أن نفاة التعليل لا يملكون هذا فإن ابن عمر ليس ممن لا يتبع المعاني، حاصل ما في الأمر أنه شديد الحرص على المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في مواطن صلاته في سفره ونحو ذلك.
أما أنه معروف بأنه "لم يكن من أهل المعاني" فهذا ليس في النص المذكور دليلاً على ذلك .. ويدل على ذلك أن الصحابة يعملون بقاعدة سد الذرائع .. قال أستاذي الدكتور حسين حامد في كتابه نظرية المصلحة تعليقاً على محاورة ابن عمر لأبيه: "وهذا لا يفسر خلاف الصحابة حول قاعدة الذرائع، فإن أحداً لا يقول بأن الشارع إذا نهى عن مفسدة فإنه يبيح لعباده الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليها، وإلّا كان ذلك تناقضاً، وكان مؤدياً إلى مخالفة مقصود الشارع من دفع المفاسد ما أمكن الدفع، وسد كل طرق الشر ومسالكه، ولكنه يفسر الخلاف - والله أعلم - في تحقيق مناط هذه القاعدة، فبينما ترى عائشة وابن ابن عمر أن الزمن قد تغير، وأن الدين قد ضعف سلطانه على النفوس وأن الخروج إلى المساجد بالليل يتخذ ذريعة إلى المفاسد غالباً، ولذلك يجب أن يمنع محافظة على قصد الشارع الذي عرف من نصوصه، يرى ابن عمر أن العصر الذي يعيش فيه لا زال عصر طهر وعفاف، وأن حصول مفسدة من خروج النساء نادر أو في حكم المعدوم، وأن في شهود النساء المساجد والجماعات مصالح محققة لا تترك لمفاسد معدومة، ولا يمكن القول بأن ابن عمر يجيز خروج النساء إلى المساجد بالليل، وإنْ كثر حدوث الفسق، وغلب وقوع الفاحشة ممن يتذرعن بهذا الخروج إلى أغراضهن الخبيثة، فإن الشارع لا يرضى بالفاحشة ولا يفتح الطرق إلى الفسق قط ..
فالخلاف في تحقيق مناط القاعدة وتطبيقها على الجزئيات (1) .. فابن عمر رضي الله عنهما من أتباع المعاني والمحافظين على نصوص الشرع ومقاصده.
ثم أن اتِّباع الصحابة رضي الله عنهم أمثال ابن عمر وغيره والتمسك
(1) 1/ 231.
بآثارهم ليس فيه مايدعو للعجب، فهم أولى بالاتباع لأن الحق لا يخرج عنهم وكل واحد منهم لنا فيه قدوة.
وأما موقف ابن عمر مع ابنه فهو الحق في بيان أدب التربية والتعلم، فإن طالب الحق مجتهداً أو غير مجتهد إذا تبين له نص أو معنى شرعي يوجب تخصيص نص آخر أو تقييده لا يجيز له ذلك أن يقسم ويصرح بالمخالفة .. بل عليه أن يبين أن ذلك النص قد خصصه أو قيده أو نسخه نص آخر، فإنكار ابن عمر في موضعه فكيف يقال لأحد أن رسول الله أمر أو نهي أو أذن، فيقول لا آذن والله، بل الحق أن يقول أن هذا الأذن له شروط مذكورة في موضع آخر ثم يستكمل الاستدلال هذا بالنسبة لبيان وجهة ابن عمر .. أما ابنه رضي الله عنه فإنما أخذته الغيرة الشديدة على الدين كما قال ابن حجر (1) فحملته على أمر غيره أولى منه وأسلم - والله أعلم.
3 -
حد الخمر: قال مستدلًا على أن الأحكام تتبدل بتبدل المصالح: "حرم الشارع الخمر وبين ما فيها من مفاسد، وما يعقب اجتنابها من مصالح كما سبق بيانه، ولكن ليس كل النفوس تتمثل خوفاً من عقاب أخروي أو رغبة في ثواب كذلك بل منها من لا يزجره إلّا أن يرى العذاب رأي العين، فشرع الشارع الحكيم لمن يشرب الخمر فأمر بضربه كما رواه أبو داود بسند عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي برجل قد شرب فقال: "اضربوه" قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان" وفي بعض الروايات تقدير ذلك بأربعين وفي بعضها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثا في وجهه التراب" وفي بعضها بعد الضرب قال لهم "بكتوه"(2).
وروى البيهقي بسنده إلى عكرمة عن ابن عباس: "أن الشراب كانوا
(1) فتح الباري 2/ 348 - 349.
(2)
معنى بكتوه أي وبخوه، انظر سنن أبي داود رقم 4312.
يُضربون على عهد رسول الله بالأيدي والنعال والعصي قال وكانوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه أكثر منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم هذا فتوخى نحو مما كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر رضي الله عنه فجلدهم أربعين إلى أن قال: ثم كثروا فشاور فقالوا: ثمانين" (1).
والمشاورة رواها البيهقي أيضاً بسنده إلى الزهري قال: " .. أخبرني حميد ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة الكلبي قال: "أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته ومعه عثمان وعبدالرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر رضي الله عنه: هم هؤلاء عندك فاسألهم فقال علي: تراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر بلغ صاحبك ما قالوا" (2).
ثم قال المؤلف تعليقاً على هذه النصوص: "والذي نقصده هو إثبات أنهم فعلوا شيئاً لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعاً لاقتضاء المصلحة، ولا يليق بهم أن يخالفوا فعل رسول الله إلّا إذا علموا أن هذا مقصد الشريعة ففعلهم هذا عين الموافقة، ولكنا سميناها مخالفة في موطن محاجة الخصم الذي لو سلّم معنا هذا المبدأ "مبدأ التعليل وأن بعض الأحكام يتبع المصلحة لما أطلقنا لفظ المخالفة على شيء من فعلهم" (3).
المناقشة: أولًا: إذا كان المؤلف يريد في كتابه "تعليل الأحكام" إثبات
(1) سنن البيهقي 8/ 320 الطبعة الأولى 1354 هـ - وتعليل الأحكام 60 - 61 - 62، وسنن أبي داود 4314.
(2)
سنن البيهقي 8/ 320، وسنن أبي داود 4324.
(3)
تعليل الأحكام 61.
تعليل الأحكام فذلك مسلم، بل هو مذهب أكثر أهل السنّة ما عدا نفاة القياس (1).
ثانياً: أما إذا كان يريد أن يثبت أن بعض الأحكام يتبع المصلحة وأن هذه الأحكام تتبدل بتبدل الزمان وأن هذا إجماع الصحابة فهذا غير مسلّم، وقد مر بيان أن ما استدل به سابقاً لا يدل له البتة.
أما استدلاله بهذا المثال فلا يدل له على دعواه، وبيان ذلك أن هذه المسألة - وإن كان سندها العمل بالمصلحة، إلّا أنها ترجع إلى أصل كلي، وهذه شهادة من الشارع لها بالاعتبار، ولنتعرف الآن على الأصل الكلي وعلى المصلحة المعتبرة هنا، والأصل الكلي -كما مر بيانه- هو أن الشارع اعتبر المظنة في الأحكام أصلاً شرعياً كلياً والدليل عليه الاستقراء، فتأخذ المظنة حكم المظنون (2).
ويبقى النظر بعد ذلك في دخول مسألة "حد الشرب" تحت هذا الأصل فقد تشاور الصحابة فعلموا أن الشرب مظنة القذف فأعطوه حكمه فقال علي - والصحابة له موافقون: "تراه إذا سكر هذى وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر بلغ صاحبك".
فهي مسألة كان لها حد مقدر في الشرع، وإنما كان يطبق الحد المقدّر الذي يتم به الردع والزجر، وورد في بعض الأحاديث أن الصحابة حرزوه أربعين لما سألهم أبو بكر رضي الله عنه عن ضرب النبي صلى الله عليه وسلم (3)، ثم هو أربعين، ثم اجتمع الصحابة وتشاوروا واعتمدوا في ذلك على المصلحة الشرعية التي شهد الشرع لجنسها، فجعلوه ثمانين كحد القذف لأن المظنه تأخذ حكم المظنون ..
(1) انظر ما سبق ص 383.
(2)
انظر المسألة فيما سبق ص 433 - 434.
(3)
سنن أبي داود 4324.
فأين اتباع مجرد المصلحة؟ وأين تغيّر الحكم؟ وليس في النص مخالفة لفعل رسول الله ولا لقوله، ولا يجوز تسميته مخالفة لا في موضع الحجاج ولا في غيره ..
ومن الأسباب التي حملت المؤلف على الدخول في هذه الإطلاقات هو أنه يقارن بين طرفين: الأول القول بإثبات التعليل، والثاني القول بنفيه، وينتصر للطرف الأول دون أن يلتزم بشروطه، فإن مثبتي التعليل من أهل السنّة لا يتبعون مجرد المصلحة وإنما يشترطون أن تكون هذه المصلحة التي يجب اتباعها مصلحة لم يشهد الشارع بردها، فلا بد أن تعرض عليه فينظر فيها أيقبلها أم لا؟
فهم يعللون الأحكام ويعتبرون النظير بالنظير ويعملون بالمصالح المرسلة وهم مجمعون بعد ذلك على رد كل مصلحة لا يقبلها الشرع.
والمؤلف غفل عن هذا وانتصر لمبدأ التعليل، وأدخل معه - شعر أم لم يشعر بخطورة ذلك - قوله "وإن بعض الأحكام يتبع المصلحة".
والواجب أن يقيدها بالقيد الذي اتفق عليه القائلون بالتعليل، أما أن يطلقها هكذا من غير قيد ثم يرتب على ذلك أن بعض الأحكام تتغير بتغيّر الزمان، وأن الصحابة كانوا يبدّلون هذه الأحكام وأنهم مجمعون على ذلك، فذلك أمر لم يثبته بعد، ولا يمكن لأحد أن يثبته لوضوح بطلانه وفساده.
4 -
حد السارق: "يروي لنا مالك في الموطأ بسنده عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطبـ "أن غلمة لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر أراك تجيعهم، ثم قال: والله لأغرمنك غرماً يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: قد كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم، فقال عمر: اعطه ثمانمائة درهم" (1).
"وقد روى ابن وهب هذا الأثر في موطئه مفسراً وفيه: فأمر كثير بن
(1) تنوير الحوالك شرح الموطأ 2/ 220.
الصلت أن يقطع أيديهم ثم أرسل وراءه من يأتيه بهم فجاء بهم لعبد الرحمن: "أما لولا أني أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو وجدوا ما الله لأكلوه لقطعتهم، ولكن والله إذْ تركتهم لأغرمنك غرامة توجعك"(1).
قال صاحب كتاب "تعليل الأحكام": "فانظر إليه وقد ثبت على هؤلاء ما يوجب القطع، وبعد الأمر ينهى عن التنفيذ لما ظهر له ما يدفع الحد عنهم، وهو أنهم جاعوا فأخذوا مال الغير، وذلك لفهمه أن القطع عقاب للجاني من غير حاجة ولو كانت الأحكام كلها ومنها الحدود يتبع فيها النص المجرد لما ساغ له رضي الله عنه وهو من أعلم خلق الله بشرع الله أن يخالف قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ومن أجل هذا المعنى نهى عن القطع عام المجاعة مع أن النص عام شامل لجميع الأوقات"(2).
المناقشة: اشترط الشارع لوجوب القطع شروطاً وهي:
1 -
أن يكون المسروق نصاباً.
2 -
أن يكون من حرز.
3 -
أن لايكون فيه شبهة ملك.
4 -
أن لا يكون آخذه محتاجاً إليه لسد رمقه.
فإذا تحققت هذه الشروط وجب الحد، وإذا تخلف أحدها لم يجب (3).
وعلى كل شرط من هذه الشروط دليل شرعي، فأما شرط النصاب والحرز فظاهر وأما شرط انعدام شبهة الملك والحاجة إليه لسد رمقه فلأن من أخذ مالًا له فيه شبهة ملك لا يعتبر سارقاً لمال غيره، وكذلك من أخذ ما يحتاج إليه لسد رمقه إنما أخذ مالًا له فيه حق، كما سرق غلمان حاطب بن أبي بلتعة وقد كان عمر يظن أنه يجيعهم فلذلك امتنع عمر عن قطعهم لوجود هذه الشبهة (4).
(1) وهو من معنى الأثر السابق - انظر المصدر السابق 2/ 220.
(2)
تعليل الأحكام 62 - 63.
(3)
راجع المسألة في كتاب المغني 9/ 103 إلى 137.
(4)
المغني 9/ 136.
فإذاً الحد الذي أوقفه عمر رضي الله عنه إنما أوقفه لعدم تحقق شروطه التي اشترطها الشارع، بل إن عمر لا يستطيع أن ينفِّذ الحد الذي لم تحقق شروط تنفيذه لأن في ذلك مخالفة للشارع.
فالعموم في آية السرقة لا يصلح وحده لتطبيق الحد بل هناك شروط وردت في السنّة لا بد من اعتبارها، ومن اعتبرها -كما هو صنيع عمر- لا يقال له أنه خالف الآية.
وأيضاً فإن عدم القطع ليس سببه تعلق عمر بمطلق مصلحة أو دفع مطلق مفسدة أو اتباعاً لحكم العقل، بل سببه مراعاة نصوص أخرى وردت في السنّة.
وأما قول صاحب تعليل الأحكام "لو كانت الأحكام كلها ومنها الحدود يتبع فيها النص المجرد لما ساغ له رضي الله عنه، وهو من أعلم خلق الله بشرع الله أن يخالف قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ومن أجل هذا المعنى نهى عن القطع عام المجاعة مع أن النص عام شامل لجميع الأوقات"(1).
فيلاحظ عليه أمران:
الأول: إن كان مقصوده بالنص المجرد النص بدون النظر إلى معناه، فليس ما نحن فيه من هذا القبيل، ذلك لأن النصوص التي وردت في حد السرقة منها ما هو عام كالآية ومنها ما هو مخصص لهذا العموم.
فإذا كانت الآية توجب قطع كل سارق سواء سرق من حرز أو من غير حرز أو سرق نصاباً أو دونه أو تحققت شبهة بسبب ملك أو مجاعة، فإن السنة خصصت هذا العموم فلا يقطع إلّا من سرق نصاباً من حرز مثله بلا شبهة.
فتبين بعدئذ أن النص الوارد في القرآن مخصوص لم يأت لجميع الأوقات بل يستثني منه وقت المجاعة لورود نص آخر يمنع القطع عند تحقق الشبهة.
فيصح أن يقال أن تطبيق الحدود يُتبع فيها النصوص بعد الجمع بينها
(1) تعليل الأحكام 63.
والنظر فيها، ومن فعل ذلك فقد وافق القرآن والسنة كما فعل عمر رضي الله عنه (1).
وأما عبارة المؤلف بأن الحدود لا يُتبع فيها النص المجرد وأن عمر خالف الآية فلا وجه لها. والله أعلم.
الثاني: أن الحكم - وهو وجوب القطع لمن سرق نصاباً من حرز مثله بلا شبهة ثابت إلى يوم القيامة، وأما تحقيق مناطه وهو تطبيقه، فبحسب الحادثة الواقعة فإذا سرق غلمان ناقة بلا شبهة كاضطرار لسد الرمق قطعوا، وإذا سرقوا كما سرق غلمان حاطب لم يقطعوا لتحقق الشبهة، والحكم ثابت مع ذلك لا يتغير.
5 -
استدل على قوله بأن من الأحكام ما يتبع المصلحة ويتبدل بتبدلها بأن "أصحاب رسول الله يعارضون أمره بما يترتب عليه من ضرر يلحق المسلمين بسببه فيقرهم على ذلك صلى الله عليه وسلم من هذا ما رواه البخاري بسنده عن يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة رضي الله عنه قال: خفت أزواد القوم وأملقوا (2) فأتوا النبي في نحر إبلهم فأذن لهم، فلقيهم عمر رضي الله عنه فأخبروه: فقال: يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم، فبسط لذلك نطع وجعلوه على النطع فقام رسول الله فدعا وبرك عليه ثم دعاهم بأوعيتهم، فاحتسى الناس حتى فرغوا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"(3). فقد عارض عمر إذن رسول الله بالنحر بالمصلحة وأقره الرسول على ذلك (4).
مناقشته: إن هذا النص الذي استدل به على جواز معارضة حكم الشرع بالمصلحة مثل النصوص السابقة لا تدل له على شيء من ذلك.
(1) انظر كيفية الاستنباط من الآية في أحكام القرآن لإبن العربي 2/ 615.
(2)
معنى أملقوا افتقروا. انظر فتح الباري 6/ 130.
(3)
فتح الباري 6/ 129 - 130.
(4)
تعليل الأحكام 32.
وقد ادعى الدكتور شلبي هنا دعوى عريضة لا برهان عليها وهي قوله: "ولقد وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره
…
" مع أن كل مسلم يعلم أنه ليس لأحد من المسلمين أن يعارض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} (1).
ويقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2).
وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3).
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (4).
ومعلوم أن الصحابة من أتْبعَ الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. فكيف يقال إنا "وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره".
وهذا المعلوم عن الصحابة من المحكم الذي لا يقبل الجدل .. وأما ما نقله فإنه في الحقيقة لا يعارض ما قررته آنفاً ..
وحاصل ما في هذه الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه القوم في نحر إبلهم فأذن لهم في ذلك، ومثله ما علمناه من الشارع من الإِذن في عمل المباحات، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بعد ذلك أنهم إن نحروا إبلهم لم يبق لهم شيء بعدها
(1) سورة النساء: آية 64.
(2)
سورة الأحزاب: آية 36.
(3)
سورة النور: آية 63.
(4)
سورة الحجرات: آية 1.
فلم يأذن لهم وأمر الناس أن يتصدقوا عليهم، و"توالى المشي ربما أدى إلى الهلاك"(1).
وما فعله عمر إنما هو بيان لحقيقة المسألة، فلما ذكرها للرسول صلى الله عليه وسلم بين حكمها وأمر الناس بالصدقة، فأين المعارضة؟
ثم إننا قد علمنا من السنة في مواضع كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه، فيبينون له حاجتهم واستفساراتهم ثم يجيب عليها حسب الواقعة، ثم إذا تجدد له علم بحقيقة الواقعة بين حكمها بحسب ما يتجدد له، وهذه القصة التي معنا من هذا الباب وهي تدل -كما قال ابن حجر على جواز المشورة على الإِمام بالمصلحة وإن لم تتقدم منه الاستشارة (2).
ألم تر إلى منزله صلى الله عليه وسلم في بدر حيث بين له بعض أصحابه أن هذا لا يصلح منزلًا لقتال القوم فأمر رسول الله باتخاذ منزل آخر، ولم يكن في قول الحباب بن المنذر معارضة لرسول الله.
وكذلك قصة تأبير النخل فإنه أمرهم أن لا يؤبروا النخل، لظنه أن ذلك لا ينفعه فلما علم أن النخل لم يثمر فاشتكى له أصحابه أجاز لهم ذلك وأخبرهم أنه لا يعلم بحقيقة الواقعة حيث قال أنتم أعلم بأمور دنياكم، وهذه الحوادث مشهورة معلومة .. وكذلك ما نحن فيه لم يعلم عليه الصلاة والسلام بأنهم إذا نحروا إبلهم لا يبقى لهم شيء، فلما علم أمر لهم بالصدقة.
وفي هذه الحادثة نفسها لو أن رسول الله أمر بذبح الإِبل - بعد أن بين له عمر أنه لا يبقى لهم شيء - لَمَا عارضه أحد من الصحابة، فكيف يتصور أحد أن في هذا معارضة ..
ومن المعلوم أن المفتي قد يفهم الواقعة التي اسْتُفْتيَ فيها على غير وجهها - إما لعدم العلم بحقيقتها أصلًا أولعدم وضوحها - ثم يفتي فيها بحسب
(1) فتح الباري 6/ 130.
(2)
فتح الباري 6/ 130.
ما فهم فإذا بين له أن الواقعة ليست كذلك بل هي كذا وكذا نظر في حكمها بهذا الاعتبار فكان لها حكم آخر، ولا يقال أن الحكم قد تغير .. ولا يقال أن البيان لحقيقة الواقعة معارضة .. والله أعلم.
ولنأتي بمثال تطبيقي نرد به على القائلين بتقديم المصلحة على النص وهو موقف عمر من أبي بكر في حرب الردة حيث تظهر فيه مقابلة المجتهد النص بالمصلحة التي يحسبها شرعية .. ولننظر أيقبل ذلك منه أم لا؟
روى البخاري بسنده عن عبد الله بن عتبة أن أبا هريرة قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله".
قال أبو بكر: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق"(1).
وقد سأل الناس أبا بكر في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى .. والذين سألوه ذلك إنما أرادوا العمل بالمصلحة، إذ المصلحة في الظاهر إبقاء الجيش ليقاتل مع المسلمين أهل الردة بل إن عمر ظن أن المصلحة في ترك قتال أهل الردة، فلما بين لهم أبو بكر أن ما يرونه إنما هو مخالف لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركوا ماظنوه مصلحة - وهم مجتهدون - وعملوا بما ورد في النص.
وفي هذا دليل على أن المصلحة التي تعارض النص مردودة، وحتى وإن ظن المجتهد أنها مصلحة، وآية قبولها شهادة الشرع لها، فإذا لم يقبلها لم تقبل،
(1) فتح الباري 12/ 275.
فكيف يتصور أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من أحد معارضة النصوص بالمصلحة، التي يدعوا لها هؤلاء الكتاب!
ولذلك لم يقبل أبو بكر من أحد شيئاً من ذلك حتى مع أنهم مجتهدون بل بيّن ووضح، قال الإِمام الشاطبي:"ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم، فكلمه عمر في ذلك، فلم يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال، إذْ وجِدَ النصُ الشرعي المقتضي لخلافه، وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة، فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم"(1).
فهذه القصة تصلح مثالاً لمقابلة المصلحة للنص، وفي النهاية تحمل دلالة قوية على أن المصلحة المقابلة للنص لا عبرة بها حتى وإن كانت من كبار المجتهدين.
وبعد هذا لا ينبغي لأحد أن يتصور أن المصلحة يمكن أن يُعارض بها النص، وأنّ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض أمره - وهو يعلم - بالمصلحة فضلاً أن يقره رسول الله على ذلك، والله أعلم.
ومن المفيد هنا أن نقول إن كل ما في جيل الصحابة رضي الله عنهم ورضوا عنه، موضع للقدوة الباركة، حتى اجتهادهم الذي يعلمون أنه بعد ذلك مخالف للصواب فيرجعون عنه، هو موضع قدوة، لأن فيه معنى الرجوع إلى الحق واطّراح مجرد التفكير البشري، والصبر عن متابعة رغبات النفس وحظوظها.
وما أشد حاجتنا اليوم إلى مثل هذه الأخلاق الإِيمانية والمواقف العظيمة التي لا يتحقق الصدق في الدين إلا بها.
6 -
استدل المؤلف أيضاً على ما سبق - من قوله: إن من الأحكام ما يدور مع المصلحة ويتبدل بتبدلها وأن الصحابة مجمعون على ذلك بما روى
(1) الموافقات 4/ 225.
أبو داود بسنده إلى جنادة بن أبي أمية قال: "كنا مع بسر بن أرطاة في البحر فَأُتيَ بسارق يقال له مصدر قد سرق بختية، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع الأيدي في السفر ولولا ذلك لقطعته" (1) وفي رواية الترمذي والدارمي "في الغزو" بدل السفر"(2).
قال صاحب تعليل الأحكام: "هكذا ورد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرداً من بيان سبب هذا النهي، فماذا فهم أصحابه فيه من بعده؟ أوقفوا عند النصوص وقصروا النهي على حد السرقة، وقالوا إن الشريعة نصوص تعبدنا الشارع بها، أم فهموا أن هذا النهي معلل بعلة قصد به دفع مفسدة عن الأمة أو جلب مصلحة لها؟ "(3)
قال د. شلبي: "ولو تأملت هذه التعليلات في تلك الآثار لوجدت اختلافاً حسب اختلاف الأشخاص، فعمر وزيد رضي الله عنهما عللا بخوف اللحاق، وهذا يكون في الرجل العادي من الجيش، وأبو مسعود وحذيفة لم يعللا بذلك لأن مثل أمير الجيش لا يلحق بالعدو عادة، بل يطمع العدو فيهم ويظهر ضعفهم أمامه إذا أقاموا عليه الحد، وإن كان الكل يلتقي عند شيء واحد وهو لحوق الضرر بسبب ذلك الفعل
…
وهذا التعليل لم يخالف نصاً ولا قياساً ولا إجماعاً، وليس فيه إلا تأخير الحد لمصلحة راجحة، أما من حاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، ومثل هذا التأخير لعارض أمر وردت به الشريعة كما يؤخر الحد عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض، وهو لمصلحة المحدود خاصة، فما بالك بما هو لمصلحة الإِسلام عامة؛ فهذا النوع ورد الحكم فيه غير معلل فعللوه بما يترتب على الفعل من ضرر" (4).
(1) مختصر سنن أبي داود مع معالم السنن للخطابي رقم 4246.
(2)
سنن الترمذي رقم 1474.
(3)
تعليل الأحكام 36.
(4)
تعليل الأحكام 37.
مناقشته: أسلم للمؤلف ما ذكره من هذه الروايات، وأخالفه في النتيجة التي رتبها على ذلك ..
وبيان ذلك: أن المسألة الفقهية وهي "أن الحدود لا تقام في أرض العدو، منقولة عن الصحابة وهو مذهب الأوزاعي وإسحاق وأحمد، وقال الشافعي يؤخره حتى يأتي الإِمام لأن إقامة الحد إليه (1).
واستدل من قال بالتأخير بالأدلة التي سبق ذكرها وهي حجة لهم (2)، وهو الصحيح .. وبقي أن نتعرف على سند هذه المسألة هل هو المصلحة المجردة؟ وهل يؤدي القول بأن الحدود لا تقام في أرض العدو إلى تغير الحكم الذي دل عليه النص الشرعي وهو وجوب إقامة الحدود؟
والجواب أن سند هذه المسألة هو القاعدة المعروفة بقاعدة "سد الذرائع" وهي قاعدة عمل الصحابة والسلف الصالح بها، قال الإِمام الشاطبي: "إن قاعدة الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها وكإتمام عثمان الصلاة في حجه بالناس وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة (3) إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها، مع أن المنصوص فيها إنما هو أمور خاصة كقوله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا. . .} (4).
وقوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} (5).
(1) انظر المغني 308.
(2)
المغني 308 - 309، تعليل الأحكام 36 - 37.
(3)
انظر ما سبق ص 358.
(4)
سورة البقرة: آية 104. وقد كان المسلمون من قولهم: "راعنا" الخير فاستعمله اليهود (0) وهم يقصدون به الشر، يقصدون فاعلًا من الرعونة، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، تفسير ابن كثير 1/ 150 وأعلام الموقعين 3/ 137.
1/ 150 وأعلام الموقعين 3/ 137.
(5)
{فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} 108 - الأنعام.
وفي الحديث: "إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه"(1) وأشباه ذلك وهي أمور خاصة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلا في سد الذريعة" (2).
وهذه القاعدة لها في الشريعة أدلة كثيرة وقد أحصى منها الإِمام ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين تسعة وتسعين وهي تدل على أن وجوب سد الذريعة قاعدة من القواعد الشرعية قال: "وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف"(3).
والاستقراء كما عبر عنه الشاطبي هو"استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ"(4). ومن فوائد هذه القاعدة البناء والتفريع، ذلك أنها تتضمن معنى - وهو السد - وقد اسْتُقرِأت الأدلة من الكتاب والسنّة فأفادت اعتبار الشارع له، بحيث لم يعد المجتهد يحتاج إلى دليل خاص إذا أراد أن يحكم على نازلة خاصة بل يدخلها تحت عموم المعنى
…
يقول الإِمام الشاطبي: "ولهذه المسألة فوائد تنبني عليها أصلية وفرعية وذلك أنه إذا تقررت عند المجتهد ثم استقرئ معنى عاماً من أدلة خاصة واطرد له ذلك المعنى لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تعن بل يحكم عليها وإن كانت خاصة، بالدخول تحت عموم المعنى المستقرئ من غير اعتبار بقياس أو غيره، إذا صار ما استقرئ من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه"(5).
(1) أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه، قال نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه" فنهاه عن سب غير أبيه وأمه لكي لا يتخذ ذريعة لسب أبويه. باب أكبر الكبائر 2/ 83 - صحيح مسلم بشرح النووي.
(2)
الموافقات 3/ 189، 190.
(3)
3/ 137 - 159.
(4)
الموافقات 3/ 188.
(5)
المصدر السابق 3/ 192.
وقرر الإِمام الشاطبي على هذا أن الإِمام الشافعي والإِمام أبا حنيفة يعتبران سد الذريعة، وما وقع الخلاف فيه من المسائل الجزئية لا يدل على عدم اعتبار هذه القاعدة عندهم، بل امتنع دخول بعض المسائل تحتها لوجود عارض يمنع من ذلك (1)، وهذا ما قرره الدكتور حسين حامد حسان في كتابه نظرية المصلحة حيث استند على أدلة كثيرة في بيان أن الشافعي وأبا حنيفة وأحمد يسدون الذريعة فقال:"والخلاصة أن قاعدة الذرائع قاعدة متفق عليها بين الأئمة"(2) ..
فإذا انضاف إلى ذلك عمل السلف بها من الصحابة ومن بعدهم تقرر عند المجتهد أن هذه القاعدة تدخل تحتها مفردات كثيرة ومن هذه المفردات مسألتنا هذه وهي منع إقامة الحدود في أرض العدو، وهذا من تطبيقات سد الذرائع فهو في الأصل فعل مأذون فيه بل يجب تطبيق الحدود إذا تحققت الشروط الشرعية، ومنع تطبيق الحدود في الغزو سداً للذريعة الفساد، وهذا الفساد متحقق إما في لحوق المحدود بالعدو وإما بطمع الأعداء في المسلمين إن كان الحدود أميراً فيهم (3).
فرجوع هذه المسألة إلى قاعدة سد الذرائع المعمول بها عند الصحابة والتابعين والأئمة هو السند الحقيقي لها.
ولا تفتقر بعد ذلك إلى نص خاص ولا قياس ولا إجماع .. فمنع إقامة الحدود في أرض العدو ليس مستنداً إلى مصلحة مجردة، وليس مؤدياً إلى تغير الحكم الذي جاءت به النصوص وهو إقامة الحدود .. بل حاصل ما في الأمر أن إقامة الحدود واجبة وهو حكم ثابت لا يتغير، ومن شروط تطبيقه أن تنتفي الشبهة كما مر سابقاً، وأن تؤخو الحامل والمرضع ولا يكون الوقت شديد الحر أو شديد البرد وأن لا يكون في أرض العدو ..
(1) المصدر السابق 3/ 193.
(2)
226، وانظر 200، 391، 509.
(3)
انظر أعلام الموقعين 3/ 143 - 154 ونظرية المصلحة 227.
وهذه المسائل والتقسيمات ثابتة ومنها ما شهد له نص خاص ومنها ما شهدت له قاعدة سد الذرائع وهكذا .. فلا يقال إن عدم تطبيق الحدود في المجاعة تغير للحكم، وأن الصحابة بدلوا بعض الأحكام وغيروها، ولا أن عدم تطبيق الحدود في الغزو اتبع فيه التعليل الذي أدى إلى تغير الحكم وتبديله، بل هذه المسائل إنما اتبع فيها النص الخاص كما في الأول، وقاعدة الذرائع كما في الثاني، ولا وجه لقول المؤلف وهويستدل بمثل هذه الوقائع، أن من الأحكام ما يتبع المصلحة ويتبدل بتبدلها، وأن ذلك هو فعل الصحابة فكان إجماعاً.
وبعد: فقد تبين لنا من عرض هذه الأمثلة عند المؤلف أنها لا تدل له على ما ذهب إليه، وأنه لم يفرق بين تنقيح المناط، وبين تحقيق المناط الذي هو نظر المجتهد في الواقعة ..
ومثال الأول قول الشارع "كل مسكر حرام" ومثال الثاني قولنا هذا الشراب مسكر.
فإذا نظر الفقيه في شراب ما فعلم أنه مسكر ثم طبق عليه حكم الشارع فعمله هذا يسمى "تحقيق المناط" وهذا يمكن أن يتغير بحسب ثبات الحالة التي أمامه فإذا استقر الشراب على حالته الأولى فكان مسكراً أفتى الفقيه بالحرمة، وإذا تغير فزال الإِسكار عنه - كأن أصبحت الخمر خلاً - فأفتى بجواز استعمالها فإن هذا لا يعد تغيراً في حكم الخمر وهو التحريم، بل هو حكم ثابت.
ومثل ذلك موقف عمر من المؤلفة فإنه إنما حقق مناط المسألة ولم يغير الحكم وهو وجوب إعطائهم، ولم يمنع العمل بالآية (1).
(1) ومثله ما نسبه إلى عمر رضي الله عنه ص 37 - 38. من أنه منع أهل الذمة من الذبح للمسلمين واعتبر هذا العمل من عمر رضي الله عنه مخالفة للنص الذي أجاز حل ذبائحهم وهو قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}.
والظاهر - والله أعلم - أنه لا ارتباط بين الموضعين فحل ذبائحهم لا يلزم منه جواز استخدامهم في الذبح للمسلمين في أسواقهم من دون المسلمين، والاعتماد عليهم في مثل هذه الأمور، حتى يقول أن عمر منع ذلك مخالفاً فيه للآية، فالجهة منفكة كما يقول الأصوليون.