الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم أهل العلم"(1). فإذا انقرضوا جاء أمر الله وأذن سبحانه بانقطاع التكليف.
ومن هنا ندرك ضرورة الاجتهاد للتعرف على مراد الله من نصوص الكتاب والسنة، وندلف بعد ذلك إلى دراسة أهم شروطه، وأقتصر على دراسة شرطين اثنين لقوة أثرها سلبًا وإيجابًا على حقيقة الثبات والشمول، وهما شرط العلم بلغة العرب وشرط العلم بمقاصد الشريعة، إضافة إلى أنهما شرطان ضروريان لتحقق ملكة الاجتهاد كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
المطلب الأول
العلم بلغة العرب
نزل هذا القرآن بلغة العرب كما قال تعالى:
{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (2).
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3).
{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (4).
(1) المصدر نفسه 13/ 293. واختار الحافظ ابن حجر في تفسير المراد بالطائفة ما يقوي اختيار البخاري في هذه الترجمة -وقد نقله عن النووي وعضده- فقال: قال النووي: "فيه -أي الحديث- أن الإِجماع حجة، ثم قال يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالمعروف وناهٍ عن المنكر وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولًا فأولًا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر الله، انتهى ملخصًا مع زيادة فيه" انتهى كلام ابن حجر ثم عضده بدليل آخر. انظر 13/ 295.
(2)
سورة الزمر: آية 28.
(3)
سورة يوسف: آية 2.
(4)
سورة فصلت: آية 3.
وقد استدل الإِمام الشافعي بهذه الآيات فقال: "إن على كل مكلف أن يتعلم من لغة العرب ما يقيم به دينه"(1).
هذا على المكلف في خاصة نفسه، أما عن الذين يريدون أن يخبروا عن حكم الله ورسوله استنباطًا من النصوص فلابد لهم من العلم بلغة العرب ضرورة أن القرآن نزل بلغتهم ولا يمكن الإخبار عن مراد الله من كلامه بأنه قصد كذا أو كذا إلّا بمعرفة لغة العرب ومقاصدها، يقول الإِمام الشافعي في موضع آخر من كتابه:"الرسالة": مؤكدًا المعنى السابق: " .. فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها، وإن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عامًا ظاهرًا يراد به العام الظاهر، ويستغنى بأول هذا منه عن آخره، وعامًا ظاهرًا يراد به العام ويدخله الخاصِ، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه وعامًا ظاهرًا يراد به الخاص وظاهرًا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره.
وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله.
وتكلم بالشيء تعرفُه بالمعنى دون الِإيضاح باللفظ، كما تعرف الإِشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها.
وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة.
وكانت هذه الوجوه التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها وإن اختلفت أسباب معرفتها معرفة واضحة عندها ومستنكرًا عند غيرها ممن جهل هذا من لسانها وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة فتكلف القول في علمها
(1) الرسالة 48 - 49. ونقله الشوكاني في إرشاد الفحول عن الماوردي 252.
تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته كانت موافقته للصواب -إن وافقه من حيث لا يعرفه- غير محمود والله أعلم. وكان بخطئه غير معذور إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه" (1).
وظاهر كلام الإِمام الشافعي أن الملكة شرط، لأن الملكة تتحقق بكثرة الممارسة وإلا فكيف يعرف العام من الخاص، والمطلق من المقيد والعام الذي أريد به العموم .. من لا عنده إلّا حفظ مفردات اللغة، أو القدرة على الحصول عليها من الكتب، ولهذا فلا بد من الملكة القوية كما قال الشوكاني (2).
والملكة قوامها كثرة الممارسة وإدراك المقاصد من الخطاب بعد إدراك مواقعه والتمييز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه" (3).
وهذه تتحقق وإن لم يتمكن من جمع جميع اللغة كما صرح الإِمام الشافعي بأن لغة العرب لا يجمعها إنسان غير نبي كما أن الأحاديث لا يجمعها أحد من علماء الأمة، وإن كان لا يضيع منها شيء على مجموع الأمة (4).
وقد نقل هذا المعنى الإِمام الشاطبي في كتابيه الموافقات والاعتصام ونبه إلى أن مقصود الشافعي أن القرآن في معانيه وأساليبه على ذلك الترتيب الذي جاء في لسان العرب.
قال: "فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يُفهم من جهة لسان العرب كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فَهْم لسان العجم لاختلاف الأوضاع والأساليب، والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة
(1) مسألة رقم 173 إلى 178.
(2)
إرشاد الفحول 252.
(3)
المستصفى مع فواتح الرحموت 2/ 352.
(4)
انظر ما سبق ص 118.
هو الشافعي الإِمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه وكثير ممن أتى بعده
لم يأخذها هذا المأخذ فيجب التنبيه لذلك" (1).
ونبه في موضع آخر في المقدمة الرابعة على المعنى نفسه، وزاد على أن بعض الناظرين في القرآن يحملونه بحسب ما يعطى العقل من الفهم لا بحسب الوضع، وسبب ذلك أنهم لا يسلكون في الاستنباط منه مسلك كلام العرب في تقرير معانيها ومنزعها في خطابها ولا يدركون أنواعه وخصائصه .. فيقعون بذلك في فساد كبير ويخرجون عن مقصد الشارع (2)، وذلك كله مؤد إلى القول في الشريعة بغير علم ومن ثم مؤد إلى تغييرها وتبديلها، وأؤكد هنا ما قاله الإِمام الشافعي ونبه عليه الشاطبي من أن إدراك سعة لسان العرب سبب في إدراك سعة هذه الشريعة ولهذا كان اشتراط العلم بلغة العرب من أعظم شروط الاجتهاد.
يقول الشاطبي: عن اشتراط العلم بالعربية: إن المجتهد لابد أن يقدر على فهم الخطاب ولا يتحقق ذلك إلّا أن يكون معه قدر يفهم به خطاب العرب وعاداتهم في الاستعمال، لأن الشريعة عربية "فلا يفهمها حق الفهم إلّا من فهم اللغة العربية حق الفهم، لأنهما سيان في النمط"(3) والمجتهد مضطر إلى هذا العلم فيتوقف فرض الاجتهاد عليه (4).
والقدر الذي يحدده الشاطبي يدخل فيه العلم بالنحو والتصريف، واللغة وعلم المعاني .. ويستثنى علم الغريب والتصريف المسمى بالفعل وما يتعلق بالشعر من حيث هو شعر كالعروض والقافية، والمقصود بالقدر المحتاج إليه جملة علوم اللسان غير ما استثني (5).
(1) الموافقات 2/ 45 - 46. وانظر الاعتصام 2/ 293 - 294 - 295 - 296 - 297.
(2)
الموافقات 1/ 17 - 18.
(3)
الموافقات 4/ 71.
(4)
المصدر نفسه 4/ 70.
(5)
المصدر نفسه 4/ 71.
وقد أشار الدكتور الأفغاني إلى اشتراط العلم بالشعر لأنه طريق إلى معرفة ألفاظ اللغة ودلالتها (1)، وهو كذلك.
هذا مما يحسن الإِشارة إليه بالنسبة لاشتراط العلم بالشعر دون العلم بالعروض والقافية.
أما علم الغريب: فهو قسمان كما ذكر الأستاذ محمد عبد الله دراز -تعليقًا على الموافقات:
القسم الأول: ما يخل بالفصاحة، فلا ضرورة للعلم به لأنه غير موجود في الشريعة، لأن نص الشرع معجز، والفصاحة من الإعجاز، وإذا لم يكن موجودًا في الشريعة فلا ضرورة للعلم به.
والقسم الثاني: وهو الغريب الذي لا يخل بالفصاحة وهو موجود في القرآن والسنة (2) فلابد من العلم به (3).
وهذا تعليق حسن منه رحمه الله إذ كيف لا يحتاج المجتهد لمعرفة الغريب وقد وجد منه -ما لا يخل بالفصاحة- في القرآن والسنة.
وبعد أن عرفنا القدر المطلوب ننتقل إلى مسألة أخرى وهي: بيان المقصود بالعلم بهذا القدر، هل هو جمعه والإِحاطة به، أم التمكن من معرفته والقدرة على العلم بمقاصده وهو ما يقصده الشاطبي بقوله:"فالحاصل أنه لا غنى للمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب بحيث يصير فهم خطابها له وصفًا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغالب إلّا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب"(4).
(1) الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 168.
(2)
وقد ألف العلماء فيه كتبًا منها كتاب غريب القرآن لإبن قتيبة وغريب الحديث لإِبراهيم الحربي.
(3)
الموافقات هامش 1/ ج 4/ 115، إرشاد الفحول 251.
(4)
الموافقات 4/ 73.
ومن هذا المعنى ما أشار إليه فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين حيث قال في رسائل الإِصلاح ويجب عليه أن يختار على علم عند اختلاف علماء اللغة في قاعدة لغوية أو خاصية أسلوب من أساليب الكلام مما يتغير فهم النص من النصوص الشرعية على كل مذهب (1).
وقد ناقش الدكتور الأفغاني هذا القول بأنه يقتضي تجزؤ الاجتهاد في اللغة، فقد أضاف إلى الشيخ محمد الخضر حسين أنه يقول بأن هذه الدرجة هي درجة الاجتهاد في اللغة، وهو لا يرى أن الأمر كذلك إذ كيف ينتج النظر في بعض قواعد العربية -والترجيح والاختيار لصاحبه درجة الاجتهاد- وهي معدودة محدودة (2).
والجواب: أن مقصوده أن درجة الاجتهاد في اللغة لا تنال إلّا بالملكة والقدرة على الاستنباط والترجيح وفهم المقاصد، وهو مقصود الشاطبي ، أما الجمع والإحاطة فليست شرطًا، وكون مسائل الاجتهاد في اللغة والترجيح محدودة -إن صح- لا يهون من شأنها .. فإن من استطاع النظر والترجيح مجتهد، إذ لا يمكن ذلك إلّا بتحقق الملكة والمقدرة على الاستنباط والترجيح وفهم المقاصد .. وهذا هو الاجتهاد.
والقدرة على الاجتهاد فيها لا يلزم منه الإِحاطة باللغة والبت في جميع مسائلها -فإن ذلك لا يكون لغير نبي كما صرح الشافعي.
فقد يكون المجتهد، عربي الفهم بحيث يصير له فهم خطاب العرب وصفًا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغالب كما كان شأن الصحابة كابن عباس وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم، ومع ذلك يجوز له التقليد في بعض المسائل ولا يوجب ذلك رفع وصف الاجتهاد عنه ولا يمنعه ذلك من أن يكون نظره معتبرًا في الشريعة.
(1) رسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين -الناشر دار الاعتصام- القاهرة 20/ 114.
(2)
الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 169 - 170.
وقد فصل هذا المعنى الإِمام الشاطبي في الاعتصام:
ومنه قوله: "إن المجتهد" إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ أو معنى فلا يقدم على القول فيه دون أن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية، فقد يكون إمامًا فيها ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات، فالأولى في حقه الاحتياط، إذ قد يذهب على العربي المحض بعض المعاني الخاصة حتى يسأل عنها" (1).
ثم ضرب لذلك مثالين:
الأول: ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كنت لا أدري ما {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال
أحدهما: أنا فطرتها أي أنا ابتدأتها" (3).
الثاني: ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه سأل وهو على المنبر عن معنى قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} (4).
فأخبره رجل من هذيل أن التخوف التنقص وأنشد:
تخوف الرجل منها تامكًا قردًا
…
كما تخوف عود النبعة السفن (5)
فقال عمر رضي الله عنه: أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم (6).
(1) 2/ 299.
(2)
فاطر: الآية من أول السورة {الحمد لله فاطر السموات والأرض} .
(3)
الجامع لأحكام القرآن 14/ 319.
(4)
سورة النحل: آية 47.
(5)
البيت في اللسان وبدل "الرجل"، "السير" وهي بمعنى واحد، وتمك السنام أي طال وارتفع، والقرد هو المتراكم بعضه فوق بعض من السِّمَن والنبعة نوع من الشجر يسمى (القسي) والسفن ما ينجر به الخشب، والمعنى أن السير نقص من سنام الناقة الطويل المتراكم .. كما ينقص عود القسي إذا برد بالحديد، انظر اللسان مادة "خوف" 9/ 101.
(6)
القصة مذكورة في الجامع لأحكام القرآن 10/ 110 - 111، والموافقات 2/ 61.
فإذا كان الأمر كذلك تبين مقصود الإِمام الشاطبي باشتراط الاجتهاد في اللغة: وأنه ليس الإحاطة والجمع، وليس الاستقلال بالنظر فيها مطلقًا بحيث لا يحتاج إلى غيره، بل مقصوده: هو أن تكون له ملكة يدرك بها معنى خطاب الشرع وأن يكون في ذلك كالعربي المحض .. وإن احتاج في بعض الأوقات إلى الاستظهار بغيره، كما كان العربي المحض يصنع ذلك، ونخلص بعد ذلك إلى أمور:
الأول: أن تحقق هذه الدرجة مؤد إلى تحقق شمول الشريعة من حيث الاستنباط والتطبيق، لأن المجتهد سينظر فيها بلسان العرب، واتساع لسان العرب في تضمن المعاني والدلالة عليها كما قال الإِمام الشافعي لا يماثله فيه لسان.
فيعرف المجتهد حينذاك العام الذي يراد به ظاهره، والعام الذي يراد به العام، والعام الذي يراد به الخاص، ويستدل على ذلك بالسياق، وبالكلام ينبئ أوله عن آخره وآخره عن أوله. وأن العرب تعرف مراد المتكلم تارة بالمعنى وتارة بالإِشارة وتعرف المعاني الكثيرة من الاسم الواحد، وتطلق الأسماء الكثيرة على الشيء الواحد ..
ويدرك دلالات الألفاظ فيعرف المجمل من المطلق من المقيد، واستنباط المعاني من الألفاظ للقياس عليها (1).
وهذا هو العلم الضروري لتحقيق شمول الشريعة إذ هو قاعدة الاستنباط منها، والمتمكن من هذه القاعدة متمكن من آلة الاجتهاد، مستحوذ على الملكة.
(1) هنا تدخل الشروط الأخرى مثل معرفة طريقة الاستدلال والعمل بالعموم، وإعمال المخصص، وملاحظة السياق، ومعرفة مراد المتكلم ودلالات الألفاظ ونحو ذلك، ولذلك اكتفيت بدراسة هذين الشرطين، معرفة مقاصد العربية ومقاصد الشريعة لتضمنها لبقية الشروط، أما مقاصد الشريعة فسيأتي بيان تضمنها لبعض الشروط في موضعه إن شاء الله.
والتهوين من هذا الشرط سبب في تضييق دائرة الشمول .. ذلك أن من لم يتحقق من هذا الشرط على ما ذكر آنفًا فإنه ينظر في الشريعة نظرًا ضيقًا يكون سببًا في عدم إدراك معانيها، فمثله لا يدرك من ذلك إلّا بقدر علمه، فإن المبتدئ في فهم العربية مبتدئ في فهم الشريعة .. والمتوسط متوسط، فإذا بلغ الغاية في فهم العربية -مع حصوله على الشروط الأخرى- كان بالغ النهاية في فهم الشريعة (1). فلابد إذًا من بلوغ درجة الاجتهاد في اللغة على التفسير السابق، بحيث تكون للناظر ملكة وإن استظهر بغيره.
الثاني: أن هناك من ظن أن في كلام الإِمام الشاطبي حدة في التركيز على شرط العربية، وأنه تارة:"صرح باشتراط معرفة اللغة معرفة اجتهادية عندما اشترط كون المجتهد في صف الخليل وسيبويه لكنه خفف من حدته بعد ذلك وصرح بأن مراده هو أن يضاهي المجتهد في الفقه العربي في فهم المقدار الذي يحتاج إليه لفهم الكتاب والسنة. ."(2). وأنه رجع إلى ما قاله الأصوليون (3).
ولست أرى في كلام الشاطبي ما يحتاج إلى مثل هذا الظن، ذلك أن كلامه متسق مع ما يقصده .. ومع ما قرره الأصوليون أيضًا.
وما تصوره البعض قد أشار إليه الشاطبي حيث قال: "ولا يقال أن الأصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية، فقالوا: ليس على الأصولي أن يبلغ في العربية مبلغ الخليل وسيبويه وأبي عبيدة والأصمعي والباحثين عن دقائق الإعراب ومشكلات اللغة، وإنما يكفيه أن يحصل منها على ما تتيسر به معرفة ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة"(4).
ثم أجاب عن هذا الاعتراض الذي قد يتصوره البعض.
والجواب يتضمن أمورًا:
(1) الموافقات: 4/ 71.
(2)
الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 170 - 171.
(3)
المصدر نفسه 171.
(4)
الموافقات 4/ 72.
1 -
أن الإِمام الشاطبي يريد أن يقول أن الملكة -في فهم خطاب العرب حتى يصبح الناظر في الشريعة كالعربي المحض- شرط في الاجتهاد.
2 -
وأن الملكة في فهم مقاصد العربية غير الإحاطة بالعربية وجمعها وإدراك دقاثق الإعراب ومشكلات اللغة، وليس شرطًا في المجتهد أن يكون كالخليل وسيبويه والأصمعي .. وذلك أنه لا يشترط في العربي أن يعرف جميع اللغة ولا دقائقها ومشكلاتها، ومع ذلك ففهمه للشريعة معتبر (1).
3 -
أن القول بعدم اشتراط الإحاطة والجمع وأن لا يكون الناظر كالخليل وسيبويه لا يعني أنه يبنى على التقليد المحض أو الاكتفاء ببعض الكتب ونحو ذلك (2).
هذا جواب الشاطبي عما قد يتصوره البعض .. ومع أنه ذكر جوابه هذا في الموافقات إلّا أن البعض رأى إِعادة الاعتراض مرة أخرى.
ولننظر الآن فيما قاله الأصوليون:
قال الغزالي في المستصفى: في اشتراط العلم بالعربية: "أعني القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إِلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه
…
والتحقيق فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق في النحو.
بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستولى به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه" (3).
وهذا ما يقوله الشاطبي، فكيف يقال أنه رجع إلى ما قاله الأصوليون!
ويقوي ذلك ما ذهب إليه الشوكاني حيث قال: "الشرط الثاني: أن يكون عالمًا بلسان العرب بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب
(1) مع الشروط الأخرى كما سيأتي وأهمها إدراك مقاصد الشريعة.
(2)
الموافقات 4/ 72 - 73.
(3)
المستصفى مع فواتح الرحموت 2/ 352.
ونحوه ولايشترط أن يكون حافظًا لها عن ظهر قلب .. وإنما يتمكن من معرفة معانيها وخواص تراكيبها وما اشتملت عليه من لطائف المزايا من كان عالمًا بعلم النحو والصرف والمعاني والبيان حتى يثبت له في كل فن من هذه ملكة يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه، فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظرًا صحيحًا ويستخرج منه الأحكام استخراجًا قويًا" (1).
ثم حذر كما حذر الشاطبي: فقال مؤكدًا على اشتراط الملكة:
"ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة مختصراتها أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعد، بل الاستكثار من الممارسة لها والتوسع في الاطلاع على مطولتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث وبعدًا في الاستخراج وبصيرة في حصول مطلوبه، والحاصل أنه لا بد له من الملكة القوية في هذه العلوم، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن"(2).
وبهذا الذي قاله الشوكاني يخرج الناظر في الشريعة من رتبة المقلدين وإن لم يرتفع إلى رتبة سيبويه والأصمعي.
ويؤكد ذلك ما قاله الجويني وهو يتحدث عن إحدى صفات المجتهد وهي العلم بالعربية، يقول:"ولا يشترط التعمق والتبحر فيها حتى يصير الرجل علامة العرب ولا يقع الاكتفاء بالاستطراف وتحصيل المبادئ والأطراف، بل القول الضابط في ذلك أن يحصّل من اللغة العربية ما يترقى به عن رتبة المقلدين في معرفة الكتاب والسنة وهذا يستدعي منصبًا وسطًا في علم اللغة العربية"(3).
وهذه النصوص تجتمع على إفادة معنى واحد وهو أن يكون الناظر في الشريعة
(1) إرشاد الفحول 251 - 252.
(2)
إرشاد الفحول 251 - 252.
(3)
غياث الأمم للإمام الجويني 290 - تحقيق ودراسة فؤاد عبد المنعم ومصطفى حلمي - الطبعة الأولى - دار الدعوة.
وسطًا في العربية بين المقلدين وبين أمثال سيبويه والأصمعي، وذلك بأن يكون له من الملكة ما يرتفع به عن رتبة المقلدين وإن لم يرتفع إلى رتبة أئمة العربية، ويقول في موضع آخر وهو يتكلم عن شروط الاجتهاد:"الاستقلال باللغة العربية فإن شريعة المصطفى متلقاها ومستقاها الكتاب والسنن، وآثار الصحابة ووقائعهم وأقضيتهم في الأحكام وكلها بأفصح اللغات وأشرف العبارات فلابد من الارتواء من العربية فهي الذريعة إلى مدارك الشريعة"(1).
ومقصد الشاطبي هو مقصد الجويني وغيره من الأصوليين ممن نقلت نصوصهم آنفًا وهو أن يكون الناظر في الشريعة مقتدرًا على معرفة مدارك الأحكام ومسالك الحلال والحرام ولا يتمكن من ذلك إلّا من فهم خطاب العرب الذي نزل القرآن بلغتهم، وهذا هو منهج الصحابة كما قال الجويني:"إنا سبرنا أحوال المفتين من صحب رسول الله الأكرمين فالفيناهم مقتدرين إلى مدارك الأحكام ومسالك الحلال والحرام ولكنهم كانوا مستقلين بالعربية، فإن الكتاب نزل بلسانهم، وما كان يخفى عليهم من فحوى خطاب الكتاب والسنة خافية"(2). والحديث هنا عن جماعة الصحابة رضي الله عنهم، فإن اللغة لا تضيع من مجموع الأمة في عصر من العصور كما قال الإِمام الشافعي .. وأما عن أحدهم فلا يتمكن منها غير نبي، وقد مر ما نقلته عن الشاطبي من أن المجتهد في اللغة قد يرجع إلى غيره إن أشكل عليه وذكر من فعل الصحابة ما يدل على ذلك، ويفسر كلام الجويني بالاستقلال هنا وأنه في معنى كلام الشافعي والشاطبي قوله:"إن اشتراط المصير إلى مبلغ لا يحتاج معه -أي المجتهد- إلى طلب وتفكر في الوقائع محال .. "(3). وفي معنى الطلب المشاورة التي أشار إليها الشاطبي، حيث بين أن المجتهد يحتاج إلى المشاورة لغيره والاستظهار بما عنده، وظاهر من مجموع كلام الجويني اشتراط الملكة التي تعين
(1) المصدر نفسه 286.
(2)
غياث الأمم للإِمام الجويني 292.
(3)
المصدر نفسه 291.
على فهم الخطاب، ومن هنا نجد الفارق بين قوله:"وهذا يستدعي وسطًا في علم اللغة والعربية" وبين قول ابن السبكي في وصف المجتهد بأنه: "ذو الدرجة الوسطى لغة وعربية"(1). إذ أنه لا يشترط الملكة خلافًا لأبيه فقد صرح باشتراطها، فقال:"المجتهد هو من هذه العلوم -ومنها العربية ملكة له وأحاط بمعظم قواعد الشرع ومارسها بحيث اكتسب قوة يفهم بها مقصود الشارع"(2).
وأجيب عن شبهة أخرى عرضت للمعترض على ترتيب الشاطبي في الموافقات وهي أن الشاطبي سوى بين العربي وبين المجتهد في اللغة العربية وبين المجتهد في الفقه بالنسبة لفهم اللغة واستعمالها، ويعتبر هذا تنقيصًا لمرتبة المجتهد في اللغة (3).
والجواب: أن التسوية التي يريدها الشاطبي هنا هي التسوية في إدراك مواقع الخطاب وفهم مقاصده، وهم لا شك يستوون في الحصول على الآلة التي تمكنهم من ذلك، فالعربي المحض بسليقته والمجتهد باجتهاده
…
وهذا الاجتهاد الذي يطلبه الشاطبي، أمّا أن لكل منهم مزايا خاصة ودرجات فهذا لم ينكره الشاطبي، ألم تر إلى قوله فيما سبق أن المجتهد يلزمه الاستظهار بغيره إذا أشكل عليه كما صنع عمر وابن عباس رضي الله عنهما، فالمجتهدون في اللغة عنده درجات كما أن فهم العرب الخلص درجات، فالتسوية التي أرادها الشاطبي محددة المعنى وهي التسوية في التمكن من فهم مواقع خطاب الشرع .. وهو معنى ما ذكره الشوكاني وغيره من التمكن من الملكة .. أما في غير ذلك فلم يقل الشاطبي شيئًا بل ميز بين مراتبهم، وليس في هذا تنقيصًا بهذا الاعتبار.
(1) حاشية البناني مع جمع الجوامع 2/ 383 - شرح الجلال المحلي -الطبعة الثانية - مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
(2)
المصدر نفسه 2/ 383.
(3)
الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 171 - 172.
والحاصل أن شمول الشريعة وإدراك أحكامها لا يمكن أن يتحقق إلّا من مجتهد من أبرز شروطه أن تكون العربية ملكة له بحيث يدرك سعة لسان العرب ويفهم خطابها ولا يجهله، وأن ما أكد عليه الشاطبي وأبرزه واهتم به هو مذهب الأصوليين أمثال الشافعي والجويني والسبكي والغزالي والشوكاني، وبهذا يتحقق الناظر في الشريعة من معانيها ويدرك شمولها ويحققه في واقع الناس .. ويدرك في المقابل ثباتها ولايضرب بعضها ببعض ويسعى في تغييرها وتتناقض معانيها بين يديه لتفريطه في فهم مواقع خطابها ويرجع سبب ذلك في بعض الأحيان إلى تفريطه في حيازة الملكة في فهم العربية، وعدم الاستظهار بغيره عند الحاجة. أما إن قدر على الملكة -وإن لم يجمع مفردات اللغة- فإنه قادر بمشيئة الله على فهم شمول الشريعة حين الاستنباط منها محافظاً على ثباتها .. ولا ينقص من قدره أن يستظهر بغيره من علماء العربية إذا جهل منها شيء، وسيكون ذلك هو طريقه إلى تحقيق مهمة الاستنباط في سلامة من القصور في فهم الشريعة بحيث لا يعجز عن إدراك سعة معانيها، وفي سلامة من الزيادة عليها بما ليس منها بحيث لا يناقضها ولا يضادها.
واشتراط الملكة دون الاحاطة والجمع والاشتغال بالدقائق مع جواز الاستظهار بالغير عند العجز .. هو السبيل الذي يحقق السلامة من القصور والزيادة.
فلا الناظر يفقد الملكة بحيث لا يفهم معاني الخطاب ويختلط عليه العام والخاص والمطلق والمقيد .. ويفقد مع ذلك الضوابط التي يتحصن بها في الاستدلال فيحل الحرام ويحرم الحلال ويضيّق الواسع ويقول على الله بغير علم ويضطرب في فهم الشريعة ويقع في سوء جهله ويوقع من تابعه على ذلك .. كما ستأتي الإِشارة إليه من أمثال الذين وقعوا في مخالفة الإِجماع وغرائب الآراء يزعمون أنهم يجتهدون في فهم الشريعة، وهؤلاء تنقصهم الآلة، فلا هم حازوا الملكة في فهم الخطاب ولا هم إلتزموا بالضوابط التي تبنى على علم العربية كما
أشار إلى ذلك الإِمام الشافعي في رسالته في أصول الفقه، ومن ثم خلطوا الشريعة الربانية بأهواء البشر بسوء صنيعهم هذا.
فلا بد إذاً من الملكة .. ولكي تكون في الإمكان لا نشترط الإِحاطة .. بل للناظر أن يستظهر بغيره فيما أشكل عليه وأعوزه، وهنا يستطيع أن يدرك مقاصد العربية ومن ثم يدرك مقاصد الشريعة، فيؤتي الاستنباط ثماره محققاً شمول الشريعة وثباتها، فلا نحن أقفلنا باب الاجتهاد وجعلناه من المستحيلات بحيث نوجب الإحاطة بعلم العربية ولا نحن تركنا الحبل على الغارب بحيث يدخل فيه كل دعي وإن جهل، وإلى الحديث عن الشرط الثاني وهو العلم بمقاصد الشريعة.
المطلب الثاني
معرفة مقاصد (1) الشارع
وهذه المعرفة هي التي تؤهل الناظر لدرجة الاجتهاد، يقول الإِمام السبكي:"المجتهد هو: "من هذه العلوم ملكة له وأحاط بمعظم قواعد الشرع ومارسها بحيث اكتسب قوة يفهم بها مقصود الشارع" (2).
(1) المقاصد جمع مقصد، وتقول قصدت إلى الشيء إذا طلبته، وقصد في الأمر قصداً توسط وطلب الأسدّ ولم يجاوز الحد، المصباح المنير 608، فمقاصد الشارع مطالبه، وعلى المجتهد أن يتعرف عليها ليعمل بها ويقف عند حدودها وقد صنف في الباب الجويني والغزالي والعز بن عبدالسلام والقرافي وابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ولم يبلغ أحد منهم مبلغ الشاطبي في الموافقات فهو بحق فارس هذا الميدان لم يسبقه أحد في تقريرها كما قررها هو ولم يلحق به أحد بعده إلى الأن، انظر في هذا رسالة الدكتوراه: المقاصد في العقود 73 وما بعدها للدكتور عثمان المرشد -قسم المخطوطات- جامعة أم القرى - المكتبة المركزية. وليس المقصود هنا تفصيل ما ذكره العلماء في باب المقاصد وإنما نريد بيان أهميتها في صحة الاجتهاد ووجه ارتباطها باشتراط العربية، وفيما سيأتي من الموضوعات أمثلة توضح ذلك في كل موضع بما يناسبه إن شاء الله.
(2)
حاشية البناني على جمع الجوامع 2/ 383.
والوسيلة التي يكتسب بها قوة يفهم بها مقصود الشارع هي جملة معارف أشار إليها الأصوليون (1).
فإذا اكتسب هذه المعارف كمعرفة الكتاب والسنة وقواعد الشريعة وأصول الفقه والعربية .. لكن لم يتمكن بعد اكتساب هذه المعارف من فهم مقاصد الشريعة لأن تلك المعارف لم تصبح له ملكة فإنه والحال كذلك لم يبلغ درجة الاجتهاد.
وقد تبين عند دراسة أثر العلم بالعربية على إدراك شمول وثبات الشريعة أن المقصود هنا هو تحقق الملكة لا مجرد الحفظ والنقل وكذلك القول عند ذكر الشرط الثاني وهو معرفة مقاصد الشريعة وقبل النظر في أثر علم المقاصد على إدراك ثبات وشمول الشريعة، نشير إلى وجه الربط بين اشتراط علم العربية وعلم المقاصد، ووجه الربط بيخهما: أن من اتبع معهود الأميين وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم علم أن العرب تجمع بين اعتبار المعاني واعتبار الألفاظ، ولا ترى للألفاظ تعبدًا بحيث تهدر معها المعاني، كما أنها لا تعتبر المعاني فقط وتهدر الألفاظ، بل تبني على أحدهما مرة وعلى الآخر مرة.
وقد استدل الإِمام الشاطبي على ذلك في كتابه الموافقات (2) بأن العرب جرت في كلامها على الاستغناء ببعض الألفاظ عما يراد منها أو يقاربها في المعنى بشرط أن يستقيم المعنى وذلك يدل على أنها لا تعتبر الألفاظ وحدها وإنما تعتبر
(1) أشرت من قبل ص 278 - 245 إلى وجه الربط بين علم العربية وقواعد أصول الفقه. وذكرت من كلام الإِمام الشافعي في الرسالة ما يدل على ذلك، وهنا أشير إلى أن إدراك المقاصد فرع عن النظر في مجموع أدلة الكتاب والسنة والتمييز بين ما تصح نسبته إلى الشرع وبين ما لا تصح نسبته إليه، والنظر في مواضع الإِجماع واستعمال القياس، وهذا يؤكد ما قلته سابقًا من أن هذين الشرطين لهما من الأهمية المكان الأسمى، وذلك لتضمنهما لبقية الشروط ولأن تحققهما دال على وجود الملكة عند الناظر في الشريعة، فإذا علم مقاصد العربية ومقاصد الشريعة فقد حاز الملكة أحاط بالمفردات أم لا، وإذا لم يعلمهما لم يظفر بالملكة وإن حفظ من المفردات ما حفظ.
(2)
2/ 56.
المعاني مع مراعاتها للألفاظ بحيث إذا لم يجر المعنى على استقامة لم تستبدل لفظاً بلفظ آخر، فالعبرة عندها بمجموع الأمرين معاً ولا تلتزم أحدهما وتهمل الآخر والعبرة بمراعاتها هذا أو ذاك أو مجموعهما هو جريان المعنى على استقامة.
ولذلك أمثلة كثيرة في كلامها منها:
1 -
ما حكاه ابن جني عن عيسى بن عمر وحكاه غيره أيضًا قال: سمعت ذا الرمة ينشد:
وظاهر لها من يابس الشخت واستعن
…
عليها الصبا واجعل يديك لها سترا (1)
فقلت: أنشدتني من بائس، فقال: يابس وبائس واحد (2)، فلم يعبأ بما بينهما من الاختلاف لما جرى معنى البيت على استقامة وكان صواباً على كلا الوجهين.
2 -
وعن أحمد بن يحيى قال أنشدني ابن الأعرابي:
وموضع زير لا أريد مبيته
…
كأني به من شدة الرّوع آنس
فقال له شيخ من أصحابه: ليس هكذا أنشدتنا "وموضع ضيق" فقال سبحان الله تصحبنا منذ كذا وكذا ولا تعلم أن الزير والضيق بمعنى واحد؟
3 -
ومن ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف، وقد تفاوتت بعض القراءات وقرأ بها القراء - وهم يعتقدون أنهم قارئون للقرآن - وإن بدى بينها أول النظر اختلاف في المعنى - وسبب ذلك أنهم علموا أن الكلام جار على استقامة بحسب المقصود منه ومن أمثلة ذلك:
(1) البيت في ديوان ذو الرمة غيلان بن عقبة العدوي رقم 1430 - شرح أبي نصر الباهلاني تحقيق الدكتور عبد القدوس أبو صالح 1393 هـ من مطبوعات مجموعات اللغة العربية بدمشق، والشخت هو ما دق من الحطب، وظاهر لها أي أعنها باليابس منه، ويقصد "النار".
(2)
بائس بمعنى يابس، واليبس والبؤس واحد وانظر القصة في المصدر السابق رقم 1430.
{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} (1).
(ب)(لنثوينهم من الجنة غرفًا).
{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} (2).
وجميع ذلك لا تفاوت فيه من جهة المعنى بل هو جار على استقامة بحسب القصد الشرعي كما هو ظاهر من معنى الآيات، والقرآن في ذلك جار على معهود الأميين من العرب في اعتبار المعاني والمقاصد - دون أن ترى للألفاظ تعبداً وإن كانت تراعيها والعبرة بجريان المعنى على استقامه (3).
ولا يستقيم للمجتهد أن يدرك المعنى الشرعي للنص حتى يلاحظ مجموع
الأمرين معاً فلا هو يقف عند مجرد التعبد بالألفاظ فيفوته مقصد الشارع - الذي يعرف من مجموع نصوصه - ولا هو يتبع المقاصد في ظنه وإن خالفت النصوص فيهدر الألفاظ ولا يهتم بجريان المعنى على الاستقامة بل ينبغي عليه ملاحظة الأمرين معاً ولا يعكر على هذا المعنى ما قرره الإِمام الشاطبي في موضع آخر تسهيلاً منه لتحقيق مهمة الاجتهاد - إذا تعلق بالمعاني والمقاصد مجردة عن النظر في النصوص أومسلمة من المجتهد - كأن أدركها مترجمة له ففهم مقاصد الشريعة من وضع الأحكام وبلغ فيها رتبة العلم بها صح منه الاجتهاد وكذلك إذا أخذ الناظر المقيس عليه (4) مسلمًا فإنه لا يحتاج إلى النظر في مقتضيات الألفاظ.
(1) سورة البقرة: آية 9 - النشر في القراءات العشر 2/ 207 - للحافظ ابن الجزري المتوفى 833 طبعة دار الفكر أشرف على تصحيحه الأستاذ علي محمد الضباع.
(2)
سورة العنكبوت: آية 58. المصدر السابق 2/ 343 - 344.
(3)
الموافقات 2/ 56 - 57 - 58.
(4)
المقيس عليه هو الركن الأول في القياس ويسمى الأصل مثاله كون الخمر وهي المقيس عليه حرمت لأجل الإِسكار فهذا يعرف بالنظر في الألفاظ الشرعية التي حرمت الخمر، فإذا أخذ الناظر حكم المقيس عليه مسلماً ثم قاس غيره عليه فإنه لا يحتاج إلى النظر في تلك الألفاظ الشرعية.
وقد ضرب الإِمام الشاطبي لهذا النوع من الاجتهاد أمثلة: منها اجتهادات ابن القاسم وأشهب في مذهب مالك، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة، والمزني والبويطي في مذهب الشافعي، فإنهم فرعوا المسائل على أصول المذهب على ما فهمه أئمتهم من ألفاظ الشريعة، وعملوا بمقتضى ذلك سواء خالفوا المذهب أم وافقوه، ويعلل الشاطبي صحة هذا النوع من الاجتهاد، بمجموع أمرين:
الأول: أنهم اعتمدوا على معرفتهم لمقصد الشارع من وضع الأحكام ولذلك حل لهم الاجتهاد.
الثاني: أنه لم ينكر عليهم أحد من أهل العلم .. وذلك دليل على صحة الاجتهاد منهم.
والنتيجة التي يصل إليها الشاطبي أن من بلغ في فهم مقاصد الشريعة مبلغهم صح الاجتهاد منه في هذا النوع المشار إليه، وإن لم يبلغ في كلام العرب مبلغ المجتهدين، وأما من بلغ في هذه مبلغهم فله الاجتهاد على الإِطلاق (1).
وإنما قلت أنه لا يعكّر على ذلك، لأن الجهة منفكة، ففي الموضع الأول: لم يكن أحد يستطيع أن يدرك لزوم اتباع المعاني والعلل والمقاصد وهو واقف عند حدود الألفاظ لا يتعداها، إلّا إذا سلم أن العرب الأولين -الذي نزل القرآن بلغتهم ومعهودهم- كانوا لايقفون عند حدود الألفاظ بل يعتبرون المعاني ويقدمونها مع مراعاة المحافظة على اللفظ.
ومن هنا كان وجه الربط بين إدراك وجوب اتباع المعاني وبين معرفة لغة العرب ومعهودهم وقد نزل القرآن بلسانهم. أما الموضع الثاني: فإن من أدرك معهود العرب من لغتهم وسلّم به فإنه قد لا يحتاج إلى لغة العرب في موضع من مواضع الاجتهاد فإذا أراد أن يعمل المقاصد -وقد علمها مجردة عن الألفاظ -كان ترجمت له أو أراد أن يعمل القياس- وقد أخذ المقيس عليه مسلماً- فإنه
(1) الموافقات 4/ 105 - 106.
يستطيع أن يجتهد في مثل هذه المواضع دون الرجوع إلى مقتضيات الألفاظ كما قرر ذلك الإِمام الشاطبي.
وأنتقل بعد ذلك إلى أمر آخر يبدو لنا فيه بوضوح أثر اعتبار المقاصد والعلل على إدراك الشمول والثبات.
فقد احتد الخلاف بين أتباع الظواهر وأتباع المقاصد والعلل -وهم أصحاب الرأي- وقد عرض الإِمام ابن القيم ما يقارب مائة صفحة أو تزيد لمقابلة أدلة الفريقين بعضها ببعض - ونقتصر هنا على مختصر لتلك المناظرة الطويلة نعرضها هنا لا من كلام ابن القيم بل من كلام الشاطبي فإن كلامهما في هذا الباب بعضه من بعض (1) وإليك هذه المناظرة كما يعرضها الشاطبي والتي تظهر منها حاجة المجتهد لفهم المقاصد واتباعه لها لكي يدرك شمول الشريعة في غير ما إفراط ولا تفريط.
يتحدث رحمه الله عن من اتبع المصالح وأعمل القياس على الإطلاق ومن خالف في ذلك بحيث أن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام اطرد له في جملة الشريعة اطراداً لا يتوهم معه في الشريعة نقص ولا تقصير بل على مقتضى قوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2).
فصاحب الرأي يقول: الشريعة جاءت بمصالح العباد في العاجل والآجل ودرءت عنهم المفاسد، دل على ذلك الاستقراء (3) فكل نص جاء مخالفاً فليس بمعتبر وقد شهدت الشريعة بما يعتبر وما لا يعتبر على وجه كلي عام، فيعمل بهذا الكلي في مقابل ذلك النص الجزئي.
(1) محل المقارنة بين ما كتباه سيكون في فصل القياس وأثره على الثبات والشمول إن شاء الله.
(2)
سورة المائدة: آية 3.
(3)
سيأتي إجراء الاستقراء عند دراسة موضوع القياس.
والظاهري يقول: إن مصالح المكلفين تجري حسب ما أجراه الشارع لأن الشريعة جاءت للابتلاء، فإذا اتبعنا مقتضى النصوص تيقنًا من الإصابة وقد تعبدنا الشارع بذلك، وأما اتباع المعاني فرأي، ما خالف النص منه غير معتبر لأنه خاص مخالف لعام الشريعة (1).
وبعد أن عرض منهج الفريقين علق عليه بقوله: "فأصحاب الرأي جردوا المعاني فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات الألفاظ، والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة"(2).
والمنهج الوسط كفيل بمشيئة الله أن يؤدي إلى إدراك متوازن لمفهوم الثبات والشمول .. فلا يهدر المجتهد الألفاظ على حساب القياس واتباع المصالح .. ولا يهمل المقاصد ويجمد على الألفاظ، ولهذا يرى الإِمام الشاطبي أن الوقوف عند ما يريده كل فريق مؤد إلى إشكال في المسألة ويقرر وجوب الجمع بين مرادهما ليتحقق الاجتهاد بلا إشكال ولا احتمال، وذلك بأن "يخوض - الناظر - فيما خاض فيه الطرفان، ويتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية، بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر، فلا هو يجري على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين"(3).
(1) الموافقات 4/ 151 بتصرف بسيط في اللفظ.
(2)
الموافقات 4/ 151.
(3)
الموافقات 4/ 152 وهذا يشمل أنواع الاجتهاد التي سبق الحديث عنها، ومن خاصية هذا المجتهد أمران:
الأول: أنه يحقق المناط الخاص، بحيث يجيب كل مكلف على حالته على الخصوص.
الثاني: أن يجيب ويعلّم ويربي وهو ملاحظ للمآلات، وهي ما يترتب على الجواب والفتوى من مصالح أو مفاسد.
ومقصد الإِمام الشاطبي أن الناظر بعد أن يبدأ في تنقيح المناط أو تخريجه ملاحظاً الجمع =
ثم قال عن هذه المنزلة -وهي الجمع بين المعاني وخصوصيات الألفاظ مميزاً لها عن الرتبة التي فيها الظاهري وصاحب الرأي- قال: "وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها، وحاصله أنه متمكن فيها حاكم لها غير مقهور فيها
…
ويسمى صاحب هذه الرتبة الرباني، والحكيم، والراسخ في العلم، والفقيه .. " (1).
وظاهر بعد هذا البيان أن من هو في هذه المرتبة من الاجتهاد محتاج إلى العلم بالعربية حتى يعرف مقتضيات الألفاظ فلا يهدرها، وإلى معرفة مقاصد الشريعة حتى يعرف مراد الشارع فلا يضيق سعة الشريعة، بل يدرك شمولها ويحققه في خصوصيات الوقائع ويحافظ على ثباتها فلا يهدر خصوصيات الألفاظ ولا يضيع مقاصدها ولايضرب بعضها ببعض فيقع في التغيير والتبديل، ولما تحقق لفقهاء الصحابة - رضوان الله عليهم - هذان الشرطان تحقق لهم بالتالي إدراك شمول الشريعة وتحقيقه في واقع الناس، وسيأتي معنا عند الحديث عن طرق الاجتهاد ومنها الحديث عن المصالح، وذلك في المسائل التي لم ينزل بخصوصها حكم معين مثل تضمين الصناع وقتل الجماعة بالواحد وجمع القرآن .. وكثير من أمثال هذه المسائل التي لم يقفوا أمامها دون نظر واجتهاد، بل نظروا في الشريعة معتبرين لمقاصدها غير مهملين لألفاظها فوجدوا ضالتهم وحققوا شمول الشريعة وحافظوا على ثباتها.
وهذا العمل استمر قائماً في الأمة في جل أزمانها .. وما تزال في حاجة إليه لمعرفة مراد الله سبحانه، وعلى من تأهل للنظر أن يكون شديد الحرص على إتقان العلم بهذين الشرطين فإن إدراكهما هو السبيل الوحيد لإِدراك شمول الشريعة في خصوصيات المسائل وثباتها في توازن واتساق.
وأضيف هنا ما أشار إليه الدكتور المرشد من أن العلم بالمقاصد معين
= بين المعاني وخصوصيات الألفاظ - أويأخذ ذلك مسلمًا ثم يبني عليه، بعد ذلك ينتقل إلى مرحلة تحقيق المناط الخاص ومراعاة مآلات الأفعال.
(1)
المصدر نفسه 4/ 152، 153.
للمكلف على ترتيب المناط الخاص ومعين للمجتهد لدفع التعارض الذي قد يتوهمه في بعض الأحيان، كما أن معرفتها طريق إلى معرفة حكم الشرع في آحاد أفعال المكلفين لا في باب واحد من أبواب الفقه بل في جميع الأبواب، فإن الشارع أراد من المكلف أن يجعل قصده موافقاً لقصد الشارع في جميع تصرفاته (1).
وأختم هذا الحديث عن المقاصد بأن العلم بها كما أنه هو الطريق إلى تحقق ملكة الاجتهاد كذلك هو الطريق لإدراك الإِعجاز التشريعي وسبب من أسباب زيادة الإِيمان (2)، وبعد معرفة أهمية العلم بالمقاصد الشرعية واللغوية وأثر
(1) المقاصد في العقود 56 - 57 - 62.
(2)
وأؤكد هنا أهمية العلم بالمقاصد في زيادة الإِيمان وهي من معنى قوله تعالى: {فإذا تليت عليهم آياته زادتهم "إيماناً" وعلى ربهم يتوكلون} الأنفال - 2، فالفقه بمقاصدها من أسباب زيادة الإِيمان، وأما القول بأن الإعجاز التشريعي - الذي تعتبر المقاصد مادته هو أصل لدعوة الكفار إلى الإِسلام بل هو أنفع من الإعجاز اللفظي والاستناد إلى أن القرآن يصل إلى أسماع أقوام كثيرين لا يقدرون على التعرف على الإِعجاز اللفظي، قول تحمل عليه حسن النية ولا تسعفه الحجة، والذي أريد مناقشته هنا هو كون الإِعجاز التشريعي أصل الدعوة إلى الإِسلام - وأسلم ابتداء بكونه طريقاً معيناً ومقويًا ومفيداً .. أما كونه أصلاً فلا ذلك أن الإعجاز اللفظي له دلالة، والإِعجاز التشريعي له دلالة، ودلالة الأول تجعله أعظم وأنفع .. فإن دلالته تتضمن إثبات توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وهي أول ما يدعى إليها الكفار، بل هي الطريق المثمر .. وهي دعوة الرسل .. فإن الإنسان لايؤمن بأن الله هو إله لأنه حرم الخمر وهي مضرة، أو حرم الربا لأنه يجعل الأموال دولة بين الأغنياء ولا لأنه حرم كذا وأحل كذا .. فإن هذا لا ينفع الفطرة التي اجتالتها الشياطين، والفرض أن الفطرة التي نريد أن ندعوها للإيمان بالإسلام، في حاجة -لكي تؤمن بألله سبحانه- أن تدرك حقاً توحيد الربوبية وهي أن الله هو الخالق والرازق والمدبر والمتصرف والمهيمن وهو الذي بيده مقاليد السموات والأرض ودليل ذلك هو هذا الكون المخلوق والإنسان المخلوق .. وهذه هي طريقة القرآن، وهي طريقة ثابتة لأنها مبنية على اعتبار أن فطرة الإنسان إذا أوقظت تبين لها على وجه اليقين أن الخلق له دلالة حسية وهي أن من يُخْلَقْ لا يمكن أَنْ يَخْلُقْ .. وأنه لا بد له من خالق تظهر صفاته في هذا الكون فهذا الخلق يحتاج إلى قدرة .. فخالقه إله =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قادر .. ويحتاج إلى علم فخالقه إله عليم .. ويحتاج إلى إبداع وحكمة فخالقه مبدع حكيم .. ويحتاج إلى تدبير وتصريف وهيمنة فخالقه إله مدبر متصرف مهيمن
…
ولا يمكن أن يقوم هذا الكون إلّا بإله واحد لا شريك له: {لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا} الأنبياء - 22 .. وهكذا على طريقة القرآن في الدعوة إلى الإِيمان .. هذا هو الأصل وهذه هي دلالة الإِعجاز اللفظي .. فهي إذا أشمل وأعمق من دلالة الإِعجاز التشريعي .. وطبيعة الدعوة في القرآن قائمة على هذا الاعتبار .. وثمرتها أن الإِسلام عقيدة وشريعة يفهمه السامع من أول الأمر ويدركه بلا لبس ولا غموض .. ونذكر بعض الأسباب الذي تؤكد هذا الذي نقوله:
1 -
إن الإقناع بمجرد الحكم -وهو الإِعجاز التشريعي- لا يقطع المحاجة والخصومة ولا يقطع النزاع، لأن المصلحة المرجوة جلبها من الحكم أو المفسدة المدفوعة في الغالب لا تكون خالصة كما قرره الشاطبي في الموافقات 2/ 16 - 17 - 18. فإذا أراد الخصم أن يتعرض للحكمة بالتشويش أمكنه ذلك. أما اذا اعتمدنا طريقة القرآن التي أشرنا اليها آنفاً لم يمكنه ذلك لأن المطلوب منه الإِيمان، أدرك الحكمة أم لم يدركها.
2 -
إنّ هذا الطريق التي ترجى منفعته قد أدى خلاف ما ينتظر منه أصحابه فهل ضل كثير من المسلمين الا بتشويش الكفار عليهم من مستشرقين وغيرهم بحيث اعترضوا على كثير من الأحكام واتخذوها ذريعة لتشكيك المسلمين في دينهم.
3 -
ثم إذا سلمنا بأنه طريق عظيم من طرق الدعوة .. فماذا نصنع بالأحكام التي لم تُعرف حكمتها، كيف نقنع بها ما لم نحدثه عن دلالة الإِعجاز اللفظي.
4 -
ما يلزم على هذا الطريق من الحرج على الداعية والمدعو، أما الداعية فأنى له بالعلم بعلل الأحكام وحسن عرضها وقوة الدفاع عنها، ثم إذا أمكنه في كثير منها ثم طلب منه المدعو أن يبين سائرها فماذا يصنع، ثم إذا بين معظمها ثم كفر المدعو ولو بحكم واحد ولم تُبين له حكمته فأين يذهب جهد الداعي
…
؟
أما المدعو فالحرج يلزمه من أن هذا خلاف فطرته لأن القرآن يخاطب الفطرة من طريقين طريق الوجدان وما استقر فيه من الإقرار بأن الله هو الرب المعبود
…
وطريق العقل على هذا الكون المفتوح .. وإذا أردنا منه أن يؤمن بالإسلام من خلال مخاطبته عن الإِعجاز التشريعي فإننا نقصره على منفذ واحد لفطرته وهو العقل .. ويا ليته على الكون المفتوح ولكنه على أحكام تظهر العلل والمقاصد في بعضها وتغيب في البعض الآخر ..
5 -
ثم إن تعليل الأحكام بالمصالح والمنافع والخير الدنيوي والتركيز على هذا الجانب معارض -عند المدعو- بواقع التطبيق المشوه للإِسلام، ومن هنا يَسهُل عليه رد هذا الأمر بل لا يحتاج إلى كثير عناء، وأما طريق القرآن الذي أشرنا اليه آنفاً فهو لا يحتاج إلى =
ذلك على تحقق الشمول والثبات .. ننتقل إلى الحديث عن ضوابط الاجتهاد لنتعرف على أثرها على الثبات والشمول، وسيتضح لنا بمشيئة الله صلة هذا المبحث بما قبله، ذلك أنه لا يقف المجتهد عند هذه الضوابط ويلتزم بها ما لم يدرك مقاصد الشريعة ومقاصد العربية، والتطبيقات التي سنذكرها تؤكد ما نقوله هنا.
فإلى المبحث الرابع بتوفيق من الله وعون، إنه جواد كريم.
* * *
= واقع بل آمن الناس أول الأمر وليس أمامهم إلّا بيان التوحيد والتنفير من ضده .. مع ماصرة الفطرة أمام مشاهد الخلق .. وعرض الحق عليها باستمرار من طريقي الوجدان والعقل حتى تفيق وتؤمن .. وهذا الطريق ما زال هو الطريق الأعظم للدعوة إلى الإِسلام .. وهو الأصل والإِعجاز الشريعي فرع عنه وسبب في زيادة الإِيمان، وعلى هذا فإن من أدرك دلالة الإِعجاز اللفظي بنفسه أو بتعليم غيره له فقد بلغته الدعوة فإن آمن بمقتضى ذلك آمن بالإِعجاز الشريعي أدركه أو لم يدركه، وإنْ لم يؤمن بدلالةِ الإِعجازِ اللفظي لم يؤمن بالإِعجاز التشريعي، ولذلك ضمنت هذه الرسالة حديثاً عن دلالة الإِعجاز اللفظي الذي هو أصل دعوة الرسل في كل موضع يناسب ذلك ص 22 لأن الثبات والشمول عقيدة ينبغي أن تستقر في قلب كل مسلم بحيث يعتقد اعتقاداً مجملاً أن هذه الشريعة تلزم الخلق ما عاشوا أبداً وأنها تشملهم بأحكامها. وقد سبق ص 44 ثم يتفاوت المسلمون في العلم بحقيقة ذلك ويبرز قدر أهل العلم -ومنهم المجتهدون- في إدراك الإِعجاز الشريعي تفصيلاً واستنباطاً .. والله أعلم.