الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع في فوات تحية المسجد بالجلوس
المدخل إلى المسألة:
• السقوط بالفوات يحتاج إلى دليل، والأصل عدم السقوط ما زال في المسجد.
• حديث جابر في تحية المسجد جاء بصيغة الأمر بفعلها كما في رواية الصحيحين، وفي صيغة النهي عن الجلوس قبل ذلك، كما في رواية البخاري.
• المأمورات الشرعية لا تسقط بالترك حتى تفعل، والمنهيات إذا فعلت فكأنها لم تفعل؛ لأنها ملغاة شرعًا، وإذا كان الجلوس في حكم الملغى شرعًا فلا يزال يخاطَبُ بها حتى يصلِّيَهَا.
• تحية المسجد شرعت لتعظيم المسجد وحرمته، ففي أي وقت صلاها حصل المقصود.
[م-453] اختلف الفقهاء في فوات تحية المسجد بالجلوس على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
لا تفوت تحية المسجد بالجلوس، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وظاهر إطلاق بعض الشافعية
(1)
.
قال الخرشي: «يكره جلوسه قبل التحية، ولا تسقط به»
(2)
.
(1)
. البحر الرائق (2/ 38)، مراقي الفلاح (ص: 149)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 394)، شرح ابن ناجي على متن الرسالة (1/ 169)، شرح الخرشي (2/ 5)، الشرح الكبير للدردير (1/ 313).
قال في الفواكه الدواني (1/ 203): «وكونهما -أي الركعتين- قبل الجلوس على جهة الندب، فلو جلس لا يفوتان ولو طال زمان الجلوس» .
(2)
. شرح خليل للخرشي (2/ 5).
• وجه هذا القول:
أن تحية المسجد شرعت لتعظيم المسجد وحرمته، ففي أي وقت صلاها حصل المقصود.
ولو دخل المسجد يريد أن يعمل عملًا أو يتحدث مع أحد، فظل واقفًا فإنه مخاطب بتحية المسجد؛ لأنه لا مفهوم لقوله:(فلا يجلس).
ولو جلس، وأراد أن يصلي تحية المسجد جالسًا، صحت منه تحية المسجد، فلا مفهوم لقوله في الحديث:(فلا يجلس)
(1)
.
ولأن الاحتجاج بقيد الجلوس في الحديث (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) من الاحتجاج بالمفهوم، وليس بحجة عند الحنفية مطلقًا، كما أنه ليس بحجة إجماعًا إذا خرج مخرج الغالب.
ويستدل لهذا القول بحديث جابر في قصة سليك الغطفاني فإنه جلس قبل أن يصلي، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام، والصلاة ركعتين، والحديث في مسلم، وإن كان الحنفية لا يرون صلاة تحية المسجد، والإمام يخطب، ويجيبون عن حديث جابر بأجوبة سوف نتعرض لها بالبحث إن شاء الله تعالى في فصل مستقل.
وأجاب من قال: إن تحية المسجد سببها الجلوس عن حديث جابر حيث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم سليكًا الغطفاني بتحية المسجد بعدما جلس بأن الجالس كان جاهلًا والفاصل قصيرًا، فلو جلس، وطال الفصل لم يؤمر بها، وقد فاتت.
• ويرد عليهم:
بأن حديث جابر ليس فيه ما يدل على هذا، ولا فيه ما ينفيه، والأصل أن الإنسان إذا كان مخاطبًا بالعبادة فإنه يؤمر بها حتى يفعلها، وحديث تحية المسجد فيه أمر ونهي، أمر بصلاة ركعتين، ونهي عن الجلوس قبل ذلك،
فرواه البخاري ومسلم بلفظ: إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس
(2)
.
(1)
. وخالف الشافعية، فقالوا: يجب أن يحرم بتحية المسجد قائمًا؛ لأنه لو جلس عامدًا قبل الإحرام بها فاتت، انظر الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 438).
(2)
. صحيح البخاري (444)، وصحيح مسلم (69 - 714).
وهذا أمر بالصلاة.
وفي رواية للبخاري: فلا يجلس حتى يصلي ركعتين
(1)
.
وهذا نهي عن الجلوس، والمأمورات لا تسقط بالترك حتى تفعل، والجلوس قبل الصلاة منهي عنه، والمنهيات إذا فعلت فكأنها لم تفعل؛ لأنها ملغاة شرعًا فلا يزال يخاطب بها حتى يصليها، وأما إذا تعمد الترك فالخلاف في فعله مبني على حكم تحية المسجد، فالجمهور على الكراهة، وقيل: يحرم، وسوف أبحثها إن شاء الله في فصل مستقل إن شاء الله تعالى.
وطول الفصل مؤثر في التفريق بين أجزاء العبادة الواحدة مما ينبني بعضها على بعض كالصلاة والوضوء، فإذا طال الفصل لم يمكن البناء، وأما العبادة إذا لم يفعلها أصلًا فيبقى مخاطبًا بها حتى يفعلها.
القول الثاني:
قال النووي والعراقي: «أطلق أصحابنا فواتها بالجلوس»
(2)
.
وقال الزركشي في القواعد: «وكذلك تحية المسجد تفوت بالجلوس ناسيًا مع أنها من المأمورات»
(3)
.
• وجه هذا القول:
يرى أصحاب هذا القول أن تحية المسجد من النوافل المؤقتة، ووقتها فعلها قبل أن يجلس؛ لظاهر حديث أبي قتادة، (فلا يجلس حتى يصلي)، فإذا جلس كانت تحية المسجد من جنس النوافل التي تفوت بفوات وقتها، فلا تقضى؛ لعدم الدليل على القضاء، وقاسه بعض الشافعية على فرع عندهم في فروع الحج في مسألة الإحرام لدخول الحرم، فإنهم قالوا: إن من دخله بغير إحرام لا يقضيه، بل فاته بمجرد الدخول كما تفوت التحية بالجلوس.
(1)
. صحيح البخاري (2/ 57).
(2)
. المجموع (4/ 53)، روضة الطالبين (1/ 333)، تحفة المحتاج (4/ 68)، نهاية المحتاج (3/ 277)، طرح التثريب (3/ 189)، شرح النووي على صحيح مسلم (6/ 164).
(3)
. المنثور في القواعد الفقهية (3/ 273).
• وأجيب:
لا نسلم أن تحية المسجد مؤقتة، بل هي مرتبطة بسبب، وسببها دخول المسجد، فما زال موجودًا في المسجد فالسبب قائم، فإذا خرج، ولم يُصَلِّ فات وقتها، خاصة إذا رجحنا أن ذكر الجلوس لا مفهوم له، وعلى التسليم بأن تحية المسجد مؤقتة قبل الجلوس فما المانع أن يكون وقتها قبل الجلوس وقت فضيلة، وبعده وقت جواز، وقد يقال: فعلها قبل الجلوس أداء، وبعده قضاء
(1)
.
(ح-1089) وقد روى ابن خزيمة في صحيحه من طريق ابن وهب، قال: حدثني أسامة، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني، قال:
سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: أدخلت المسجد؟ قلت: نعم، فقال: أصليت فيه؟ قلت: لا، قال: فاذهب فاركع ركعتين
(2)
.
[تفرد به أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق يهم، والراوي عنه ابن وهب، قال ابن عدي: يروي عنه ابن وهب نسخة صالحة]
(3)
.
القول الثالث:
(4)
.
واستدلال هذا القول كاستدلال من قال تفوت بالجلوس، لأن كلا القولين بناه
(1)
. جاء في فتح الباري لابن حجر (1/ 538) نقلًا عن المحب الطبري: «يحتمل أن يقال: وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة، وبعده وقت جواز، أو يقال: وقتهما قبله أداء، وبعده قضاء» .
(2)
. صحيح ابن خزيمة (1828).
(3)
. الكامل لابن عدي (2/ 78).
وقد روى عمرو بن دينار عن جابر في قصة الرجل الذي دخل المسجد، والإمام يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين، ولم يذكر اسم الرجل.
ورواه أبو الزبير وأبو سفيان، ومجاهد عن جابر، وذكروا أن الرجل هو سليك الغطفاني. فأخشى أن يكون أسامة بن زيد الليثي لم يحفظ الحديث، والله أعلم.
(4)
. المجموع (4/ 53)، طرح التثريب (3/ 189).
على أن تحية المسجد مؤقتة بوقت، ووقت فعلها قبل أن يجلس، فإذا جلس فقد فاتت، إلا أن هذا القول رأى أن الفاصل إذا كان يسيرًا أمكن تداركه في العبادة، كما أن التفريق بين أعضاء الوضوء لا يؤثر فيه الفارق اليسير، والبناء على الصلاة إذا انصرف الإمام يظن تمام صلاته، ثم نُبِّه على سهوه كان له أن يبني إذا كان الفاصل يسيرًا، وحتى يخرجوا من إلزام حديث جابر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم سليكًا أن يصلي تحية المسجد بعد أن جلس.
• الراجح:
الخلاف قوي، ويحتمل أن يكون سبب تحية المسجد الجلوس، لقوله:(فلا يجلس) ويحتمل أن يكون سببها دخول المسجد لقوله: (إذا دخل أحدكم المسجد .. )، ويكون ذكر الجلوس إن كان مقصودًا فهو للمبادرة بها، وعدم تأخيرها والانشغال عنها، لا شرطًا للأمر بها، وقد يقال: ذكر الجلوس وصف أغلبي لا مفهوم له، ولو قيل: إن تحية المسجد سببها المكث في المسجد، فمن مكث في المسجد، ولو قائمًا فعليه أن يصلي ركعتين، باعتبار أن الجلوس فرد من أفراد المكث في المسجد، فيلحق به ما كان في معناه، وليس المجتاز في معنى المكث، فالمجتاز مروه يسير، ونكون نظرنا إلى لفظ الجلوس في حديث أبي قتادة لا من حيث اللفظ، ولكن من حيث المعنى، فالجلوس مكث، والقيام الطويل مكث، وكلاهما يستدعي تحية المسجد، بخلاف المجتاز، فليس في معناهما، والله أعلم.
* * *