الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع في منزلة تحية المسجد من السنن
المدخل إلى المسألة:
• كل صلاة تكفيها نية الصلاة فقط فهي من النفل المطلق.
• النفل المعين لا يكفيه نية الصلاة فقط، فهو يشتمل على نيتين: نية الصلاة وكونها وترًا أو راتبة.
• النفل المعين أعلى من النفل المطلق.
• النفل المعين بعضه أفضل من بعض، فراتبة الفجر أفضل من باقي السنن الرواتب؛ لكونها تصلى حضرًا وسفرًا، وتسقط بقية الرواتب في السفر.
• إذا نوى تحية المسجد لم تُغْنِهِ عن السنة الراتبة، وإذا نوى نفلًا مطلقًا أغناه ذلك عن تحية المسجد، فلو كانت تحية المسجد سنة مؤكدة ما قام الأدنى مقام الأعلى.
[م-455] هذه المسألة تتنزل على قول من يرى أن تحية المسجد ليست واجبة، وأما من قال بوجوبها فلا مدخل لقوله في هذه المسألة:
وقد اختلف العلماء في اعتبار تحية المسجد من السنن المؤكدة على قولين:
فقيل: من النفل المؤكد، وعليه أكثر الحنفية، والصاوي من المالكية.
فقد صرح بعض الحنفية بأن تحية المسجد من السنن
(1)
، وهي أعلى من المستحب عندهم، بل قال ابن نجيم في البحر الرائق:«وقد حُكِيَ الإجماعُ على سنيتها»
(2)
.
(1)
. المبسوط (1/ 157)، تبيين الحقائق (1/ 173)، مراقي الفلاح (ص: 148)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 394)، الدر المختار (ص: 92)، حاشية ابن عابدين (2/ 18)، البحر الرائق (2/ 38).
(2)
. البحر الرائق (2/ 38)، وانظر حاشية ابن عابدين (2/ 18).
وعَدَّ ابن حزم تحية المسجد من النفل المؤكد، قال في المحلى:«ولولا البرهان الذي ذكرنا قبل بأن لا فرض إلا الخمس لكانت هاتان الركعتان فرضًا، ولكنها في غاية التأكيد»
(1)
.
واختاره جماعة من المالكية، كأشهب، والصاوي وابن عاشر وغيرهم
(2)
.
قال القاضي عياض: «وعدها بعض أصحابنا في السنن»
(3)
، إشارة منه إلى أن المذهب على خلافهم، وسيأتي النقل عن مذهب المالكية في القول الثاني.
وقيل: تحية المسجد ليست من النفل المؤكد، فقد عدها صاحب الخلاصة من الحنفية من المستحبات.
وقال ابن نجيم: «ومن المندوبات تحية المسجد»
(4)
.
والمندوب عند الحنفية أقل رتبة من السنن.
قال ابن عابدين: «والمختار عدم الفرق بين المستحب والمندوب»
(5)
.
(1)
. المحلى (3/ 277).
(2)
. قال الدردير في الشرح الصغير (1/ 405): «(وندب تحية المسجد) فعلق الصاوي في حاشيته، فقال: المناسب: وتأكد تحية المسجد؛ لأن تحية المسجد من جملة المتأكد، وإلا لم يكن لذكره بعد النفل معنى
…
». وسيأتيك أن المالكية يقسمون التطوع إلى سنة، وفضيلة، ونافلة. وانظر قول ابن عاشر في حاشية الدسوقي (1/ 313)، فقد نقله، ولم يتعقبه، وانظر المنتقى للباجي (1/ 226)، الذخيرة للقرافي (10/ 219).
(3)
. إكمال المعلم (3/ 49).
(4)
. البحر الرائق (2/ 55)، وقد ذكر الحنفية في ترتيب الاصطلاح عندهم أن المندوب شرع لإكمال السنة، والسنة لإكمال الواجب، والواجب لإكمال الفرض، فكان الترتيب عندهم الفرض وهو الأعلى، يليه الواجب، فالسنة، فالمندوب، والسنة على نوعين:
سنن مؤكدة: وهي قريبة من الواجب، يضلل تاركها؛ لأن تركها استخفاف بالدين، كالجماعة، والأذان والإقامة، ولم يذكروا منها تحية المسجد.
وسنن غير مؤكدة، وتركها لا يوجب ذلك.
والنفل ومنه المندوب والمستحب يثاب فاعله، ولا يسيء تاركه، ففرق الحنفية بين المسنون والمندوب، وهو تفريق اصطلاحي، لكنه يجعل النفل ومنه المندوب والمستحب من النفل غير المؤكد. انظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 276)، حاشية ابن عابدين (1/ 103).
(5)
. حاشية ابن عابدين (1/ 123).
واعتبر المالكية تحية المسجد من الفضائل، وهي دون السنن المؤكدة، وأعلى من النافلة، وهو اصطلاح خاص
(1)
.
جاء في شرح الزرقاني على خليل نقلًا عن علي الأجهوري والمرموز له بـ (عج): «ولم أَرَ التصريح به»
(2)
، يقصد كون التحية من النفل المؤكد.
وقال ابن دقيق العيد: «ظاهر مذهب مالك أنهما من النوافل، وقيل: إنهما من السنن، وهذا على اصطلاح المالكية في الفرق بين النوافل والسنن والفضائل»
(3)
.
وإن كان ابن دقيق ليس من المالكية وإنما نقلت كلامه تأييدًا لما فهمته من مذهب المالكية، ليس إلا.
وأما الشافعية فهم وإن لم يعتبروا تحية المسجد من النفل المطلق، فهم لم يدخلوها في النفل المؤكد
(4)
.
(1)
. اصطلح المالكية على تقسيم الصلوات غير الواجبة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: السنن وهي عندهم من النفل المؤكد: وهي: كل عبادة داوم النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها، أو أمر بفعلها، ولم يدل دليل على وجوبها، أو حض على فعلها، ورغب فيها، وأشاد بها وأشهرها، أو فعلها في جماعة، وهي: الوتر، وصلاة العيد، والكسوف، والاستسقاء.
واختلفوا في إلحاق ركعتي الفجر، والأصح إلحاقها بالسنن المؤكدة، انظر منح الجليل (1/ 282)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/ 366)، مواهب الجليل (1/ 273) و (2/ 8)، حاشية العدوي على الخرشي (1/ 301)، التاج والإكليل (2/ 275).
القسم الثاني: يقابل السنن النوافل: وهو ما قرر الشارع أن في فعله ثوابًا من غير أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم به، أو يرغب فيه، كالتطوع المطلق غير المرتبط بوقت، ولا سبب، أو رغب فيه، ولم يداوم على فعله، ومثله كالنافلة قبل الظهر وبعده، وقبل العصر، وبعد المغرب، وقبل العشاء وبعده، وصلاة الضحى.
القسم الثالث: ما توسط بين هذين الطرفين، فأطلقوا عليه فضيلة، وهي خمس صلوات: تحية المسجد، وصلاة خسوف القمر، وقيام رمضان، وقيام الليل، وسجود التلاوة. ولست في معرض انتقاد هذا التقسيم؛ لأن المهم هنا هو تحرير مذهب المالكية.
انظر شرح التلقين للمازري (1/ 359، 364، 367)، المقدمات الممهدات (1/ 64، 166)، حاشية العدوي على كفاية الطالب (1/ 30)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 401).
(2)
. حاشية العدوي على الخرشي (2/ 5)، شرح الزرقاني على خليل (1/ 494).
(3)
. إحكام الأحكام (1/ 287).
(4)
. جاء في فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب (1/ 68): «أفضل النفل صلاة عيد، ثم الكسوف، ثم خسوف، ثم استسقاء، ثم وتر، ثم ركعتا فجر، ثم باقي الرواتب، ثم التراويح، ثم الضحى، ثم ما يتعلق كركعتي الطواف والإحرام والتحية، ثم سنة الوضوء على ما يأتي، ثم النفل المطلق» .
فجعل النفل المطلق أقل النوافل، وقبله: سنة الوضوء، وقبلهما:(تحية المسجد وركعتا الإحرام والطواف) وهذه الثلاث على درجة سواء في الفضل، وكل هذه النوافل أقل من صلاة العيد والكسوف والاستسقاء، والوتر وركعتي الفجر وبقية الرواتب، والتراويح والضحى، فلا يمكن اعتبار تحية المسجد وسنة الوضوء من النفل المؤكد، وهي في هذا الترتيب بين النوافل. وانظر تحفة المحتاج (2/ 242)، مغني المحتاج (1/ 459)، حاشيتي قليوبي وعميرة (1/ 248)، حاشية الجمل (1/ 482).
فالشافعية قسموا التطوع إلى سنن: وهي العيدان، والكسوف، والاستسقاء.
وراتبة مؤكدة: وهي عشر ركعات، وهي: ركعتا الفجر، وركعتان قبل الظهر وبعدها، وبعد المغرب، وبعد العشاء.
ونوافل مؤكدة: وهي ثلاث: صلاة الليل، وصلاة الضحى، وصلاة التراويح
(1)
.
وليس منها تحية المسجد.
• دليل من قال: تحية المسجد من النوافل المؤكدة:
(ح-1098) ما رواه البخاري ومسلم من طريق حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار،
عن جابر بن عبد الله، قال: جاء رجل، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين
(2)
.
(ح-1099) وروى البخاري ومسلم من طريق عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب،
أن أبا هريرة، أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت
(3)
.
فإذا منع المصلي لحرمة الخطبة عن الاشتغال عنها، ولو بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ثم أمر بتحية المسجد والإمام يخطب فلا معنى لهذا إلا لتوكيد
(1)
. التذكرة في الفقه الشافعي لابن الملقن (1/ 25)، كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار (ص: 87).
(2)
. صحيح البخاري (930)، وصحيح مسلم (54 - 875).
(3)
. صحيح البخاري (934)، وصحيح مسلم (11 - 851).
تحية المسجد.
وكون تحية المسجد تتداخل مع بعض العبادات فلا يعني ذلك أنها ليست من النفل المؤكد، فهذا طواف الوادع يسقط بطواف الإفاضة إذا أخره الحاج على الصحيح، مع أن طواف الوادع طواف واجب خلافًا للمالكية، وغسل الجمعة يتداخل مع غسل الجنابة، مع أن القول بوجوب غسل الجمعة قول قوي جدًّا.
• ويناقش:
بأن التداخل بين العبادات باب أوسع من الحكم بأن هذه سنة مؤكدة، أو واجبة، ويدخل الأدنى بالأعلى، بشرط أن يكون الأدنى ليس مقصودًا لذاته، وليس العكس، فلو اغتسل بنية الجمعة ولم يَنْوِ رفع الحدث لم يرتفع حدثه، بخلاف العكس، فإذا نوى تحية المسجد لم تغنه عن السنة الراتبة، وإذا نوى نفلًا مطلقًا أغناه ذلك عن تحية المسجد، فإن كانت تحية المسجد سنة مؤكدة كيف قام الأدنى مقام الأعلى؟
• وأما الجواب عن الاشتغال بالنفل المطلق عن سماع الخطبة:
فأقول بهذه المسألة برأيي، والله أعلم بالصواب، قبل الجواب على هذه المسألة يجب أن نحرر: متى يجب على المصلي سماع الخطبة أيجب بمجرد الاستماع ولو كان خارج المسجد، أم يجب الاستماع بمجرد دخوله المسجد قبل أن يجلس، أم لا يجب الاستماع حتى يصلي تحية المسجد؟
فإن قيل بالأخير فلا يصح أن يقال: اشتغل بسنة عن واجب، ونظير هذا الرجل يدرك الإمام قائمًا في الصلاة، ويغلب على ظنه أن القيام الباقي قد لا يسع إلا مقدار الفاتحة، ومع ذلك له أن يستفتح قبل الفاتحة، والاشتغال بالاستفتاح اشتغال بسنة عن ركن أو واجب، ولا تثريب عليه إذا فاتت في أحد قولي أهل العلم؛ لأن هذا هو الترتيب المأمور به في الصلاة، مع أنه لو ترك الاستفتاح متعمدًا لم تبطل صلاته في أصح قولي أهل العلم، والله أعلم.
• وجه قول من قال: تحية المسجد ليست من النفل المؤكد:
الصلاة جنس يدخل تحتها أنواع، فالفرض والنفل المؤكد كالسنن الراتبة مركبة من نيتين: نية الصلاة، ونية كونها راتبة أو وترًا.
والنفل المطلق يحصل بنية مطلق الصلاة، فليس له صفةٌ زائدةٌ على أصل الصلاة فلا يحتاج إلى التعيين، فلو كانت تحية المسجد نفلًا مؤكدًا لاشترطت لها نية خاصة، كالرواتب، فلو نوى نفلًا مطلقًا أغناه عن تحية المسجد، ولو نوى تحية المسجد لن تغنيه عن راتبة الظهر، فلما كان الداخل للمسجد يكفيه للجلوس مطلق الصلاة دل على أنها من النفل المطلق.
والسنن المؤكدة في الغالب تطلب لذاتها، لهذا كانت أعلى رتبة من النفل المطلق، والله أعلم.
وركعتا الإحرام وركعتا الطواف ودخول المسجد من العبادات التابعة لغيرها، لهذا لا تكون بمنزلة الرواتب، أو الوتر، بل وليست بمنزلة التهجد، وإن كان نفلًا مطلقًا؛ لأن هذه العبادة يتطلع لها الشارع لذاتها، ويقصدها المصلي بالصلاة، بخلاف تحية المسجد فإنه لا يقصدها المصلي، فلو دخل المسجد بعد طلوع الفجر كان عليه أن يصلي راتبة الفجر، لا تحية المسجد.
• الراجح:
القولان فيهما قوة، والقول بأن تحية المسجد من النفل المطلق أقوى، والله أعلم.
* * *