الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع في موضع النظر أثناء الصلاة
المبحث الأول في النظر إلى السماء أثناء الصلاة
المدخل إلى المسألة:
• النظر إلى السماء للتفكر والاعتبار خارج الصلاة مطلوب شرعًا، قال تعالى:{قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، والآيات في الباب كثيرة.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى: كان كثيرًا ما يرفع بصره إلى السماء
(1)
.
• رفع البصر إلى السماء في الدعاء خارج الصلاة جائز في أصح قولي أهل العلم، وبه قال أكثرهم.
• رفع البصر إلى السماء في الصلاة منهي عنه مطلقًا للدعاء وغيره؛ لعموم النهي الوارد، (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء
…
).
• رفع البصر في الصلاة ينافي خشوع البصر، وإن كان قد لا ينافي خشوع القلب، بل ربما كان هو الباعث عليه، والمطلوب مع خشوع القلب خشوع الجوارح.
• قد يخشع البصر دون الجسد، قال تعالى:{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} الآية [المعارج: 43، 44]، فوصَفَ الأجسادَ بالحركة السريعة، والأبصارَ بالخشوع.
• قد يخشع القلب دون الجسد كخشوع الطائف وقت الرَّمَلِ، ووقت السعي بين العلمين فيجتمع للعبد الابتهال بالدعاء والسعي والرمل بالطواف.
(1)
. صحيح مسلم (2531).
[م-499] اتفق الأئمة الأربعة على كراهة النظر إلى السماء في أثناء الصلاة
(1)
.
(ح-1216) لما رواه البخاري من طريق ابن أبي عَروبة، قال: حدثنا قتادة،
أن أنس بن مالك حدثهم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لَيَنْتَهُنَّ عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم
(2)
.
ورواه مسلم من مسند أبي هريرة بالنهي عن رفع البصر عند الدعاء في الصلاة
(3)
.
فحديث أنس نهى عن رفع البصر في الصلاة، وأطلق النهي، فشمل حال الدعاء، وحال القراءة، كما شمل حال القيام وحال الركوع، وفي كل حال من أحوال الصلاة.
وحديث أبي هريرة: (نهى عن رفع البصر عند الدعاء في الصلاة)، خص النهي بحال الدعاء، ومثله لا يقتضي تخصيصًا؛ لأنه فرد من أفراد العام أو المطلق بحكم يوافق العام أو المطلق، والتخصيص إنما هو في إخراج أحد أفراد العام أو المطلق بحكم يخالف العام، وإذا نهي عنه عند الدعاء، فغيره أولى بالنهي.
قال ابن بطال: «العلماء مجمعون على القول بهذا الحديث، وعلى كراهية النظر إلى السماء في الصلاة»
(4)
.
وقال ابن الملقن: «والإجماع قائم على العمل بمقتضى الحديث، وأنه يكره
(1)
. تبيين الحقائق (1/ 163)، البحر الرائق (4/ 119)، الفتاوى الهندية (1/ 106)، النهر الفائق (1/ 280)، مرقاة المفاتيح (3/ 60)، التبصرة للخمي (1/ 295)، القوانين الفقهية لابن جزي (ص: 39، 43)، مواهب الجليل (1/ 550)، المهذب في فقه الشافعي (1/ 168)، البيان للعمراني (2/ 318)، المجموع (3/ 251) و (4/ 97)، تحفة المحتاج (2/ 161)، نهاية المحتاج (2/ 57)، حاشية الجمل (4/ 139)، مغني المحتاج (3/ 42)، التهذيب في فقه الإمام الشافعي (2/ 138)، مطالب أولي النهى (3/ 64)، كشاف القناع (3/ 63)، المبدع (1/ 424)، الإقناع (1/ 127)، شرح منتهى الإرادات (1/ 207).
(2)
. صحيح البخاري (750).
(3)
. صحيح مسلم (118 - 429).
(4)
. شرح البخاري لابن بطال (2/ 364).
رفع بصره إلى السماء»
(1)
.
وحكى الإجماع على الكراهة النووي والعيني والقسطلاني وغيرهم
(2)
.
وقال ابن رجب: «وفي الحديث دليل على كراهة رفع بصره إلى السماء في صلاته»
(3)
.
وقال ابن مفلح: «ويكره رفع بصره (و)»
(4)
.
ورَمْزُ الواو يعني به وفاقًا للأئمة الأربعة، ولو كانت عنده من مسائل الإجماع لرمز لها بحرف (ع)، ومع ذلك فلم يذكر مع الكراهة قولًا آخر.
ولولا حكاية الإجماع لقيل: ظاهر الوعيد بالحديث يدل على أكثر من التحريم، لأن التهديد بالعقوبة مشعر بأنه من كبائر الذنوب.
وقال ابن تيمية في شرح العمدة: «يكره كراهة شديدة»
(5)
.
ولم يتجرأ على القول بالتحريم.
وقال النووي: «فيه النهي الأكيد، والوعيد الشديد في ذلك، وقد نقل الإجماع في النهي عن ذلك»
(6)
.
وعَبَّر بتأكيد النهي والوعيد الشديد، ولم يقترب إلى التصريح بالتحريم، وهذا سبيل أهل العلم في الحرص على الوقوف عند فهم السلف.
ولعل السبب في ذلك: أن النهي عن النظر إلى السماء إن كان من أجل أن فيه نوعًا من الالتفات في الصلاة، فالالتفات بجزء من البدن لا يحرم في الصلاة إجماعًا، ويجوز للحاجة.
وإن كان النهي عنه من أجل منافاته للخشوع: فإن خشوع القلب مستحب في الصلاة، وفواته لا يبطل الصلاة في قول أكثر أهل العلم، وحكي إجماعًا.
(1)
. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (7/ 36).
(2)
. شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 152)، عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري (5/ 308)، شرح القسطلاني (2/ 80).
(3)
. فتح الباري لابن رجب (6/ 442).
(4)
. الفروع (2/ 274).
(5)
. شرح العمدة، صفة الصلاة (ص: 71).
(6)
. شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 152).
وهناك مسائل مشابهة يرد الأمر بالوعيد، أو بنوع من العقوبة، ولم يتجاوز به العلماء المتقدمون الكراهة، كالأمر بتسوية الصفوف، فقد ورد الإخلال به وعيد شديد، قال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث النعمان بن بشير في الصحيحينِ- لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالِفَنَّ الله بين وجوهكم
(1)
.
وكالالتفات بالصلاة فإنه ذكر أنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، رواه البخاري، ومع ذلك فالالتفات يجوز مع الحاجة، ويكره بلا حاجة.
وينبني على القول بالكراهة أن النظر إلى السماء إن كان لحاجة فلا كراهة
(2)
. واستدلوا له بما رواه البخاري من طريق الثوري،
وقال البخاري: قال محمود، حدثنا أبو أسامة.
(ث-288) ورواه مسلم من طريق عبد الله بن نمير، ثلاثتهم عن هشام، عن فاطمة،
عن أسماء، قالت: دخلت على عائشة رضي الله عنها، وهي تصلي قائمة والناس قيام، فقلت: ما شأن الناس؟ فأشارت برأسها إلى السماء، فقلت: آية؟ فقالت برأسها: أي نعم
(3)
.
ورواه الطبراني من طريق حماد بن سلمة عن هشام به، وفيه:
…
وأومأت برأسها إلى السماء
(4)
.
(1)
. البخاري (717)، وصحيح مسلم (127 - 436).
(2)
. تحفة المحتاج (2/ 161)، مغني المحتاج (1/ 421)، فتح الباري لابن رجب (6/ 443).
(3)
. البخاري (1235، 922)، مسلم (11 - 905).
(4)
. رواه الطبراني في الكبير (24/ 116) من طريق حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة به.
وقد رواه البخاري من طريق مالك.
وابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة،
والطبراني في الكبير من طريق الليث بن سعد، ثلاثتهم عن هشام، وفيه:
…
فأشارت بيدها إلى السماء
(1)
.
قال الحافظ ابن رجب في شرح البخاري: «إنما يكره رفع البصر إلى السماء عبثًا، فأما لحاجة فيجوز، وقد أشارت عائشة لأختها أسماء إلى السماء في صلاة الكسوف، وقد نص أحمد على أن من تجشأ في صلاته، فإنه يرفع رأسه إلى السماء؛ لئلا يتأذى من إلى جانبه برائحة جشائه، وقد سبق عن عمر وابن سابط رفع الوجه إلى السماء عند تكبيرة الإحرام، وزاد ابن سابط: وإذا رفع رأسه»
(2)
.
• وذهب الأذرعي من الشافعية، وجماعة من المتأخرين كالصنعاني واللجنة الدائمة للإفتاء، إلى القول بتحريم النظر إلى السماء مع صحة الصلاة، وبه قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله
(3)
.
قال الأذرعي: «والوجه تحريمه على العامد العالم بالنهي المستحضر له»
(4)
.
وانفرد بالقول بالتحريم من الشافعية شهاب الدين أحمد بن حمدان الأذرعي، وهو متأخر عاش في القرن الثامن الهجري، وتوفي سنة 783 هـ ولم ينقله عنه إلا الخطيب في مغني المحتاج، وكل من كتب من الشافعية في الروايات والأوجه قبل الأذرعي كإمام الحرمين والغزالي والنووي والرافعي لم يشيروا إلى هذا القول.
وقال الصنعاني: «فيه وعيد شديد على رفع البصر إلى السماء؛ لأنه ينافي الخشوع، فدل على تحريم رفع البصر إلى السماء حال الصلاة، ويأثم»
(5)
.
واحتجوا لقولهم: بأن الأصل في النهي التحريم.
وقد اقترن بالنهي وعيد شديد لمن يفعله، وهذا يؤكد أن النهي للتحريم، وليس للكراهة.
يقول شيخنا في تعليقه على الكافي لابن قدامة: «ومن غرائب الاستدلال أن
(1)
. رواه البخاري (7287)، من طريق مالك.
وابن أبي شيبة في المصنف ت عوامة (38665) حدثنا أبو أسامة.
ورواه الطبراني في الكبير (24/ 117) ح 315، من طريق عاصم بن علي، حدثنا الليث به.
ورواه الطبراني في الكبير (312) من طريق عارم أبي النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن هشام ابن عروة به، وفيه:
…
وأشارت بيدها
…
إلخ.
(2)
. فتح الباري لابن رجب (6/ 443).
وقال في الإقناع (1/ 207): «ولا يكره رفع بصره حال التجشي في الصلاة جماعة، فيرفع وجهه لأن لا يؤذي من حوله بالرائحة» .
(3)
. فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 22) و (8/ 367)، الشرح الممتع (3/ 227).
(4)
. مغني المحتاج (1/ 421).
(5)
. كتاب التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 306).
يحكم على هذا الفعل بأنه مكروه، ثم يستدل عليه بما يقتضي أن يكون من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما بال أقوام)؟ وهذا الاستفهام للإنكار (يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم) فاشتد قوله في ذلك حتى قال:(لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم)، هل يمكن أن يرد مثل هذا الوعيد، وهذا الإنكار على شيء مكروه؟ لا يمكن، ولهذا؛ الصحيح أن رفع البصر إلى السماء والإنسان يصلي حرام، بل من كبائر الذنوب؛ لماذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توعد عليه»
(1)
.
والقول بالكراهة هو مذهب الأئمة الأربعة، وحكاه إجماعًا طائفة من العلماء، فإن صح الإجماع المنقول فإنه يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، ولعل العلماء حملوه على الكراهة اجتهادًا؛ لأنهم يرون النهي في الحديث معللًا، وأن علة النهي تدور عندهم: إما على الالتفات في الصلاة، أو على منافاته للخشوع، ولا تنافي بين العلتين فالالتفات بلا حاجة منافٍ لكمال الخشوع، وكلاهما لا يقتضي التحريم، ولم يقل أحد من أهل العلم فيما أعلم إن العلة تعبدية، وسوف أتكلم عن علة النهي إن شاء الله تعالى بعد قليل.
وقال ابن حزم: تبطل الصلاة بالنظر إلى السماء
(2)
.
وحكاه العبد لياني الحنبلي في الحاوي بصيغة التمريض، ونقله عنه المرداوي في الإنصاف.
قال في الحاوي: «ويكره التفاته اليسير لغير حاجة، ورفع بصره إلى السماء، وقيل: تبطل به وحده»
(3)
.
وبنى حكمه على قاعدة: أن الأصل في النهي التحريم والفساد.
ولأنه قد نهي عنه في الصلاة بخصوصها، وفعل المحرم المنهي عنه في العبادة بخصوصها يقتضي بطلانها، ومع أن شيخنا ابن عثيمين رحمه الله يذهب إلى القول
(1)
. تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة (2/ 12).
(2)
. المحلى، مسألة (386).
(3)
. الحاوي في الفقه على مذهب الإمام أحمد (1/ 367)، وانظر: الإنصاف (2/ 91)، وفتح الملك العزيز بشرح الوجيز - لعلي بن البهاء الحنبلي (2/ 92).
بمقتضى هذه القاعدة، إلا أنه لم يقل بموجبها في هذه المسألة، فقال بالتحريم، وحكم بصحة الصلاة.
• واختلفوا في علة النهي عن النظر إلى السماء:
فقيل: لخروجه عن سمت القبلة
(1)
.
قال القاضي عياض: «وفي رفع البصر إلى السماء إعراض عن القبلة، وخروج عن هيئة الصلاة»
(2)
.
وهذا بعيد؛ لأنه إذا كان لا يخرج عن سمت القبلة بالنظر إلى موضع سجوده، فَلِمَ يخرج عن سمت القبلة بالنظر إلى السماء؟ بل إن الالتفات بجزء من البدن لا يخرجه عن حكم التوجه للقبلة حتى يلتفت بكل بدنه.
وقيل: لأنه ينافي الخشوع المأمور به في الصلاة، قاله ابن بطال من المالكية، وابن تيمية من الحنابلة
(3)
.
فمن خشوع البصر: أن لا ينظر العبد إلى جهة العلو تذللًا لله، فلله العلو المطلق علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر، ومن كمال التعظيم عند مناجاة المعظم ألا ترفع بصرك إليه عند الوقوف بين يديه.
ولم يذكر العلماء علةً للنهي غير هاتين، الالتفات ومنافاة الخشوع، ولعل ذلك ما جعل الأئمة الأربعة لم يذهبوا إلى القول بتحريم رفع البصر إلى السماء؛ لأن النظر إلى السماء إن كان ينافي خشوع القلب، فالخشوع مستحبٌّ في قول أكثر العلماء، وحكي إجماعًا، وإن كان المقصود به خشوع الجوارح، ومنه البصر، فإن النظر في السماء إن عُدَّ ذلك من الحركة في الصلاة فإنه يدخل في الحركة اليسيرة التي لا تبلغ التحريم، مع أن احتساب ذلك من الحركة بعيد؛ لأن تنكيس الرأس إلى موضع السجود لا يعد من الحركة في صلاته، إلا أن يقال: لم يعد باعتباره مطلوبًا في صلاته في أحد قولي أهل العلم، وسوف يأتي بحث الخشوع إن شاء الله تعالى
(1)
. مرعاة المفاتيح (3/ 349).
(2)
. إكمال المعلم (2/ 341)، وانظر: فتح الباري (2/ 233).
(3)
. شرح صحيح البخاري لابن بطال (2/ 365)، درء تعارض العقل والنقل (7/ 24).
في مبحث مستقل، بلغنا الله ذلك بعونه وتوفيقه.
وعلل بعض العلماء بأن ذلك فيه سوء أدب مع الله، وبه قال شيخنا ابن عثيمين
(1)
.
(2)
.
ويشكل عليه أن سوء الأدب مع الله محرم داخل الصلاة وخارجها، ورفع البصر إلى السماء حال الدعاء خارج الصلاة جائز في قول أكثر أهل العلم.
قال ابن تيمية: «ولا يكره رفع بصره إلى السماء في الدعاء لفعله، وهو قول مالك والشافعي، ولا يستحب»
(3)
.
وقد اعتبر شيخنا النظر في السماء في أثناء الصلاة منهيًّا عنه في الصلاة بخصوصها، وهذا يعني جوازه خارج الصلاة، مع أن شيخنا رحمه الله يرى تحريم رفع البصر إلى السماء في الصلاة مع القول بصحتها، وهذا مخالف لقواعده رحمه الله من أن فعل المحرم داخل العبادة على وجه يختص النهي بها، فإن فعله يبطلها، فتأمل
(4)
.
•الراجح:
إن صح الإجماع على الكراهة، فيجب أن يكون مكروهًا كراهة شديدة، وإن لم يصح الإجماع فالقول بالتحريم قول قوي جدًّا، والله أعلم.
* * *
(1)
. الإفصاح عن معاني الصحاح.
(2)
. الشرح الممتع (3/ 227).
(3)
. الفتاوى الكبرى (5/ 338).
(4)
. تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة (2/ 12).