الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس عشر في صلاة تحية المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب
المدخل إلى المسألة:
• إذا خرج إمام الجمعة على الناس وهو يصلي أتمها خفيفة بلا خلاف.
• دخول الإمام يمنع التنفل ممن صلى تحية المسجد، وحكي إجماعًا.
• قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس) يشمل بعمومه كل مسجد، سواء أكان ذلك في الجمعة أم في غيرها، وسواء أكان الإمام يخطب أم لا، وسواء أكان الوقت وقت نهي أم لا، والعام على عمومه حتى يَرِدَ من النصوص ما يخصصه.
• تواطأ العام والخاص على الأمر بتحية المسجد لمن دخل والإمام يخطب.
• الأمر بوجوب الإنصات للخطبة عام، خص منه الداخل حتى يصلي تحية المسجد، وإذا خص من الوجوب لم يَبْقَ الاستماع واجبًا في حق الداخل.
[م-464] قبل عرض الخلاف أبين محل الوفاق في المسألة.
فيجوز استدامة تحية المسجد بلا خلاف، فلو خرج الإمام، وهو في تحية المسجد لم يقطعها، بل يتمها خفيفة، وحكي الإجماع على ذلك.
قال النووي: «فإن خرج الإمام، وهو في صلاة استحب له أن يخففها بلا خلاف ولا تبطل
…
»
(1)
.
إذا أدرك الإمام في آخر الخطبة، وخشي إن صلى تحية المسجد أن تفوته تكبيرة الإحرام، أو تفوته الركعة الأولى لم يصلها في أصح القولين.
(1)
. المجموع (4/ 551)، وانظر: التوضيح لخليل (2/ 64).
(1)
.
دخول الإمام يمنع التنفل ممن صلى تحية المسجد، وقد ساق الماوردي والنووي الإجماع على التحريم.
وإن دخل الرجل، والإمام يخطب، فاختلف العلماء هل يصلي تحية المسجد؟
فقيل: لا تشرع تحية المسجد حال الخطبة، وهو مذهب الحنفية، والأصح في مذهب المالكية وبه قال الثوري، والليث
(2)
.
جاء في التجريد للقدوري: «قال أصحابنا: إذا دخل الرجل، والإمام يخطب يوم الجمعة لم يصل تحية المسجد»
(3)
.
قال خليل: «لا يبتدئ الداخل التحية بعد خروج الإمام على الأصح»
(4)
.
وقال المازري: «قال مالك: تسقط تحية المسجد على الداخل، والإمام يخطب»
(5)
.
وخالف في ذلك الشافعي، وأحمد، وداود، فقالوا: إذا دخل، والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين خفيفتين، وبه قال أئمة فقهاء أهل الحديث
(6)
.
(1)
. المجموع (4/ 551).
(2)
. بدائع الصنائع (2/ 263)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 84)، البحر الرائق (1/ 266)، حاشية ابن عابدين (1/ 376)، شرح مختصر الطحاوي للجصاص (2/ 130)، التجريد للقدوري (2/ 942).
وانظر قول الثوري والليث في شرح التلقين (2/ 1009).
(3)
. التجريد (2/ 942).
(4)
. التوضيح لخليل (2/ 64)، التبصرة للخمي (3/ 581)، مواهب الجليل (2/ 179)، شرح التلقين (2/ 1012)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 388)، منح الجليل (1/ 448)، بداية المجتهد (1/ 173)، الذخيرة للقرافي (2/ 346)، إرشاد السالك (1/ 26)، البيان والتحصيل (1/ 367).
وقال المالكية: لو أحرم بها بعد خروج الإمام ناسيًا أو جاهلًا لم يقطعها، بخلاف لو أحرم بها متعمدًا، فإنه يقطعها.
(5)
. المعلم بفوائد المسلم (1/ 470).
(6)
. الأم (1/ 227)، مختصر المزني (8/ 121)، الحاوي الكبير (2/ 429)، نهاية المطلب
…
(2/ 556)، البيان للعمراني (2/ 596)، المجموع (4/ 551)، كفاية الأخيار (ص: 147).
قال ابن الملقن الشافعي: «يكره له تركها، وبه قال الحسن البصري، ومكحول، وعبد الله بن يزيد، وابن عيينة، وأبو ثور، والحميدي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وداود وآخرون»
(1)
.
• دليل من قال: لا يجلس حتى يصلي ركعتين:
استدلوا بدليل عام، ودليل خاص:
أما الدليل العام:
(ح-1130) فهو فيما رواه البخاري ومسلم من طريق مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي،
عن أبي قتادة السلمي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس.
هكذا رواه مالك بلفظ: الأمر، وهو في الموطأ
(2)
.
ورواه البخاري من طريق عبد الله بن سعيد، عن عامر بن عبد الله بن الزبير به، بلفظ النهي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين
(3)
.
وتوبع عامر بن عبد الله بن الزبير على سياقه بلفظ النهي:
(ح-1131) فقد رواه مسلم من طريق محمد بن يحيى بن حبان، عن عمرو ابن سليم بن خلدة الأنصاري،
عن أبي قتادة -صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس، قال: فجلست، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟ قال: فقلت: يا رسول الله رأيتك جالسًا، والناس جلوس، قال: فإذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يركع ركعتين
(4)
.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أحدكم المسجد) يشمل بعمومه كل مسجد، سواء
(1)
. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (7/ 580).
(2)
. صحيح البخاري (444)، وصحيح مسلم (69 - 714).
(3)
. صحيح البخاري (2/ 57).
(4)
. صحيح مسلم (70 - 714).
أكان ذلك في الجمعة أم في غيرها، وسواء أكان الإمام يخطب أم لا، وسواء أكان الوقت وقت نهي أم لا، والعام على عمومه حتى يرد من النصوص ما يخصصه.
وأما الدليل الخاص:
(ح-1132) فقد روى البخاري ومسلم من طريق حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار،
عن جابر بن عبد الله، قال: جاء رجل، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين
(1)
.
• وأجيب:
تأول الحنفية والمالكية بأن الحديث واقعة عين خاص بهذا الرجل، لا عموم لها.
• ورد هذا الجواب:
بأن البخاري قد رواه من طريق آدم، قال: أخبرنا شعبة، عن عمرو بن دينار به، بلفظ:(إذا جاء أحدكم، والإمام يخطب، أو قد خرج .. )
(2)
.
(1)
. صحيح البخاري (930)، وصحيح مسلم (54 - 875).
(2)
. اختلف فيه على شعبة في قوله: (أو قد خرج)
فرواه آدم كما في صحيح البخاري (2/ 57)،
وعلي بن الجعد كما في مسنده (1599)، وسنن الدارقطني (1613).
وأسد بن موسى كما في المعجم الكبير للطبراني (7/ 162) ح 6701،
وهاشم بن القاسم كما في سنن الدارمي (1592)، أربعتهم، رووه عن شعبة بلفظ:(والإمام يخطب أو قد خرج).
وخالفهم، محمد بن جعفر، كما في صحيح مسلم (57 - 875)، ومسند أحمد (3/ 369)، فرواه عن شعبة به، بلفظ:(إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمام).
وتابعه على هذا خالد بن الحارث، فرواه كما في المجتبى من سنن النسائي (1395)، وفي الكبرى له (1715)، عن شعبة، بلفظ: إذا جاء أحدكم، وقد خرج الإمام
…
). قال شعبة: يوم الجمعة. فجعل لفظ: (يوم الجمعة) من قول شعبة، والباقي كلفظ محمد بن جعفر.
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده (1801)، وأبو عوانة في مستخرجه، ط الجامعة (2735).
والنضر بن شميل كما في سنن الدارقطني (1614).
وأبو زيد الهروي (ثقة) رواه الدارقطني في سننه (1615) من طريق يحيى بن عياش القطان (فيه جهالة) حدثنا أبو زيد الهروي،
ووهب بن جرير كما في سنن الدارقطني (1616)، فرووه عن شعبة به، بلفظ: إذا جاء أحدكم
…
والإمام يخطب)، فقالوا: والإمام يخطب بدل من قولهم: وقد خرج الإمام.
وهذا لفظ عام، وهو نص في موضع النزاع.
• وأجاب الحنفية والمالكية بأجوبة منها:
الجواب الأول:
بأن الحديث قد رواه حماد بن زيد، وابن عيينة، وابن جريج، وأيوب، وورقاء، وحبيب بن يحيى، كلهم عن عمرو بن دينار، بلفظ:(أن رجلًا دخل المسجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين)
(1)
.
وخالف شعبة كل هؤلاء، فجعله حكمًا عامًّا، فقال: إذا دخل أحدكم المسجد، والإمام يخطب فَلْيُصَلِّ ركعتين.
(1)
. الحديث رواه عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله:
ورواه جماعة عن عمرو بن دينار:
الأول: حماد بن زيد، رواه البخاري (930) ومسلم (54 - 875)، وأكتفي بالصحيحين، ولفظه: جاء رجل، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين.
الثاني: سفيان بن عيينة، رواه البخاري (931)، ومسلم (55 - 875) بنحو حديث حماد، وأكتفي بالصحيحين.
الثالث: أيوب، عن عمرو بن دينار.
أخرجه مسلم (54 - 875)، وأبو نعيم في مستخرجه على مسلم (1964)، وابن خزيمة (1833)، والطبراني في الكبير (7/ 163) ح 6706.
الرابع: ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار.
أخرجه مسلم (56 - 875)، وعبد الرزاق (5513)، وأحمد (3/ 369، 380)، والشافعي في السنن (17)، والنسائي في المجتبى (1400). وفي الكبرى (1716)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 365)، والطبراني في الكبير (7/ 162) ح 6700، وابن خزيمة (1833، 1834)، وابن المنذر في الأوسط (4/ 93/1840).
الخامس: ورقاء بن عمر، رواه أبو عوانة كما في إتحاف المهرة (3021).
السادس: محمد بن مسلم الطائفي، كما في المعجم الكبير للطبراني (7/ 162) ح 6702، والكتاب الثالث عشر من المشيخة البغدادية لأبي طاهر السِّلَفيِّ (32).
السابع: غالب بين عبيد الله، كما في المعجم الأوسط للطبراني (6413)،
الثامن: روح بن القاسم، كما في صحيح ابن خزيمة (1833)، وسنن الدارقطني (1617)
فهذا لفظ شاذ، انفرد به شعبة عن عمرو بن دينار، وأصحاب عمرو بن دينار لا يذكرون ما يذكره شعبة.
الجواب الثاني:
أن دخول الرجل كان وقت قعود النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر،
(ح-1133) واستدلوا بما رواه مسلم من طريقين عن الليث، عن أبي الزبير،
عن جابر، أنه قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فاركعهما
(1)
.
وجه الاستدلال:
قوله: (والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر)، فلو كان دخوله في أثناء الخطبة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاعدًا.
وقد ترجم له النسائي في السنن الكبرى: الصلاة قبل الخطبة.
• ونوقش هذا:
بأن أبا سفيان طلحة بن نافع، وعمرو بن دينار روياه عن جابر، ولم يذكرا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعدًا، بل نصًّا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب، وهما أرجح من أبي الزبير.
وقد تقدمت رواية عمرو بن دينار، وأما رواية طلحة بن نافع.
فقد رواها مسلم من طريق عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان،
عن جابر بن عبد الله، قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له: يا سليك، قم فاركع ركعتين، وتجوز بهما، ثم قال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما
(2)
.
• دليل من قال: لا يصلي تحية المسجد إذا حضر الإمام:
الدليل الأول:
قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].
(1)
. صحيح مسلم (58 - 875).
(2)
. صحيح مسلم (59 - 875)، وقد زاد بعضهم، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وليس بمحفوظ.
وجه الاستدلال:
جاءت آثار عن السلف بأن الآية نزلت في شأن الخطبة
(1)
، وآثار أخرى أنها نزلت في شأن الصلاة
(2)
،
وثالثة أنها نزلت فيهما معًا، فتحمل الآية عليهما
(3)
.
(1)
. روى ابن أبي شيبة في المصنف تحت باب (في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، قال ابن أبي شيبة (8376): حدثنا هشيم، عن العوام، عن مجاهد، قال: في خطبة الإمام يوم الجمعة.
ومن طريق هشيم أخرجه سعيد بن منصور في سننه في كتاب التفسير (976).
وإسناده صحيح، والعَوَّام هو ابن حوشب ثقة.
(2)
. روى ابن أبي شيبة في المصنف (8380) حدثنا أبو خالد الأحمر، عن الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة، قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، فنزلت:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، قال: هذا في الصلاة.
ورواه ابن أبي حاتم في التفسير (8728) حدثنا أبو سعيد الأشج،
والطبري في تفسيره ت شاكر (15582) حدثنا حفص بن غياث،
وأخرجه أيضًا (15601) حدثنا أبو خالد الأحمر،
وابن عبد البر في التمهيد (11/ 29) من طريق بكر بن خنيس،
وأخرجه البيهقي في القراءة خلف الإمام (277) من طريق عبد العزيز بن مسلم.
وأخرجه أيضًا (267) من طريق علي بن مسهر، ستتهم، عن الهجري به.
وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري رفع أحاديث أوقفها غيره، قال شعبة: كان رَفَّاعًا، وقد ضعفه أحمد وابن معين، والنسائي، وقال البخاري: منكر الحديث، وذكره الدولابي والعقيلي في الضعفاء.
وروى ابن أبي حاتم في تفسيره (8726)، والطبري في تفسيره (13/ 347)، والدارقطني في سننه (1239)، وتمام في فوائده (156)، والبيهقي في القراءة خلف الإمام (279) من طريق عبد الله بن عامر، حدثني زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن هذه الآية {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] قال: نزلت في رفع الأصوات، وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
وضعفه الدارقطني بعبد الله بن عامر.
قال ابن رجب في الفتح (9/ 293): يشكل على أهل هذه المقالة حديث زيد بن أرقم الذي أخرجه البخاري
…
وقد أخبرهم أنهم كانوا يتكلمون حتى نزلت (وقوموا لله قانتين). اهـ
وروى عبد الرزاق في المصنف (4056)، عن الثوري، عن أبي هاشم، عن مجاهد، قال:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، قال: هذا في الصلاة. وإسناده صحيح، وأبو هاشم: هو إسماعيل بن كثير المكي، انظر القراءة خلف الإمام للبيهقي (260).
(3)
. روى ابن أبي شيبة في المصنف (8382)، حدثنا غندر، عن شعبة، عن منصور، قال: سمعت =
وسميت الخطبة قرآنًا؛ لاشتمالها عليه، ولا يقال: إنه يجمع بين الصلاة والاستماع؛ لأن الاشتغال بالصلاة، والقراءة فيها تنفي الاستماع
(1)
.
وقد نقل ابن رجب في شرح البخاري عن الإمام أحمد أنه قال: أجمعوا أن هذه الآية نزلت في الصلاة، وفي الخطبة
(2)
.
وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: قال الإمام أحمد في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، قال: أجمع الناس أنها نزلت في الصلاة.
وقد قيل: في الخطبة، والصحيح أنها نزلت في ذلك كله
(3)
.
•ويجاب بأجوبة منها:
الجواب الأول:
لعل مراد الإمام أحمد أن الأقوال في نزول الآية عند السلف بعضهم قال: نزلت في الصلاة، وبعضهم قال: نزلت في الخطبة، فإحداث قول ثالث يخالف اتفاقهم، ولا يقصد أن الإجماع حصل على الصلاة والخطبة، يبين ذلك عبارة ابن المنذر في الأوسط بعد أن ساق الآثار في نزول الآية عن ابن عباس وأبي هريرة أنها نزلت في الصلاة، قال: «وقال آخرون: في الخطبة، وقد ذكرت أسانيدها في غير هذا الموضع، فقال بعض من يقول بهذا القول: لولا أنهم اتفقوا على أن الآية نزلت في الصلاة، أو في الصلاة والخطبة لوجب بظاهر الكتاب على كل من سمع قارئًا يقرأ أن يستمع لقراءته؛ لقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ
= إبراهيم بن أبي حرة، أنه سمع مجاهدًا قال في هذه الآية:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، قال: في الصلاة والخطبة يوم الجمعة.
ومن طريق شعبة أخرجه سعيد بن منصور في سننه، كتاب التفسير (977)، والبيهقي في القراءة خلف الإمام (263، 264)، وسنده صحيح، وإبراهيم بن أبي حرة وثقه ابن معين وأحمد، وأبو حاتم، وزاد الأخير: لا بأس به.
(1)
. انظر التجريد للقدوري (2/ 942).
(2)
. فتح الباري لابن رجب (8/ 269) و (8/ 280).
(3)
. الفتاوى الكبرى (5/ 355)، المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 128).
تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، فلما أجمعوا على إسقاط وجوب الاستماع عن كل سامع قارئًا يقرأ إلا عن السامع لقراءة الإمام، وهو خلفه، والسامع لخطبة الإمام خرج ذلك عن عموم الكتاب وظاهره بالاتفاق»
(1)
.
فحكى الاختلاف هل نزلت في الصلاة أو في الصلاة والخطبة، وجعل الاتفاق هو في إسقاط وجوب الاستماع لمن سمع قارئًا، ولم يكن إمامًا، ولا خطيبًا، وأما وجوب الاستماع للإمام إذا قرأ، أو الخطيب إذا قرأ فهو محل نزاع، وإذا كان الفقهاء قد اختلفوا في سقوط الفاتحة عن المأموم إذا قرأ الإمام، فالخلاف في سقوط استماع الخطيب حال تحية المسجد من باب أولى، هذا معنى حكاية الاتفاق والاختلاف، والله أعلم.
الجواب الثاني:
بأن الآية عامة، تشمل الصلاة، وتشمل كل من كان يستمع الخطبة، وحديث جابر خاص في حق رجل دخل والإمام يخطب، والخاص مقدم على العام عند أهل الأصول؛ لأن العام ظني الدلالة على عموم أفراده؛ لكونه مظنة التخصيص، والخاص قطعي الدلالة؛ لأنه لا يحتمل ذلك، فإن كان في الخطبة قرآن يجب الاستماع له فهو مخصوص بالسنة الصحيحة، ولا مانع من تخصيص عموم القرآن وتقييد مطلقه بالسنة، كما أوجب بعض الفقهاء قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية، ولو قرأ الإمام تقييدًا للآية بحديث: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.
الدليل الثاني:
(ح-1134) ما رواه البخاري ومسلم من طريق عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب،
أن أبا هريرة، أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت
(2)
.
وجه الاستدلال:
قال ابن العربي: «إذا منعه بحرمة الخطبة عن الأمر بالمعروف، والنهي عن
(1)
. الأوسط (3/ 105).
(2)
. صحيح البخاري (934)، وصحيح مسلم (11 - 851).
المنكر، وهو فرض، فأولى وأحرى أن يمنعه عن تحية المسجد، وهي فضل»
(1)
.
• وأجيب:
تحية المسجد في وجوبها نزاع، وعلى التسليم بأنها سنة فلا يمنع أن تقدم السنة على الواجب إذا كانت السنة يسيرة جدًّا لا يؤدي تقديمها إلى فوات الواجب، وقد ينازع في وقت وجوب سماع الخطبة، أيجب الاستماع بمجرد سماعها ولو قبل دخول المسجد، أم يجب الاستماع بعد الدخول وقبل تحية المسجد، أم لا يجب الاستماع إلا بعد أن يصلي تحية المسجد، وكلها احتمالات، والأمر بوجوب الإنصات للخطبة عام، خص منه الداخل حتى يصلي تحية المسجد، وإذا خص من الوجوب لم يبق الاستماع واجبًا في حق الداخل.
وأما حديث النهي عن إنكار المنكر فالمراد من الحديث الحض على الإنصات وترك الكلام، ولو فتح الباب للمصلين لينصح بعضهم بعضًا لربما أفسدوا على الإمام خطبته بظهور اللغو بين المصلين في أثناء الخطبة، بخلاف تحية المسجد فهي لا تؤثر على سماع الناس الخطبة، وقد أمر المصلي بتخفيفها، لهذا فالصحيح أن حديث الأمر بصلاة تحية المسجد مقيد لإطلاق هذا الحديث.
الدليل الثالث:
(ح-1135) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية يعني ابن صالح، عن أبي الزاهرية، قال:
كنت جالسًا مع عبد الله بن بسر يوم الجمعة، فجاء رجل يتخطى رقاب الناس، ورسِول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: اجلس، فقد آذيت، وآنيت
(2)
.
[إسناده جيد إن كان حفظه معاوية بن صالح، فقد تفرد به عن أبي الزاهرية]
(3)
.
• وقد رده ابن حزم من أربعة وجوه:
أحدها: أنه لا يصح، لأنه من طريق معاوية بن صالح، لم يَرْوِهِ غيره، وهو ضعيف.
(1)
. القبس (1/ 351).
(2)
. المسند (4/ 190).
(3)
. سبق تخريجه في مسألة حكم تحية المسجد.
الوجه الثاني: أن الحديث لو صح ليس فيه أنه لم يكن ركعهما.
الوجه الثالث: لو سلمنا صحة الخبر، وأنه لم يكن ركع لكان ممكنًا أن يكون قبل أمر النبي صلى الله عليه وسلم من جاء، والإمام يخطب بالركوع، وممكنًا أن يكون بعده، ومع عدم القطع لا يكون لهم فيه حجة، ولا عليهم.
الوجه الرابع: أنه لو صح الخبر، وصح فيه أنه لم يكن ركع، وصح أن ذلك كان بعد أمره عليه السلام من جاء والإمام يخطب بأن يركع، وكل ذلك لا يصح منه شيء، لما كانت لهم فيه حجة، لأننا لم نقل: إنهما فرض، وإنما قلنا: إنهما سنة يكره تركها، وليس فيه نهي عن صلاتهما، فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة وتفصيلًا
(1)
.
وكلام ابن حزم متين، ويضاف إليه أن ظاهر حديث معاوية بن صالح، معارض لحديث عمرو بن دينار، وأبي الزبير، عن جابر، والأول في الصحيحين، والثاني في صحيح مسلم، حيث أقام النبي صلى الله عليه وسلم الرجل بعد أن جلس ليصلي تحية المسجد، فلا يترك الصريح البين لحديث يتطرق له جملة من الاحتمالات، أقلها أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالجلوس أراد به منعه من تخطي الرقاب، ولم يرد به إسقاط تحية المسجد، ولم يذكرها لكونها معلومة لهم، فاستغنى بعلمهم لها عن ذكرها، والله أعلم.
* * *
(1)
. انظر المحلى (3/ 279).