الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع ضابط العجز المسقط للقيام
المدخل إلى المسألة:
• العجز عن القيام لا يراد به عدم الإمكان، وحكي إجماعًا.
• كل ما لم يرد ضبطه في الشرع على وجه التحديد فالعمل به على وجه التقريب.
• ما لم يرد ضبطه بالتحديد من قبل الشارع أريد منه التوسعة؛ لتفاوت الناس في تحمل المشاق، فكان المصلي هو المحكم لا ذات المشقة.
• قاعدة: المشقة تجلب التيسير؛ من القواعد المتفق عليها في الجملة.
• الضابط في المشقة: أن تضبط مشقة كل عبادة بأدنى المشاق المعتبرة في تخفيف تلك العبادة، فإن كانت مثلها، أو أزيد، ثبتت الرخصة. انظر الأمثلة في البحث.
• المشقة الخفيفة وما قرب منها لا تسقط القيام، والعجز عن القيام وما قرب منه يسقطه، والاجتهاد فيما بين ذلك من المشاق.
• المشقة ليست علة لسقوط القيام، وإلا لسقط القيام عن الصحيح إذا شق عليه القيام، وإنما العلة هو المرض إذا كان مظنة لزيادة الألم، أو المرض، أو تأخر البرء، أو الذهول عن الخشوع والتدبر.
• المشقة التي لا تنفك عن العبادة كالوضوء في البرد والصوم في الحر والمخاطرة في النفس بالجهاد لا توجب تخفيفًا في العبادة؛ لأنه فرض معها.
• يشترط في الانتقال من القعود إلى الاضطجاع عذر أشق من الانتقال من القيام إلى القعود؛ لأن الاضطجاع منافٍ لتعظيم العبادات، بخلاف القعود فإنه مباح بلا عذر كما في التشهد، ولأن القعود أقل كلفة على المريض من القيام
(1)
.
(1)
. الذخيرة للقرافي (2/ 162)، قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 12)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 81).
[م-494] المصلي الذي لا يقدر على القيام فهذا لا خلاف أنه يصلي قاعدًا ضرورة، ولا يكلف بالقيام؛ لأنه تكليف بما لا يطاق.
وأما المشقة الخفيفة التي لا يُخْشَى منها زيادةٌ في المرض، ولا تَأَخُّرٌ في البرء، ولا تلهي عن الخشوع في الصلاة، ولا عن تدبر الأذكار، فهذه لا تسقط القيام.
وهناك مشقة بين هاتين المرتبتين، فما دنا من العليا أوجب التخفيف، وما قرب من الدنيا، كحمى خفيفة لم يوجبه، ولا يوجد ضابط يمكن الرجوع إليه إلا بالتقريب، وقد ذكر القرافي أن المشاق تختلف باختلاف رتب العبادات فما كان في نظر الشرع أهم يشترط في إسقاطه أشد المشاق أو أعمها، وما لم تعظم مرتبته في نظر الشرع تؤثر فيه المشاق الخفيفة.
وقد أشار الشيخ العز بن عبد السلام إلى أن الأولى في ضبط مشاق العبادات: أن تضبط مشقة كل عبادة بأدنى المشاق المعتبرة في تخفيف تلك العبادة، فإن كانت مثلها، أو أزيد، ثبتت الرخصة، وإن كانت أدنى منها لم توجب التخفيف.
ولذلك اعتبر في مشقة المرض المبيح للفطر في الصوم: أن يلحقه مشقة في الحضر بسبب المرض كمشقة الصوم في السفر.
وفي إباحة محظورات الإحرام: أن يحصل بتركها، مثل مشقة القمل الوارد فيه الرخصة.
وفي إباحة ترك القيام إلى القعود: أن يحصل به ما يشوش الخشوع وتدبر الأذكار، ولا يشترط فيها الضرورة، ولا العجز عن صورة القيام اتفاقًا
(1)
.
قال القرافي: لا تشترط الضرورة، ولا العجز عن إيقاع صورة القيام إجماعًا
(2)
.
فإذا كان العجز لا يراد به معناه اللغوي: أي عدم الإمكان، فمتى يسمى المصلي عاجزًا شرعًا عن القيام؟
(1)
. الفروق للقرافي (1/ 119، 121)، قواعد الأحكام (2/ 11، 12)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 81)، وانظر: حاشية الجمل (1/ 340)، نهاية المحتاج (1/ 468)، كفاية النبيه (4/ 92).
(2)
. القرافي في الذخيرة (2/ 162)، وحكاه ابن عبد السلام في القواعد (2/ 12)، المنثور في القواعد الفقهية (3/ 172)،.
اختلف العلماء في هذا:
فقيل: إذا غلب على ظن المصلي زيادةٌ في مرضه، أو تَأَخُرٌ في برئه، أو تَعَرُّضٌ لمشقة شديدة بسبب المرض صلى جالسًا، وهذا هو ضابط العجز عند الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والأصح عند الحنابلة
(1)
.
وقيدت (المشقة) بسبب المرض؛ لأن الصحيح إذا لحقته مشقة فادحة بسبب القيام لا يسقط عنه القيام؛ لأن المشقة مشقة حالية تنقضي بانقضاء الصلاة، فهي خفيفة، فإن كان مع المشقة مرض صلى جالسًا؛ لأن المشقة مع المرض يخشى منها حدوث مرض، أو زيادته، أو تأخر برء ونحوه
(2)
.
• واستدل الجمهور على مذهبهم:
الدليل الأول:
من الكتاب: قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
ومن القواعد المتفق عليها: أن المشقة تجلب التيسير.
الدليل الثاني:
(ح-1208) ما رواه الشيخان من طريق مالك، عن ابن شهاب،
عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسًا، فَصُرِعَ عنه فجحش شقه الأيمن، فصلى صلاةً من الصلوات وهو قاعد، فصلينا وراءه قعودًا
…
(3)
.
ورواه البخاري ومسلم من طريق سفيان، عن الزهري به، وفيه:
…
فحضرت الصلاة، فصلى بنا قاعدًا
…
الحديث
(4)
.
(1)
. البحر الرائق (2/ 121)، تبيين الحقائق (1/ 200)، حاشية ابن عابدين (2/ 96)، فتح القدير (2/ 3)، حاشية الدسوقي (1/ 256)، شرح الخرشي (1/ 294)، الموافقات (1/ 331)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 358)، منح الجليل (1/ 273)، الدر الثمين والمورد المعين (ص: 248)، الإنصاف (2/ 305)، المبدع (2/ 108)، كشاف القناع (1/ 498)، شرح منتهى الإرادات (1/ 287)، مطالب أولي النهى (1/ 706).
(2)
. حاشية الدسوقي (1/ 256).
(3)
. صحيح البخاري (689)، وصحيح مسلم (80 - 411).
(4)
. صحيح البخاري (805)، وصحيح مسلم (77 - 411).
وجه الاستدلال:
فقوله: (فحضرت الصلاة) أي حضر وقتها، وأل في (الصلاة) للعهد، لأنها هي التي تحضر بحضور وقتها، وتعقد لها الجماعة.
قال ابن قدامة: «والظاهر أنه لم يكن يعجز عن القيام بالكلية، لكن لما شَقَّ عليه القيام سقط عنه»
(1)
.
الدليل الثاني:
قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
وجه الاستدلال:
فالمسافر أقوى على الصوم من المريض على القيام بالصلاة، والصوم أحد أركان الإسلام، فتقاس عليه الصلاة بجامع المشقة، وإن لم يتعذر عليه القيام.
الدليل الثالث:
ولأنه لو تحمل الصلاة، فقام، فزاد مرضه بسبب ذلك أَثِمَ؛ لأن الإنسان ممنوع من إلحاق الضرر ببدنه.
وقيل: ضابط العجز: أن يلحقه بالقيام مشقة تلهيه عن الخشوع وتدبر الأذكار، اختاره بعض المالكية، وبعض الشافعية
(2)
.
• ورد هذا القول:
بأن إذهاب الخشوع لا ينشأ إلا عن حصول مشقة شديدة، فلا فرق بين القولين
(3)
.
• واستدل أصحاب هذا القول:
الدليل الأول:
بأن مراعاة الخشوع وتحصيل التدبر في الصلاة مقصود من إقامة الصلاة،
قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
(1)
. المغني (2/ 108، 109)، وانظر: شرح منتهى الإرادات (1/ 290).
(2)
. الذخيرة للقرافي (2/ 162)، قواعد الأحكام بمصالح الأنام (2/ 12)، المنثور في القواعد الفقهية (3/ 172)، المجموع (4/ 310)، مغني المحتاج (1/ 349)، نهاية المحتاج (1/ 468)، حاشية الجمل (1/ 340).
(3)
. انظر: مغني المحتاج (1/ 349)، نهاية المحتاج (1/ 468).
وقال تعالى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُون} [المؤمنون: 1، 2].
الدليل الثالث:
(ح-1209) ما رواه مسلم من طريق يعقوب بن مجاهد، عن ابن أبي عتيق،
عن عائشة، قالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان
(1)
.
(ح-1210) وروى البخاري ومسلم من طريق الزهري،
عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا حضر العشاء، وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء، وهذا لفظ مسلم
(2)
.
وجه الاستدلال:
فمن أجْلِ كمال الخشوع قُدِّمَ الطعام على الصلاة، حتى ولو أقيمت الصلاة، فكيف إذا كان ألم المشقة مع القيام يذهب بأصل الخشوع أو أكثره.
وقيل: لا يصلي قاعدًا إذا أمكنه القيام، وهو رواية عن أحمد، وحكاه الباجي في شرح الموطأ
(3)
.
وقال ميمون بن مهران: إذا لم يستطع أن يقوم لدنياه صلى جالسًا
(4)
.
• ودليل هذا القول:
(ح-1211) ما رواه البخاري من طريق إبراهيم بن طهمان، قال: حدثني الحسين المكتب، عن ابن بريدة،
عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب
(5)
.
(1)
. صحيح مسلم (67 - 560).
(2)
. صحيح البخاري (672)، وصحيح مسلم (64 - 557).
(3)
. قال الباجي في المنتقى (1/ 241): «فأما من تجوز له الفريضة قاعدًا فهو المقعد الذي لا يقدر على القيام، أو المريض الذي لا يستطيع بحال .... » .
وقال في الإنصاف (2/ 305): «وعنه -أي عن أحمد- لا يصلي قاعدًا إلا إذا عجز عن القيام» .
(4)
. الأوسط لابن المنذر (4/ 373)، المغني لابن قدامة (2/ 106).
(5)
. صحيح البخاري (1117).
فما دام قادرًا على القيام وإن كان بمشقة فالقيام واجب، وهذا القول أضعفها؛ لأن من قام في الصلاة، وهو يتوجع من القيام، ويذهله الألم عن إقامة حق الصلاة من خشوع وتدبر فهو لم يستطع شرعًا، والله أعلم.
* * *