المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني في موضوع نظر المصلي في اثناء الصلاة - الجامع في أحكام صفة الصلاة - الدبيان - جـ ١

[دبيان الدبيان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌الباب الأول في صفة الصلاة

- ‌الفصل الأول في الأحكام المرتبطة بالخروج إلى الصلاة

- ‌المبحث الأول في استحباب الخروج متطهرًا بنية الصلاة

- ‌المبحث الثاني لا يستحب دعاء خاص للخروج إلى الصلاة

- ‌المبحث الثالث في الوقت الذي يجب الذهاب فيه للصلاة

- ‌المبحث الرابع في الخروج إلى الصلاة بسكينة ووقار

- ‌المبحث الخامس في كراهة التشبيك بين الأصابع إذا خرج إلى الصلاة

- ‌المبحث السادس في استحباب كثرة الخطا في الذهاب للصلاة

- ‌الفرع الأول في اختيار المسجد الأبعد طلبَا لكثرة الخطا

- ‌الفرع الثاني في استحباب مقاربة الخطا

- ‌الباب الثاني في الأحكام المرتبطة بدخول المسجد

- ‌الفصل الأول في استحباب تقديم اليمنى في الدخول واليسرى في الخروج

- ‌الفصل الثاني في استحباب الذكر الوارد لدخول المسجد

- ‌المبحث الأول في استحباب الاستعاذه

- ‌المبحث الثاني في استحباب التسمية والدعاء بالمغفرة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لدخول المسجد

- ‌المبحث الثالث في صلاة ركعتين قبل الجلوس

- ‌المبحث الرابع لا تشرع التحية لمن أدخل يده أو رأسه فقط

- ‌المبحث الخامس في تكرار تحية المسجد بتكرار الدخول

- ‌المبحث السادس في مشروعية تحية المسجد للمرور بلا مكث

- ‌المبحث السابع في فوات تحية المسجد بالجلوس

- ‌المبحث الثامن في حكم تحية المسجد

- ‌المبحث التاسع في منزلة تحية المسجد من السنن

- ‌المبحث العاشر تحية المسجد لمن صلى ركعتي الفجر في البيت

- ‌المبحث الحادي عشر اختصاص التحية بالمسجد

- ‌المبحث الثاني عشر صلاة تحية المسجد في وقت النهي

- ‌المبحث الثالث عشر في اشتراط النية لتحية المسجد

- ‌المبحث الرابع عشر في حصول تحية المسجد في أقل من ركعتين

- ‌المبحث الخامس عشر في صلاة تحية المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب

- ‌المبحث السادس عشر في تحية المسجد إذا أقيمت الصلاة

- ‌الفرع الأول في ابتداء النافلة بعد إقامة الصلاة

- ‌الفرع الثاني إذا أقيمت الصلاة وهو يصلي النافلة

- ‌الباب الثالث في الأحكام التي تسبق تكبيرة الإحرام

- ‌الفصل الأول في قيام المأموم والإمام ليس في المسجد

- ‌الفصل الثاني في وقت قيام المأموم للصلاة والإمام في المسجد

- ‌الفصل الثالث في وقت تكبير الإمام بالصلاة

- ‌الفصل الرابع في تسوية الصفوف

- ‌الباب الرابع في أحكام تكبيرة الإحرام

- ‌توطئه

- ‌الفصل الأول في حكم تكبيرة الإحرام

- ‌الفصل الثاني في شروط تكبيرة الإحرام

- ‌الشرط الأول أن تقع تكبيرة الإحرام مقارنة للنية حقيقة أو حكمًا

- ‌الشرط الثاني أن يأتي بتكبيرة الإحرام قائمَا فيما يشترط فيه القيام

- ‌المبحث الأول في انقلاب الصلاة نفلَا إذا بطلت فرضًا

- ‌المبحث الثاني إذا كبر المسبوق تكبيرة واحدة ولم يكبر للركوع

- ‌الشرط الثالث أن تكون التحية بلفظ الله أكبر لا يجزئ غيرها

- ‌مبحث في تنكيس التكبير

- ‌الشرط الرابع أن يكون التكبير متواليًا

- ‌الشرط الخامس في اشتراط إسماع المصلي نفسه تكبيرة الإحرام والذكر الواجب

- ‌الشرط السادس أن تكون التحريمة بالعربية من القادر عليها

- ‌الشرط السابع سلامة التكبير من اللحن المغير للمعنى

- ‌الشرط الثامن في اشتراط القدرة على التكبير

- ‌الباب الخامس أحكام القيام في الصلاة

- ‌الفصل الأول حكم القيام

- ‌الفصل الثاني في منزلة القيام بالصلاة

- ‌الفصل الثالث في قدر القيام

- ‌الفصل الرابع في صفة القيام

- ‌الفصل الخامس في استناد المصلي في القيام

- ‌الفصل السادس في سقوط القيام عن المصلي

- ‌المبحث الأول لا يجب القيام في صلاة النافلة

- ‌المبحث الثاني افتتح النافلة قائمَا فأراد الجلوس من غير عذر

- ‌المبحث الثالث يسقط القيام بالعجز

- ‌المبحث الرابع ضابط العجز المسقط للقيام

- ‌المبحث الخامس سقوط القيام بالخوف

- ‌المبحث السادس في سقوط القيام من أجل المحافظة على الطهارة

- ‌المبحث السابع في المراوحة بين القدمين في الصلاة

- ‌المبحث الثامن في الصاق إحدى القدمين بالأخرى حال القيام

- ‌الفصل السابع في موضع النظر أثناء الصلاة

- ‌المبحث الأول في النظر إلى السماء أثناء الصلاة

- ‌المبحث الثاني في موضوع نظر المصلي في اثناء الصلاة

- ‌المبحث الثالث في موضوع نظر المصلي حال الركوع والسجود والجلوس

- ‌الفصل الثامن في رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام

- ‌المبحث الأول في مشروعية رفع اليدين

- ‌المبحث الثاني في صفة رفع اليدين

- ‌الفرع الأول في صفة رفع الأصابع

- ‌الفرع الثاني في صفة رفع الكفين

- ‌الفرع الثالث في منتهى الرفع

- ‌الفرع الرابع في رفع المرأة يديها في الصلاة

- ‌الفرع الخامس في ابتداء وقت الرفع وانتهائه

- ‌الفرع السادس في وضع اليدين بعد الفراغ من تكبيرة الإحرام

- ‌مسألة في حكم وضع اليد اليمنى على اليسرى

- ‌الفرع السابع في مكان وضع اليدين

- ‌الفرع الثامن في وقت القبض

- ‌الفرع التاسع في صفة وضع اليدين

الفصل: ‌المبحث الثاني في موضوع نظر المصلي في اثناء الصلاة

‌المبحث الثاني في موضوع نظر المصلي في اثناء الصلاة

المدخل إلى المسألة:

• الخشوع: هو السكون في الصلاة، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} فجعل الخشوع في مقابل حركتها بالاهتزاز.

• الخشوع يكون في القلب، وفي البصر بترك رفعه إلى السماء، وفي الجوارح بترك الحركة والالتفات من غير حاجة، والأول غاية والباقي علامات ووسائل لتحصيله.

• نهى الشارع عن رفع البصر إلى السماء وسكت عن الباقي، وما كان ربك نسيًّا.

• الأصل عدم المشروعية

• مقتضى الامتثال فيما لم يرد في صفته نص صحيح أن يكون المصلي على طبيعته؛ ولا ينتقل عنها إلا بتوقيف.

• لم يحفظ في النظر إلى موضع السجود دليل تقوم به الحجة، أيأتي ذكر آداب الدخول للخلاء وآداب الأكل والشرب والنوم، في أحاديث صحيحة، ثم لا يأتي في النظر إلى موضع السجود إلا حديث فرد مرسل؟

• ضعف الأدلة مع عموم الحكم وتكراره وتعلقه بأعظم العبادات العملية دليل على ضعف الحكم نفسه، بخلاف الحكم الخاص والنادر.

• قال صلى الله عليه وسلم: ائتموا بي ولْيَأْتَمَّ بكم من بعدكم، واقتداء الصف الثاني بالأول اقتداء بالأفعال، لا بسماع التكبير، ويلزم منه النظر إلى الصف لا إلى موضع السجود.

• نظر المصلي إلى قبلته لا ينافي كمال الخشوع، كما أن نظره إلى إمامه، ونظر الصف الثاني إلى الأول لا ينافيه.

• ما ثبت في حق المأموم ثبت في حق المنفرد والإمام إلا بدليل.

ص: 486

[م-500] اختلف الفقهاء في الموضع الذي ينظر إليه المصلي إذا كان قائمًا:

فقيل: ينظر المصلي إلى موضع سجوده، وبه قال الجمهور، قال الشافعية: وإن كان أعمى أو في ظلمة

(1)

.

وقال مالك: يكون بصره إلى قبلته من غير أن يلتفت إلى شيء، أو ينكس بصره، ويكره أن يضع بصره موضع سجوده فقط، وهو من مفردات مذهب الإمام مالك رحمه الله

(2)

.

وقال البخاري في صحيحه: باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة

(3)

.

ومقصود البخاري مد البصر إلى الإمام

(4)

.

وقال في البويطي: وينظر المصلي في صلاته إلى موضع سجوده، وإن رمى ببصره إمامه كان حسنًا

(5)

.

وقيل: ينظر المصلي في قيامه إلى صدره، حكاه ابن كثير في تفسيره، ولم يُسَمِّ من قال به

(6)

.

واستحب الماوردي والروياني وبعض الحنابلة النظر إلى الكعبة إذا صلى في المسجد الحرام، وحكاه المحب الطبري وجهًا، وضعفه البلقيني والإسنوي وغيرهما، والصحيح أن المسجد الحرام كغيره

(7)

.

(1)

. الأصل للشيباني (1/ 8)، تحفة الفقهاء (1/ 141)، بدائع الصنائع (1/ 215)، البحر الرائق (1/ 321)، حاشية ابن عابدين (1/ 645)، الحاوي الكبير (2/ 191)، المجموع (3/ 314)، تحفة المحتاج (2/ 100)، نهاية المحتاج (1/ 546)، مغني المحتاج (1/ 390)، كفاية النبيه (3/ 99)، التهذيب في فقه الشافعي (2/ 137)، بداية المحتاج (1/ 290)، الهداية على مذهب أحمد (ص: 82)، الكافي (1/ 244)، المغني (2/ 6، 7)، المبدع (1/ 381)، الإنصاف (2/ 46)، الإقناع (1/ 114)، شرح منتهى الإرادات (1/ 186).

(2)

. البيان والتحصيل (1/ 220)، الذخيرة للقرافي (2/ 166)، شرح الخرشي (1/ 293)، النوادر والزيادات (1/ 186)،.

(3)

. صحيح البخاري (1/ 150).

(4)

. فتح الباري لابن رجب (6/ 438).

(5)

. بحر المذهب للروياني (2/ 60).

(6)

. تفسير ابن كثير، ت السلامة (1/ 461).

(7)

. مغني المحتاج (1/ 390)، تحفة المحتاج (2/ 100)، النجم الوهاج في شرح المنهاج (2/ 177)،

حاشية اللبَّدي على نيل المآرب (1/ 61).

ص: 487

وقال بعض الشافعية: من صلى على جنازة، فالمستحب أن ينظر إليها

(1)

.

• دليل الجمهور على استحباب النظر إلى موضع السجود:

الدليل الأول:

(ح-1217) ما رواه الحاكم في المستدرك من طريق إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن محمد بن سيرين،

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُون} [المؤمنون: 2] فطأطأ رأسه

(2)

.

[الصحيح أنه مرسل]

(3)

.

(1)

. نهاية المحتاج (1/ 546)، مغني المحتاج (1/ 390).

(2)

. المستدرك (3483).

(3)

. ومن طريق الحاكم رواه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 402).

الحديث مداره على ابن سيرين، ورواه عنه جماعة:

الأول: أيوب، عن ابن سيرين.

رواه إسماعيل بن علية، عن أيوب، واختلف على إسماعيل:

فرواه سعيد بن منصور كما في سنن البيهقي (2/ 402)،

ويعقوب بن إبراهيم (الدورقي) كما في تفسير الطبري، ت شاكر (8/ 19)، كلاهما عن إسماعيل بن علية، عن أيوب مرسلًا.

ورواه الواحدي في أسباب النزول، ت زغلول (626)، والحاكم في المستدرك (3483)، وعنه البيهقي (2/ 402)، من طريق أحمد بن يعقوب الثقفي (فيه جهالة)، أخبرنا أبو شعيب الحراني (صدوق)، حدثني أبي (ثقة)، حدثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة موصولًا.

وهذا إسناد منكر، ولعل الحمل فيه على أحمد بن يعقوب الثقفي، وقد أكثر عنه الحاكم، وترجم له الذهبي في تاريخ الإسلام (7/ 735)، فقال فيه: الزاهد العابد، نسيب أبي العباس السراج، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، فمثله لا يمكن احتمال مخالفته، فالمعروف ما رواه سعيد بن منصور والدورقي، عن ابن علية به، مرسلًا.

قال البيهقي بعده (2/ 402): «ورواه حماد بن زيد، عن أيوب مرسلًا، وهذا هو المحفوظ» .

وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: الصحيح مرسل.

كما رواه عبد الرزاق في المصنف (3262)، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: كان =

ص: 488

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= النبي صلى الله عليه وسلم يرفع رأسه إلى السماء .... وذكر الأثر.

فصار طريق أيوب، رواه حماد بن زيد، ومعمر، عن أيوب مرسلًا.

وكذا رواه سعيد بن منصور، ويعقوب بن إبراهيم، كلاهما عن ابن علية، عن أيوب مرسلًا.

ورواه أحمد بن يعقوب الثقفي عن أبي شعيب الحراني، عن أبيه، عن إسماعيل بن علية به موصولًا. وهذا الإسناد منكر.

الثاني: عبد الله بن عون، عن ابن سيرين، واختلف على ابن عون فيه:

رواه جرير بن حازم، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة موصولًا.

رواه الطبراني في الأوسط (4082) حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: أخبرنا حبرة بن لخم الإسكندراني (قال ابن يونس: ثقة من أصحاب عبد الله بن وهب)، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، عن جرير بن حازم به.

قال الطبراني: لم يَرْوِ هذا الحديث عن ابن عون إلا جرير، ولا عن جرير إلا ابن وهب، تفرد به حبرة. اهـ

فأشار الطبراني إلى تفرد جرير عن ابن عون في رفعه، كما أشار إلى تفرد حبرة بن لخم، عن ابن وهب، وتفرد علي بن عبد العزيز عن حبرة، ولعل علي بن عبد العزيز هو أضعف من في الإسناد، قال فيه الدارقطني: ليس بذاك، تفرد بأشياء، وقال ابن يونس: كان يفهم ويحفظ، وابن يونس أعلم به فهو من بلده، وعبارته وإن كانت عبارة توثيق إلا أنها لا تدل على متانة في الحفظ والفهم، فهو حسن بشرط ألا يتفرد ولا يخالف، وقد تفرد هنا وخالف، فالإسناد شاذ.

وتابعه على رفعه سعيد أبو زيد الأنصاري إلا أن الإسناد إليه ضعيف جدًّا.

رواه البيهقي في السنن (2/ 401) من طريق محمد بن يونس (متهم بالكذب) حدثنا سعيدبن أوس أبو زيد الأنصاري (إمام في النحو غلبت عليه اللغة والنوادر والغريب، صدوق له أوهام)، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة موصولًا.

فهذه المتابعة، لا تسمن ولا تغني.

فما يتفرد به الطبراني في معاجمه حتى ولو كان ظاهره الصحة إذا تفرد به وكان غريب الإسناد، فهو من المنكرات التي لا يمكن الاعتماد عليها.

قال ابن رجب في شرح العلل (2/ 624): «قال أبو بكر الخطيب: أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب عليهم كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ، من رواية المجروحين والضعفاء حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنبًّا، والثابت مصدوفًا عنه مطرحًا، وذلك لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم، ونقصان علمهم بالتمييز، وزهدهم في تعلمه.

وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين الأعلام من أسلافنا الماضين.

قال ابن رجب: وهذا الذي ذكره الخطيب حق. ونجد كثيرًا ممن ينتسب إلى الحديث، =

ص: 489

• ونوقش:

الأول: أن الحديث مرسل، والمرسل لا حجة فيه على الصحيح كما هو مذهب

=

لا يعتني بالأصول الصحاح كالكتب الستة ونحوها، ويعتني بالأجزاء الغريبة، وبمثل مسند البزار، ومعاجم الطبراني، وأفراد الدارقطني: وهي مجمع الغرائب والمناكير».

قال المعلمي كما في النكت الجياد (4/ 137): إنما قصدوا جمع غرائب الأحاديث، وأوهام الرواة، وراموا جمع ما لم يكن مخرجًا في كتب الصِّحاحِ والأُصُولِ المعروفة، وإنما كانت تلك الأحاديث متداولةً على ألسنةِ من لم يَكْتُبْ حديثَه المحدثون، فهجروها عمدًا ولم يخرجوها في كتبهم .... وقد أضلَّ هذا القسمُ قومًا مِمَّنْ لم يتدبروا ما سلف من مناهج الأئمة والمصنِّفين، فاغْترُّوا بكثرة الطُّرقِ الواردةِ في تلك المصنفاتِ، وحسِبُوا أنهم وقفوا على ما لم يقفْ عليه المتقدمون، فسمُّوا تلك الطرق (متابعاتٍ وشواهد) فجعلوا الغرائب والمناكير عواضِد يشدُّون بها ما اسْتقرَّ أهلُ النَّقْدِ على طرْحِهِ ووهنِهِ، ولم يفْطِنْ هؤلاءِ القومُ إلى أن عُصُور الرواية قد انقضتْ وتلك الأحاديثُ في عُيون النقاد غريبةٌ منكرةٌ مهجورةٌ، فلم ينصفْ هؤلاءِ أسلافهم ولم يقدرُوهم قدرهم، بل دلَّ صنيعهم على اعتقاد أنهم قصَّرُوا في تحصيلِ تِلْك الطرق، ولم يفطنوا إلى منهج أولئك المصنِّفين في أنهم ما أخرجوا تلك الطرق للاحتجاج ولا للاعتبار».

وقد خالف جرير بن حازم وأبا زيد سعيد بن أوس الأنصاري جمع من الرواة، رووه عن ابن عون مرسلًا، منهم:

الأول: هشيم بن بشير كما في مصنف ابن أبي شيبة (6322)، وتفسير الطبري (17/ 7)،

الثاني: عيسى بن يونس كما في تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر (137)،

الثالث: هشام بن حسان، كما في تعظيم قدر الصلاة (136).

الرابع: أبو شهاب عبد ربه بن نافع الحناط (صدوق). أخرجه أبو داود في المراسيل كما في المراسيل لأبي داود (45)، وانظر: تحفة الأشراف (13/ 357).

الخامس: يونس بن بكير (صدوق). أخرجه البيهقي (2/ 401) من طريق أحمد بن عبد الجبار (قال الدارقطني: اختلف فيه شيوخنا، ولم يكن من أهل الحديث. اهـ وقال ابن حجر: ضعيف وسماعه للسيرة صحيح)، حدثنا يونس بن بكير، خمستهم (هشيم، وعيسى، وهشام، وأبو شهاب، ويونس بن بكير) رووه عن ابن عون، عن ابن سيرين مرسلًا، وهو المحفوظ.

الثالث: خالد الحذاء، عن ابن سيرين:

رواه عبد الرزاق في المصنف (3261)، عن سفيان الثوري،

ورواه الطبري في تفسيره، ت شاكر (19/ 8) من طريق المعتمر بن سليمان، كلاهما عن خالد الحذاء به، مرسلًا.

فتبين بهذا أن المعروف من الحديث أنه مرسل.

ص: 490

الشافعية، ورواية عن أحمد، فإذا خالف المرسل ظاهر الأحاديث الموصولة كان طرحه متعينًا حتى عند من يحتج بالمرسل من الأئمة.

الثاني: رفع البصر إلى السماء منهي عنه في حديث لا خلاف في صحته، ورفعه ينافي خشوع البصر، ولا يتوقف خشوع البصر على طأطأة الرأس، ولهذا روى عبد الرزاق مقرونًا بهذا الأثر، عن معمر، سمعت الزهري يقول في قوله:(خاشعون): قال: السكون في الصلاة، وقاله الثوري، عن منصور، عن مجاهد مثله

(1)

.

الدليل الثاني:

(ح-1218) روى ابن ماجه، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: حدثنا خالي محمد بن إبراهيم بن المطلب بن السائب بن أبي وداعة السهمي، قال: حدثني موسى بن عبد الله بن أبي أمية المخزومي، قال: حدثني مصعب بن عبد الله،

عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام المصلي يصلي لم يعدُ بصرُ أحدِهم موضع قدميه، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعدُ بصرُ أحدِهم موضع جبينه، فتوفي أبو بكر، وكان عمر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعدُ بصرُ أحدِهم موضع القبلة، وكان عثمان بن عفان فكانت الفتنة، فتلفَّت الناس يمينًّا وشمالًا.

[ضعيف جدًّا]

(2)

.

ولو صح الحديث لكان فيه دليل على مشروعية النظر إلى القدمين حال القيام،

(1)

. مصنف عبد الرزاق (3262).

(2)

. سنن ابن ماجه (1634).

ورواه الطبراني في الأوسط (4456) حدثنا عبد الله بن الصقر السكري،

ورواه أيضًا (9104) حدثنا مسعدة بن سعد، كلاهما حدثنا إبراهيم بن المنذر به، إلا أنهما قالا: عبد الله بن موسى بن عبد الله بن أمية المخزومي بدلًا من موسى بن عبد الله بن أبي أمية المخزومي، وسواء أكان عبد الله بن موسى، أم موسى بن عبد الله فهو مجهول، ومصعب بن عبد الله لم يَرْوِ عنه إلا مجهول، ولم يوثقه إلا ابن حبان والعجلي، ففيه جهالة.

ومحمد بن إبراهيم بن المطلب مجهول أيضًا، مع نكارة متنه في مشروعية النظر إلى موضع القدمين.

ص: 491

وليس إلى موضع السجود، ولا أعلم أحدًا قال به إلا في حال الركوع.

الدليل الثالث:

(ح-1219) ما رواه البيهقي في السنن الكبرى من طريق صدقة بن عبد الله، عن سليمان بن داود الخولاني قال: سمعت أبا قلابة الجرمي يقول:

حدثني عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه، وركوعه، وسجوده بنحو من صلاة أمير المؤمنين، يعني عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال سليمان: فرمقت عمر في صلاته فكان بصره إلى موضع سجوده. قال البيهقي:

وذكر باقي الحديث وليس بالقوي

(1)

.

[ضعيف إن لم يكن ضعيفًا جدًّا]

(2)

.

الدليل الرابع:

(ح-1220) روى ابن عدي في الكامل من طريق بقية بن الوليد، قال: حدثني علي بن أبي علي القرشي، قال: حدثني ابن جريج، عن عطاء،

عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة لم ينظر إلا إلى موضع سجوده

(3)

.

[ضعيف جدًّا]

(4)

.

(1)

. السنن الكبرى (2/ 402).

(2)

. ورواه بن عدي في الكامل (4/ 270)، ابن عساكر في تاريخ دمشق (22/ 304) و (28/ 294) من طريق صدقة بن عبد الله به.

وفي إسناده صدقة بن عبد الله السمين الدمشقي، يكنى بأبي معاوية، ويقال: أبو محمد، قال أحمد: ليس بشيء، كما في العلل لابنه (1506)، وقال أحمد كما في الجرح والتعديل (4/ 429):«ما كان من حديثه مرفوعًا فهو منكر، وما كان من حديثه مرسلًا عن مكحول فهو أسهل، وهو ضعيف جدًّا» . اهـ وانظر التاريخ الكبير للبخاري (4/ 296)، والتاريخ الصغير (174)، وقد ضعفه ابن معين والبخاري وأبو زرعة والنسائي، وتركه الدارقطني، وقال البوصيري: متفق على ضعفه

(3)

. الكامل لابن عدي (6/ 313).

(4)

. لا يعرف هذا الحديث عن ابن جريج إلا من رواية علي بن أبي علي القرشي، تفرد به عنه، وهو مجهول.

قال فيه أبو حاتم كما في العلل لابنه (434): علي القرشي مجهول.

وقال فيه ابن عدي: مجهول، ومنكر الحديث

يحدث عنه بقية غير ما ذكرت.

ص: 492

الدليل الخامس:

(ح-1221) ما رواه ابن خزيمة، قال: أخبرنا أحمد بن عيسى بن زيد بن عبد الجبار بن مالك اللخمي التِّنِّيسِيُّ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، ثنا زهير بن محمد المكي، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله،

أن عائشة، كانت تقول: عجبًا للمرء المسلم إذا دخل الكعبة كيف يرفع بصره قِبَلَ السقف، يدع ذلك إجلالًا لله وإعظامًا، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خَلَفَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ حتى خرج منها

(1)

.

• ونوقش من وجوه:

الوجه الأول: أن الحديث ضعيف

(2)

.

الوجه الثاني: لو صح الحديث فهو في دخول الكعبة وليس في الوقوف بالصلاة، ولعل ذلك كان في فتح مكة فكانت هذه الصفة عارضة شكرًا للرب وتواضعًا منه صلى الله عليه وسلم للخلق كما فعل حين دخل مكة فاتحًا، ولم يكن ذلك سنة في كل دخول مكة.

(ح-1222) فقد روى الحاكم في المستدرك من طريق عبد الله بن أبي بكر

(1)

. صحيح ابن خزيمة (3012).

(2)

. والحديث رواه الحاكم في المستدرك (1761) وعنه البيهقي في السنن (5/ 258).

وفيه أكثر من علة:

العلة الأولى: أن سالم بن عبد الله لم يسمع من عائشة، قاله البخاري، انظر: تهذيب الكمال (10/ 152).

العلة الثانية: في إسناده أحمد بن عيسى الخشاب المصري، متفق على ضعفه.

فقد كذبه مسلمة بن القاسم.

وقال ابن طاهر المقدسي: كان يضع الحديث، قال الذهبي في شذرات الذهب (4/ 235): صدق ابن طاهر.

وقال ابن يونس المصري كما في تاريخه (46): كان مضطرب الحديث جدًّا.

وقال الدارقطني: ليس بالقوي.

العلة الثالثة: في إسناده عمرو بن أبي سلمة التنيسي، ضعفه ابن معين، وقد تكلم الإمام أحمد في روايته عن زهير، وهذا منها، قال أحمد: روى عن زهير أحاديث بواطيل؛ كأنه سمعها من صدقة بن عبد الله، فغلط، فقلبها عن زهير. إكمال تهذيب الكمال (10/ 183).

قال ابن أبي حاتم:

سمعت أبي يقول: هو حديث منكر. (علل الحديث)(895).

ص: 493

المقدمي، حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت،

عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة، وذقنه على رحله متخشعًا

(1)

.

[ضعيف]

(2)

.

الوجه الثالث: أن هذا الاستدلال من باب قياس الصلاة على دخول الكعبة، فكيف يقاس الكثير المتكرر العام على النادر، فلو كان في المسألة دليل ما اضطر المستدل إلى مثل هذا القياس الغريب في الاستدلال.•• دليل المالكية على استحباب النظر إلى قبلته:

الدليل الأول:

لم يَأْتِ دليل صحيح يمكن الاعتماد عليه في استحباب النظر إلى موضع السجود، والأصل عدم المشروعية، فلو كان النظر إلى موضع السجود مشروعًا في الصلاة لجاءت الأدلة الصحيحة الواضحة خاصة أن مثل هذه العبادة تتكرر في اليوم عشرات المرات، ويحتاج إلى هذه الصفة عموم المصلين، فضعف الأدلة مع عموم الحكم وتكراره وتعلقه بأعظم العبادات العملية دليل على ضعف الحكم نفسه، أيأتي ذكر آداب الدخول للخلاء في الصحيحين، وكذا آداب الأكل والشرب والنوم، ثم لا يأتي في النظر في موضع السجود في الصلاة إلا حديث فرد مرسل؟

(3)

.

الدليل الثاني:

قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144].

فأمر الله المصلي أن يستقبل جهة الكعبة بجملته، ونص على الوجه لكونه أشرف الأعضاء، والبصر من جملة وجهه، فمن نظر إلى السماء فقد التفت بوجهه

(1)

. المستدرك (7888).

(2)

. ورواه البيهقي في الدلائل (5/ 68) عن الحاكم به.

وفي إسناده عبد الله بن أبي بكر المقدمي، قال فيه أبو زرعة كما في الجرح والتعديل (5/ 18): ليس بشيء، أدركته، ولم أكتب عنه.

وضعفه ابن عدي في الكامل.

(3)

. صحيح ابن خزيمة (3012).

ص: 494

إلى السماء عن القبلة، وكذلك من نكس رأسه إلى الأرض يكون قد التفت بوجهه عن القبلة إلى الأرض، مثله كما لو التفت بوجهه يمنة أو يسرة، لا يبطل الصلاة، ولكنه خلاف المشروع، فالمستحب أن يستقبل بوجهه وجسده الكعبة، فإن أقام رأسه وتكلف النظر ببعض بصره إلى الأرض ففي ذلك مشقة وحرج.

ويناقش:

بأن النظر إلى موضع السجود ليس فيه التفات عن القبلة، بدليل الركوع والسجود، فإن وجه المصلي لا يكون إلى القبلة، ولم يخرجه ذلك عن التوجه إليها، فكذلك لو صح النظر إلى موضع السجود لم يخرجه ذلك أن يكون متوجهًا إلى القبلة، وإنما العمدة فيه أنه لم يرد في النظر إلى موضع السجود شيء يمكن الاعتماد عليه، والله أعلم.

الدليل الثالث:

(ح-1223) ما رواه البخاري من طريق فليح، قال: حدثنا هلال بن علي،

عن أنس بن مالك، قال: صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رقي المنبر، فأشار بيديه قِبَلَ قِبْلَةِ المسجد، ثم قال: لقد رأيت الآن منذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار مُمَثَّلَتَيْنِ في قِبْلَةِ هذا الجدار، فلم أر كاليوم في الخير والشر ثلاثًا

(1)

.

فدل الحديث على أن نظر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته كان إلى قبلة هذا الجدار، وما صح من الإمام صح من المنفرد والمأموم، ولو كان النظر إلى قبلة الجدار ينافي الخشوع أو كماله لم ينظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، أو لَمُثِّل له ذلك في موضع سجوده بدلًا من أن يمثل له ذلك في قبلة الجدار.

الدليل الرابع:

(ح-1224) روى مسلم في صحيحه من طريق أبي الأشهب، عن أبي نضرة العبدي،

عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخرًا، فقال لهم: تقدموا، فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم

الحديث

(2)

.

(1)

. صحيح البخاري (749).

(2)

. صحيح مسلم (130 - 438).

ص: 495

وجه الاستدلال:

فقوله: (فائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم) أي اقتدوا بأفعالي، وليقتد بكم من بعدكم مستدلين بأفعالكم على أفعالي، فدل الحديث أن الصف الأول ينظر إلى الإمام ليقتدي بأفعاله، وينظر الصف الثاني إلى الصف الأول للغرض نفسه، فكل صف منهم إمام لمن وراءه، ويلزم منه أن يكون النظر إلى غير موضع السجود.

الدليل الخامس:

(ح-1225) ما رواه البخاري ومسلم، واللفظ للأول من طريق الزهري، عن عروة، قال:

قالت عائشة: خسفت الشمس

فذكرت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتم ذلك فصلوا، حتى يفرج عنكم، لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدته، حتى لقد رأيت أريد أن آخذ قطفًا من الجنة، حين رأيتموني جعلت أتقدم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضًا، حين رأيتموني تأخرت

الحديث

(1)

.

ورواه مسلم من طريق عبد الملك، عن عطاء، عن جابر بنحوه، وفيه:

ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار، وذلكم حين رأيتموني تأخرت، مخافة أن يصيبني من لفحها .... ثم جيء بالجنة، وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي

الحديث

(2)

.

وجه الاستدلال:

في الحديث دليل على أن الصحابة كانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بهم، ويلزم منه أنهم لم ينظروا إلى موضع سجودهم، وإذا كان ذلك لا ينافي كمال الخشوع في حق المأموم فكذلك في حق غيره، وما ثبت في حق المأموم ثبت في حق المنفرد والإمام إلا بدليل،، والله أعلم.

الدليل السادس:

(ح-1226) ما رواه البخاري من طريق سفيان، عن الأعمش، عن عمارة بن

(1)

. صحيح البخاري (1212)، صحيح مسلم (3 - 901).

(2)

. صحيح مسلم (10 - 904).

ص: 496

عمير، عن أبي معمر، قال:

قلت لخباب بن الأَرَتِّ: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قال: قلت: بأي شيء كنتم تعلمون قراءته؟ قال: باضطراب لحيته

(1)

.

فدل الحديث على أن المأموم ينظر إلى إمامه، ولم يحفظ في الشرع التفريق بين نظر المأموم في صلاته، وبين نظر المنفرد والإمام، فالأصل أن ما ثبت لواحد منهما ثبت للباقي إلا بدليل.

الدليل السابع:

(ح-1227) روى البخاري ومسلم من طريق أبي حازم بن دينار،

عن سهل بن سعد، قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة امرأة من الأنصار، قد سماها سهل، فقال لها: مُرِي غلامك النجار، أن يعمل لي أعوادًا، أجلس عليهن إذا كلمت الناس، فأمرته فعملها من طَرْفَاءِ الغابة، ثم جاء بها، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بها فوضعت ها هنا، ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها، وكبر، وهو عليها، ثم ركع، وهو عليها، ثم نزل القهقرى، فسجد في أصل المنبر، ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا، ولتعلموا صلاتي، واللفظ للبخاري

(2)

.

وفي رواية للبخاري: كبر، وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه

(3)

.

ولفظ مسلم: فكبر، وكبر الناس وراءه

(4)

.

فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وصلى الناس معه، ثم بين الحكمة من فعله، فقال: لتأتموا بي، فلو كان الناس يضعون أبصارهم موضع سجودهم، أكانوا ينظرون إليه، وهو أعلى منهم؟

• مناقشة هذه الأدلة:

حديث أنس في البخاري، وحديث أبي سعيد في مسلم، وحديث عائشة في

(1)

. صحيح البخاري (761).

(2)

. صحيح البخاري (917)، وصحيح مسلم (544).

(3)

. صحيح البخاري (377).

(4)

. صحيح مسلم (44 - 544).

ص: 497

الصحيحين، وحديث خباب في البخاري، وحديث سهل في الصحيحين، هذه القضايا التي حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم سواء ما كان منها في صلاة الكسوف، أو في صلاته على المنبر، أو في نقل خباب أنه عَلِمَ قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة السرية من اضطراب لحية النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، هذه الأدلة نتفق فيها أن الراوي ذكر هذه الأحاديث ولم يكن يقصد منها أن يبين موضع نظر المصلي في صلاته، فهذه الأحاديث دلالتها على مسألتنا ليست مقصودة بالحكم، فإذا حاول الفقيه أن يستنبط منها حكم هذه المسألة، وهي لم تُسَقْ لبيان مثل هذا الحكم، فإنه محل اجتهاد، فحتى يُسَلَّم هذا الاستدلال يشترط في هذه الأفعال الواردة في هذه الأحاديث أن يكون لها عموم في جميع الصلوات، وليست قضايا عينية فعلت في أحوال غير عادية، وقد قال الفقهاء: قضايا الأعيان لا عموم لها، كما أنها أفعال، والفعل عند أهل الأصول لا عموم له، بخلاف القول. لهذا دعني آخذ هذه الأحاديث حديثًا حديثًا:

فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر لم يكن ذلك من عادته صلى الله عليه وسلم، فإذا علا المنبر ليصلي بأصحابه فمن المؤكد أن هذا يستدعي النظر إلى الإمام؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك على خلاف العادة، وبغرض التعليم كما جاء مصرحًا به في الحديث، والتعليم بالفعل يستدعي النظر إلى هذا الفعل، فإذا عُقِل الفعل لم يكن ثمَّت حاجة إلى النظر إلى الإمام في الصلاة، وبالتالي لا يمكن أن يؤخذ من هذا الفعل حكم عام في جميع أحوال الصلوات، وأن المشروع أن ينظر المأموم إلى إمامه في الصلاة كما أنه لا يمكن أن يؤخذ من هذا الحديث استحباب صلاة الإمام على المنبر في جميع الأحوال.

وكذلك يقال عن فعله صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من التقدم والتأخر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتأخر فيتأخر معه أصحابه، ثم يتقدم فيتقدم معه أصحابه كما جاء ذلك مبينًا في حديث جابر عند مسلم من طريق عبد الملك، عن عطاء، عن جابر في صفة صلاة الكسوف، وفيه: .... ثم تأخر، وتأخرت الصفوف خلفه حتى انتهينا وفي رواية: حتى انتهى إلى النساء، ثم تقدم، وتقدم الناس معه حتى قام في مقامه .... الحديث

(1)

.

(1)

. صحيح مسلم (10 - 904).

ص: 498

فكان الذي خلف النبي صلى الله عليه وسلم يرى لزامًا تأخر النبي صلى الله عليه وسلم، فيتأخر الصف الأول لتأخر النبي صلى الله عليه وسلم، ويتأخر الصف الثاني لتأخر الصف الأول، ولم يكن العلم بالتأخر والتقدم؛ لأن السنة النظر إلى قبلة المصلي، بل لأن التأخر سوف يأتي على موضع سجود المصلي إن قلنا: إنه هو موضع النظر بالنسبة إليه، ولم يكن هذا الفعل معهودًا في الصلاة، فلا يمكن القول بأن مثل هذا الحديث في هذا الحال الاستثنائي يمكن أن يؤخذ منه حكم عام في موضع نظر المصلي في جميع الصلوات؛ لأن الفعل لا عموم له، فكيف بالفعل العارض على خلاف المعتاد؟

وأما حديث خباب فهو في بيان قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة السرية، لكن حين سئل كيف عرف ذلك؟ قال: من اضطراب لحيته، فهذا الفعل من خباب غايته أن يدل على جواز النظر إلى الإمام إذا لم يكن فيه التفات برأسه، وهو محل اتفاق، ويجوز مع الالتفات بالرأس إذا كان لحاجة، أما أن يدل هذا الحديث على استحباب النظر إلى الإمام مطلقًا ففيه نظر، فإذا نظر المأموم لإمامه لغرض صحيح كمعرفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة السرية، أو للتعلم من الإمام فلا حرج فيه، ولا يؤخذ منه استحباب النظر إلى الإمام مطلقًا في جميع الصلوات، والله أعلم.

ويبقى الحديث الذي ينظر في دلالته على هذه المسألة هو حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخرًا، فقال لهم: تقدموا، فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم

الحديث

(1)

.

واقتداء الصف الثاني بالأول اقتداء بالأفعال، لا بسماع التكبير، ويلزم منه النظر إلى الصف لا إلى موضع السجود.

فهذا الحديث سنة قولية، وحكمه عام في جميع الصلوات، ولم يُفْعَل لعارض.

الدليل الثامن:

أمر الله سبحانه وتعالى المصلي بالقيام في صلاته {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238]، ونهاه الشارع عن رفع البصر في الصلاة، وسكت الشارع من غير نسيان عن الباقي، وما سكت عنه فهو عفو، فكان مقتضى الامتثال فيما لم يرد فيه نص

(1)

. صحيح مسلم (130 - 438).

ص: 499

صحيح في صفته أن يكون المصلي على طبيعته؛ ولا ينتقل عنها إلا بتوقيف، ولم يحفظ في النظر إلى موضع السجود دليل تقوم به الحجة.

• الراجح:

أرى أن مذهب الإمام مالك والبخاري أقوى من مذهب الجمهور؛ وقد تأيد بأصلين صحيحين:

الأول: أن الأصل عدم استحباب النظر إلى موضع السجود حتى يثبت دليل يقتضي الاستحباب، ولا يوجد في الباب إلا مرسل الحسن البصري، ومثله لا يمكن أن يعارض به ظاهر الأدلة الصحيحة.

والثاني: أن ما لم يرد في صفته نص فإن المصلي يبقى على طبيعته، ولا يتكلف النظر إلى غير الموضع الذي يقع بصره عليه، ويلزم من هذا الضابط النظر إلى قبلته.

والنظر إلى موضع السجود ليس مكروهًا؛ لأنه لم يحفظ في الأدلة ما ينهى عنه، لكن هناك فرق بين اعتقاد مشروعيته واعتقاد إباحته، إذا تقرر هذا، نقول: موضع النظر في الصلاة أن ينظر إلى قبلته إن كان منفردًا أو إمامًا، وإن كان مأمومًا نظر إلى إمامه إن كان يمكنه ذلك بلا التفات، وإلا نظر إلى قبلته، هذا إذا كان في الصف الأول، فإن كان في غير الصف الأول نظر إلى الصف الذي قبله، على ما يقتضيه حديث أبي سعيد الخدري في مسلم، والله أعلم.

* * *

ص: 500