الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
اليهود في التراث الديني المسيحي
يستمد التراث الديني في كُلٍّ من بريطانيا وأمريكيا، أصوله من المذهب البروتستانتي السائد في هاتين الدولتين، والذي نشأ مع حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية في روما. ولسنا هنا بصدد بحث تفصيلي لمبادئ هذا المذهب، بقدر ما سنحاول إبراز التغيير الجوهري الذي أحدثه هذا المذهب في تفكير أتباعه حيال اليهود ـ ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ـ والذي ساعد كثيراً على تعاطف الكثيرين من أتباعه مع اليهود وسعيهم لتحقيق آمالهم في العودة إلى أرض فلسطين حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بثلاثة قرون، حيث أحدثت حركة الإصلاح الديني تغييراً جوهرياً ـ بالمقارنة مع موقف الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى ـ في موقفها من اليهود ـ بحيث تولدت عن هذا الموقف نظرة جديدة للماضي والحاضر والمستقبل اليهودي، و كانت المبادئ التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني مغايرة تماماً للمبادئ الكاثوليكية في موقفها من اليهود، ولذلك يصف البعض هذه الحركة بأنها ساهمت في بعث اليهود من جديد.
لقد ظل اليهود في نظر العالم المسيحي بأسره (أمة ملعونة) لمدة ألف وخمسمائة عام، لأنهم ـ في اعتقاد المسيحيين ـ قتلة السيد المسيح، حيث عانى اليهود صنوفاً من الاضطهاد والازدراء بناء على هذا التصور الذي ترسخ في العقل المسيحي. ورغم أن هذا التصور ـ من وجهة نظر إسلامية ـ تصور ظالم أنتج ممارسات ظالمة، إلا أنه صمد على مر القرون، مدعوماً بنصوص كثيرة من الإنجيل، وظروف اجتماعية وسياسية خاصة. لكن القرن الخامس عشر الميلادي أظهر تحولات عميقة في النفس المسيحية ـ الغربية على الأقل ـ مع بزوغ ما عرف بحركة الإصلاح، وما استتبعه ذلك من انشقاق سياسي وعقائدي داخل الديانة المسيحية بشكل عام، والكاثوليكية الغربية بشكل خاص، حيث كان من نتائج هذه التحولات أن أصبحت المسيحية الجديدة التي عرفت باسم البروتستانتية ربيبة لليهودية، فقد أصبحت
للتوراة ـ أو العهد القديم ـ أهمية أكبر في نظر البروتستانت من الإنجيل أو العهد الجديد، وبدأت صورة الأمة اليهودية تتغير تبعاً لذلك في أذهان المسيحيين الجدد. ولم يكن الانشقاق داخل الكنيسة ـ رغم الطابع الأيديولوجي الذي اصطبغ به ـ بعيداً عن صراعات السيادة بين الأمم الأوروبية يومها، خصوصاً بين فرنسا وإنجلترا وألمانيا، فقد انحازت الكنيسة الكاثوليكية إلى جانب فرنسا، مما جعل الشعبين الإنجليزي والألماني يميلان إلى اعتناق المذهب البروتستانتي الذي يدعو للتحرر من سلطة الكنيسة.
وقد ظهر هذا التحول في النظرة المسيحية إلى اليهود في كتابات رائد الإصلاح البروتستانتي، القس الفيلسوف (مارتن لوثر). فقد كتب لوثر عام 1523 كتابا عنوانه:(المسيح ولد يهودياً) قدم فيه رؤية تأصيلية للعلاقات اليهودية المسيحية من منظور مغاير تماما لما اعتاده المسيحيون من قبل، فكان مما قال في كتابه:"إن الروح القدس شاءت أن تنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم. إن اليهود هم أبناء الرب، ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل من فتات مائدة أسيادها"(1). ومع ذلك لم يكن مارتن لوثر حاسماً في موقفه من اليهود، بل كان متردداً مثقلا بتراث الماضي السحيق، ولذلك عاد فألف كتاباً آخر في ذم اليهود سماه (ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم)، بعدما يئس من دفعهم لاعتناق المسيحية. لكن (لوثر) فتح ثغرة في تاريخ المسيحية لصالح اليهود ظلت تتسع إلى اليوم. وظلت كفة الصراع بين مدرسة 0المسيح ولد يهودياً) ومدرسة (ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم) تتأرجح في الضمير الغربي طيلة القرون الأربعة التالية لكتابة هذين الكتابين، حتى حسم الأمر أخيرا للمدرسة الأولى. ومما يلاحظ أن هذا المسار التاريخي لم يعرف العدل ولا التوسط: فاليهود تحولوا من (أمة ملعونة) إلى (أبناء الرب)، من (الغيتو) إلى قمة المجتمع، من (أمة مدنسة) ظلمها المسيحيون كثيراً، إلى (أمة مقدسة) يظلم بها المسيحيون شعوباً أخرى لا صلة لها بتاريخ التدنيس والتقديس هذا.
(1) المسيح اليهودي ـ رضا هلال ـ ص63 - مكتبة الشروق الدولية