الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
أمريكيا والمشروع الصهيوني
كان دافيد بن جوريون والزعماء الصهاينة الآخرين يعلمون، عندما أعلنوا عن قيام دولة إسرائيل في عام 1948 م، بأنه لا بد من وجود حليف قوى يقوم بحماية هذه الدولة الوليدة، حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة المؤهلة للقيام بهذه المهمة بعد أن خرجت من الحرب العالمية الثانية كأقوى قوة في العالم، وأصبحت تلعب دوراً رئيساً في تشكيل السياسة الدولية. وهذا لا يعنى أن بريطانيا قد تخلت عن دعم إسرائيل، أو أن أمريكيا كانت غائبة عن دعم مطالب الحركة الصهيونية في فلسطين قبل ذلك. كلا، إن هذا التغير فرضته المتغيرات الدولية، بحيث أصبحت أمريكيا تحتل مركز الصدارة في دعم الحركة الصهيونية بعد الحرب العالمية الثانية. فأمريكيا مثلها مثل بريطانيا ذات أغلبية بروتستانتية، تغلغلت في تفكير مواطنيها الأفكار والنبوءات التوراتية الخاصة بعودة اليهود إلى فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر، حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بفترة كبيرة من الزمن.
هجرة البروتستانت إلى أمريكيا
عندما بدأ الاستيطان الأوروبي لأمريكا كان معظم المهاجرين الجدد من البروتستانت، الذين فروا من الاضطهاد الديني الذي ساد أوروبا في ذلك الوقت، حيث هاجر إلي أمريكيا كثير من البيوريتان المتدينين، فراراً من الاضطهاد الديني الذي ساد إنجلترا أثناء حكم آل ستيوارت (1)، حيث كانوا ينظرون إلى أنفسهم من منطلق خاص بهم. "فعلى غرار الخروج الجماعي المذكور في العهد القديم والذي هرب فيه اليهود من مصر ورحلوا إلى ارض جديدة وعدهم الرب بها، نظر البيوريتانيون لأنفسهم على أنهم الشعب المختار الجديد، ونظروا إلى العالم الجديد على انه إسرائيل الجديدة. أما العالم القديم بالنسبة لهم، فكان هو مصر التي فروا منها. لقد
(1) المدخل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية - ج1ـ د. محمد النيرب - ص33
عقدوا عهداً مع الرب: انه إذا أمن الرب ذهابهم إلى العالم الجديد، فإنهم سيؤسسون مجتمعاً تحكمه القوانين الإلهية" (1).
وهكذا كان هؤلاء المستوطنون الجدد يحملون معهم تراثهم الديني المستمد من العهد القديم، والذي أخذ يلعب دوراً رئيساً في تشكيل الفكر الأمريكي منذ ذلك الوقت. ومما قوى من أهمية هذا الدور، هو ربط هؤلاء المستوطنين بين تجاربهم التي مروا بها منذ رحيلهم من أوروبا وإنجلترا بالذات، وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء عندما فروا من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين (2). حيث اعتبروا أمريكا هي (أورشليم الجديدة) أو (كنعان الجديدة) وشبهوا أنفسهم بالعبرانيين القدماء حين فروا من ظلم فرعون (الملك الإنجليزي جيمس الأول) وهربوا من ارض مصر (إنجلترا) بحثا عن ارض الميعاد (الجديدة)(3). فقد رأى البيوريتانيين في تجربتهم الخاصة المتمثلة "بالهروب إلى البراري، من أوروبا المنحوسة مساوية لتجربة اليهود الذين قادهم موسى من مصر، غير أنها كانت أكثر بكثير من تجربة مساوية. لقد آمنوا بأن تجربتهم لم تكن في الحقيقة إلا تجسيداً حياً لتجربة الخروج. وقد فسروا تجربتهم على أنها تكرار للتاريخ الذي شكل شعب الرب القديم"(4).
فهم مثلهم مثل اليهود فروا من الظلم بحثاً عن الأرض الموعودة التي تدر لبناً وعسلاً، وجابهوا الصعاب في رحلتهم عبر المحيط، كما حدث لليهود في صحراء سيناء عند خروجهم من مصر. كما أنهم جوبهوا بمقاومة السكان الأصليين كما جوبه اليهود بمقاومة أهل فلسطين، وعندما كانوا يعلنون الحرب على أصحاب البلاد الأصليين، كانوا يستحضرون العهد القديم، حيث ثمة تشابه بين تجاربهم في حربهم مع الهنود الحمر، وتجربة اليهود في حربهم ضد الفلسطينيين في الماضي.
(1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ تأليف مايكل كوربت وجوليا كوربت، ـ ترجمته د. عصام فايز، ود. ناهد وصفي ص44
(2)
من أوراق واشنطن ـ د. يوسف الحسن ـ ص 119.
(3)
ارض الميعاد والدولة الصليبية ـ أمريكيا في مواجهة العالم منذ 1776ـ والتر ا. مكدوجال - ترجمة: رضا هلال ص 5 - دار الشروق - ط2 2001.
(4)
الصهيونية المسيحية (1891ـ1948م) - بول مركلي ـ ترجمة: فاضل جتكرـ ص1،5 - ط 2003 سوريا - قدمس للنشر والتوزيع
لقد عانوا من الانقسام ومن تجارب الحرب الأهلية المرة بين الشمال والجنوب، كما حدث مع اليهود القدماء عندما انقسمت مملكتهم إلى مملكتين إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب.
لقد كان هؤلاء المستوطنون يعلمون أن الأرض التي استولوا عليها من سكانها الأصليين ليست أرضهم، كما أنهم يعلمون أن ما يقومون به من عمليات اضطهاد وقتل وتشريد للسكان الأصليين، يتنافى مع أبسط المبادئ الأخلاقية، فكانوا لذلك بحاجة إلى شيء يبرر لهم أفعالهم هذه ويضفي عليها نوعاً من الشرعية والأخلاقية ولو مزيفة، فلم يجدوا هذا التبرير إلا في العهد القديم. فكما أن اليهود القدماء برروا احتلالهم لفلسطين بالإدعاء بأنها الأرض الموعودة التي وهبها الله لشعبه المختار ـ كما يقولون- فإن هؤلاء المستوطنون الجدد فعلوا نفس الشيء بالإدعاء بأن الله أختار العنصر الأنجلوسكسونى البروتستانتي الأبيض لقيادة العالم، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك عندما شبهوا الشعب الأمريكي بالشعب اليهودي الذي يسعى إلى دخول الأرض الموعودة.
ولأن زعم هؤلاء المهاجرين الأوائل بأنهم شعب الله المختار، لا وجود له في أي كتاب مقدس، فإن بعضهم سعى إلى إيجاد رابطة بينهم وبين اليهود الذين يدعون أنهم شعب مختار. لهذا فقد زعم أحد الكتاب ويدعى ريتشارد بروترز في كتابه (المعرفة المنزلة للنبوءات والأزمنة)"بأن الإنجليز السكسون هم من أصل يهودي، على أساس أنهم ينحدرون من سلالات الأسباط التي أدعى اليهود أن أفرادها فقدوا بعد اجتياح الآشوريين لمملكة إسرائيل عام 721 قبل الميلاد"(1). وربما يفسر هذا الادعاء ما كتبه هيرمان ملفيل في بداية القرن التاسع عشر متحدثاً عن الشعب الأمريكي حيث قال: "نحن الأمريكيون شعب خاص، شعب مختار وإسرائيل العصر الحاضر"(2).
يقول القس البروتستانتي صموئيل ويكمان في موعظته الشهيرة على ظهر السفينة (أرابلا) التي حملت أول مجموعه من البروتستانت البيورتانيين (التطهيريين)
(1) أزمة الفكر الصهيوني ـ د. محمد ربيع ـ ص 46.
(2)
الإمبراطورية الأمريكية ـ كلود جوليان ـ ترجمة ناجى أبو خليل ـ ص 19