الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هرمجيدون في العقل البروتستانتي
لا يتسع المجال هنا لتغطية كل ما قيل عن هرمجيدون، ولكننا سنعرض في البداية لأقول بعض المسيحيين البروتستانت الذين سعوا إلى تحقيق الحلم الصهيوني منذ أكثر من قرن ونصف، من خلال عملهم في صندوق استكشاف فلسطين الذي أسس في إنجلترا عام 1839 لإعداد فلسطين لتكون وطناً لليهود، لنبيّن أي روح كانت تغدي نشاطات هؤلاء، والى أي مدى ذهب تفكيرهم من أجل تحقيق النبوءات التوراتية للتعجيل بالعودة الثانية للمسيح، وكل ذلك حدث قبل تأسيس الحركة الصهيونية.
ففي صيف 1892م عقدت لجنة (صندوق استكشاف فلسطين)، سلسلة محاضرات أبرزها محاضرتان عن انطباعات اثنين من زعماء الصندوق، حول عمليات الاستكشاف خلال السنوات الممتدة من 1865 ـ 1892 م. وقد جاء في المحاضرة الأولى التي ألقاها (وولتر بيسانت)، (الأمين الفخري للصندوق، وقبل ذلك الأمين الفعلي له مدة 25 عاماً)، قوله:"كنا نقوم بثورة كاملة في فهم ودراسة التوراة. كنا نحيي العظام وهي رميم. كنا نستعيد مجد فلسطين في عهد هيرودوس. كنا نستعيد بلاد داوود. كنا نرد إلى الخارطة أسماء المدن التي دمرها القائد العظيم يهوشع. لقد أعدنا للقدس مجدها وفخامتها. لقد أعدنا البلاد (فلسطين) إلى العالم بالخارطة وبالأسماء، والأماكن المذكورة في التوراة، واسمحوا لي أن أفاخر بذلك إذا علمتم أن شخصاً واحداً (يقصد كوندر) قد استعاد من الأسماء القديمة أكثر مما فعله جميع الباحثين والرحالة حتى الآن"(1).
وفي المحاضرة الثانية تحدث كلود كوندر عن دوره في أعمال (الصندوق) فأشار إلى الهجرة اليهودية التي شهدتها البلاد وخاصة مدينة القدس، وقال:"أن عدد اليهود في مدينة القدس عام 1837 لم يكن يتجاوز بضع مئات، أما الآن (1892م) فقد بلغ عددهم أربعين ألفاً، وأصبحوا يسيطرون على التجارة في المدينة، ولم يعد اليهود أقلية مضطهدة وجبانة، وإنما يبدون سادة المدينة". وأضاف كوندر "أستطيع القول
(1) راجع الاستشراف وأبحاث الصراع العربي الإسرائيلي - إبراهيم عبد الكريم - دار الجليل -1993
دون تبجح أنه كان لي ولآخرين غيري دور ما في هذه الحركة". أما عن المستقبل الذي يتصوره لفلسطين، فقد بيّن كوندر "أن الذي نتوقع أن نراه في فلسطين، إذا كان مستقبلها سلمياً، هو زيادة تدريجية في عدد السكان المزارعين (يقصد المستوطنين اليهود)، وانتشار المستعمرات المزدهرة. أما الفلاحون المسلمون الذين أخذ تطرفهم يخبو تدريجياً، فإنهم بتعرضهم لهذا النفوذ سيزدادون ذكاءً ونشاطاً، ولكنهم لن يعودوا سادة البلاد، وأي محاولة عنيفة للتدخل في تطور بلد، يستطيع إعالة شعب كبير مزدهر تطوراً سلمياً، سيؤدي حتما إلى حدوث مشكلة فلسطينية هائلة ينبغي حلها في (كركميش ومجدو) " (1).
فبالإضافة إلى ما جاء من اعتراف صريح حول إسهام (صندوق استكشاف فلسطين) في إيجاد مرتكزات مادية للمشروع الصهيوني، توضح روح ونبرات هاتين الشهادتين، كما لو أن (بيسانت وكوندر)، يتحدثان بلسان شخصية صهيونية معاصرة، الأمر الذي يشير إلى حالة من التوحد في الرؤية مع الصهيونية في مرحلتها الجنينية آنذاك .. فمن نفي الهوية القومية الواحدة لعرب فلسطين، إلى الثناء على (القدرات اليهودية)، إلى مقولة (الصفة اليهودية للبلاد)، ثم إلى (الرسالة التمدينية والتطويرية للاستعمار اليهودي وانعكاسها على الفلاحين العرب)، ما هي إلا إشارات قليلة، لكنها توحي بالكثير من النزعات الصهيونية، التي كانت تعتمل في نفوس العاملين ضمن (الصندوق)، ولا تختلف بشيء عما دأبت الصهيونية على ترويجه ..
ولكن تظل نقطة أخيرة، تفوح منها رائحة القتل والإبادة التي تنتظر الشعب الفلسطيني، في ظل الصراع على الأرض، هي الإشارة إلى ضرورة (حل المشكلة الفلسطينية)، التي ستنشأ على طريقة الحروب التي حُسمت في التاريخ الغابر، أو لنقل في الرواية التوراتية، في منطقة كركميش ومجدو. إن مجرد التذكير بكركميش ومجدو بالنسبة لقارئ (الكتاب المقدس) ينبئ عن فهم حرفي للرواية، ومحاولة إسقاطية على العصر الحديث. ومن المقدر أن يكون الصهيونيون، فيما بعد، قد استلهموا من هذه الفكرة مما يعزز طبيعة كيانهم الإحتلالي التوسعي في
(1) أبحاث توراتية في فلسطين ـ القس الأميركي ادوار روبنسون (أستاذ أدب التوراة في كلية الاتحاد الدينية بنيويورك)
فلسطين، وتقرير كيفية التعامل العُنفي مع سكان البلاد الأصليين منتقلين من المحرضات الذهنية، إلى الوقائع المادية، ليربطوا خرافات الماضي بمآسي الحاضر، وكأنها ليست إلا تحقيقاً لنبوءات توراتية (1). وقد غمرت الغبطة وجه (فولويل) حين اختتم حديثه الصحفي مع (روبرت شير) قائلاً:"إنني أؤمن بما يؤمن به الرئيس ريغان". ويفضل القس (فولويل) موضوع هرمجدون على أي نبوءة أخرى ففي 2/ 12/1984م ألقى موعظة كنسيه صاخبة تقول: "فجمعهم إلى الموضع، الذي يدعى بالعبرانية هرمجدون. ويضيف (فولويل) سيكون هناك اشتباك آخر وأخير، وعندئذ سيتخلص الرب من هذا الكون، وفي الإصحاحين (21 و 22) من سفر الرؤيا يتابع (فولويل)، جاء إن الرب سيدمر هذا الكون وسيرافق الدمار انفجار هائل، وحرارة عاليه، كما يقول القديس بطرس نفسه"(2).
(1) 1).
وإذا كانت هذه آراء صهاينة مسيحيون قبل قرن من الزمن، أما الآن فقد أصبح الوعظ بلاهوت تل مجدو الشغل الشاغل لليمين المسيحي الأصولي الأمريكي في هذا العصر. فمن خلال شبكة هائلة من مئات الإذاعات وقنوات التلفزيون، يقوم عشرات الألوف من الوعاظ الأمريكان في الكنائس وعلى الإذاعات والتلفزيون، ومدارس الأحد، بالتغلغل في قلوب وعقول عشرات الملايين من الأمريكيين.
"ففي عام 1980م عندما كان (ريغان) مرشحاً للرئاسة، اختتم مقابلة تلفزيونية مع الإنجيلي جيم بيكر قائلاً: "قد نكون نحن الجيل، الذي سيشهد هرمجدون في يوم من أيام حياتنا". وفي مقابلة لاحقه مع العديد من ضيوف بيته، أشار ريغان إلى (أن جيلنا هو الذي يمكن أن يحقق هرمجدون)، وفي مقابلة صحفيه أجراها الصحفي (روبرت شير) في آذار 1981م مع (جيري فولويل) صاحب محطة الحرية للبث التلفزيوني، كشف فولويل النقاب عن حديث مشترك دار بينه وبين ريغان ومؤداه، أن ريغان يؤمن بأن العالم يسير نحو نهايته المحتومة سريعاً، وأن التاريخ يصل إلى منتهاه وأن العالم لن يعيش أكثر من خمسين سنة أخرى (النبوءة والسياسة - ص 50
(2)
على أعتاب الألفية الثالثةـ الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيل ـ حمدان حمدان ص154