الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما أن فكرة تحول اليهود إلى المسيحية كأمر لازم لعودة اليهود إلى أرض فلسطين لم تعد ضرورية، ففي عام 1800م نشر (جيمس بيشنو) ـ وهو من المؤمنين بالعصر الألفي السعيد ـ كتابه (عودة اليهود أزمة جميع الأمم)"حيث أعتبر فيه عودة اليهود إلى فلسطين قضية دولية، بالإضافة إلى أنه لم يربط عودتهم بتحولهم إلى المسيحية كما كان سائداً قبل ذلك"(1). وأصبح الاعتقاد السائد بأن اليهود سيدخلون المسيحية بظهور المسيح المنتظر الذي سينقذهم من أعدائهم.
اللورد شافتسبرى
حمل القرن التاسع عشر تطوراً بارزاً في طبيعة (حركة العودة)، حيث ظهرت جماعات بروتستانتية تعتبر عودة اليهود إلى أرض فلسطين ركناً أساسياً في عقيدتها. ففي هذا القرن شهدت إنجلترا نهضة دينية جديدة مشابهة في مبادئها ومعتقداتها لتلك التي كانت سائدة في عهد الثورة البوريتانية، وكان من أبرز ممثلي هذه الفترة اللورد شافتسبرى الذي كان مؤمناً بضرورة قيام دولة يهودية في فلسطين تحقيقاً للنبوءات التوراتية، حيث عبر عن ذلك بقوله:"إن التطلع إلى المجيء الثاني للمسيح والإيمان بأنه سيحدث قد شكلا المبدأ المحرك والقوة الدافعة في حياتي، نظراً لأني نظرت إلى كل ما يحدث في العالم باعتباره خاضعاً لذلك الحدث العظيم وفي مكانة ثانوية بالنسبة إليه"(2). لهذا فقد نشر شافتسبرى في عام 1839م مقالاً في إحدى الصحف، لخص فيه فكرته عن العودة اليهودية، التي تقوم على أساس تدخل البشر لتحقيق نبوءات العهد القديم المتعلقة بعودة اليهود إلى فلسطين. كما تقدم اللورد شافتيسبرى بمشروع إلى وزارة الخارجية البريطانية لاستيطان اليهود في فلسطين، على أن يخضعوا للحكم القائم في البلاد، وطالب بضمانات من الدول الأربع الكبرى.
وبالرغم من أن مشروع شافتيسبرى لم ينجح، إلا أن صاحبه لم يعرف اليأس، وانتظر مناسبة أخرى. فلما كانت حرب القرم بين العثمانيين والروس على وشك
(1) الصهيونية غير اليهودية ـ د. ريجينا الشريف ـ ص 87
(2)
المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص147
الوقوع سنة 1854م، سجل في مذكراته "أن المنطقة في غليان، وأنها مقبلة على تغيرات، وأن عدداً كبيراً من المناطق سيصبح بلا حكام. ولما تساءل عن القوة التي يمكن إعطاؤها فلسطين، وهل ستكون لهولندي أم إحدى دول الشرق؟ رد على تساؤله بنفسه في مذكراته، كالآتي: "لا. لا. لا. هناك بلد بلا شعب، والله يوجهنا الآن بحكمته ورحمته نحو شعب بلا وطن". وقد تبنى الصهاينة فيما بعد هذه الجملة وأصبحت من أول الشعارات الصهيونية، "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض" (1).
فقد كان شافتسبرى يعتقد أن فلسطين بلداً مهجوراً من السكان، وكان كغيره من المتدينين البروتستانت الذين "نظروا إلى فلسطين من زاوية أنها ارض التوراة وعهد التوراة، وما رأوا فيها شيئاً غير ذلك، حيث أنهم أرادوا بعث الماضي حياً أمام أعينهم، وهذا ما دعاهم، بوعي منهم وبلا وعى، إلى إغماض عيونهم عن كل ما لا يريدون رؤيته"(2). ومن أهم الأعمال التي قام بها شافتسبرى تأسيسه صندوق استكشاف فلسطين في عام 1865م، حيث قال في الخطاب الافتتاحي الذي ألقاه بمناسبة تعينه رئيساً للصندوق:"دعونا لا نتأخر في إرسال أفضل العلماء لتنقيب طول فلسطين وعرضها ولمسح الأرض وتغطية كل زاوية فيها إذا أمكن، ولتجفيفها وقياسها، أي إذا شئتم لإعدادها من أجل عودة مالكيها القدماء. إذ ينبغي علىّ أن أعتقد بأنه لن يطول الزمن كثيراً قبل أن يقع هذا الحدث العظيم"(3).
واعتقاد شافتسبرى وغيره عن أرض فلسطين بأنها أرض خالية، يخالف الواقع الذي يحاول الصهاينة طمسه لأغراض دعائية. فهذا السير مونتفيور ـ وهو من المؤمنين بضرورة إعادة اليهود إلى أرض فلسطين ـ والذي زار منطقة صفد في عام 1839م يقول: "إنه رأى مساحات من أشجار الزيتون عمرها -على ما أعتقد- يزيد عن 50 سنة، وكروماً ومراع شاسعة وآبار كثيرة، وكذلك التين والبندق والليمون، والتوت وغيرها
…
الخ
…
وحقولاً غنية بالقمح والشعير والعدس" (4). ولكن شافتسبرى وغيره
(1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 295
(2)
المصدر السابق ـ ص 309
(3)
الصهيونية والصراع الطبقي ـ صادق جلال العظم ـ ص 87.
(4)
تيودور هرتزل عراب الحركة الصهيونية ـ مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـ ص 94
أرادوا من خلال زعمهم السابق، إقناع الحكومة الإنجليزية والشعب الإنجليزي بالدرجة الأولى، بوجوب الإسراع بتوطين اليهود في فلسطين والإعداد لذلك عن طريق إنشاء مزيد من الجمعيات والمنظمات التي تقوم بإجراء الأبحاث والدراسات حول فلسطين. وفعلاً فقد شهد القرن التاسع عشر الميلادي زيادة كبيرة في عدد الجمعيات والمنظمات التي تدعى أنها تهدف إلى استكشاف فلسطين وتطويرها، وكأن هذه الأرض خالية من السكان!!
ولهذا فقد تعرضت فلسطين منذ أواخر القرن الخامس عشر -كغيرها من بلاد المشرق الغنى بتاريخه وآثاره- "لرحلات متعددة قام بها رحالة وعلماء أجانب، أفراداُ وجماعات. إلا أن فلسطين قد لاقت ـ من دون سائر بلاد الشرق ـ اهتماماً خاصاً، لكونها أرض التوراة ومهد المسيح، فتوجهت إليها أنظار اللاهوتيين والعلماء لدراسة أرضها وتربتها ومناخها وآثارها، وللتنقيب عن أي أثر أو دليل يعود إلى العهد التوراتي"(1)، حيث كانت الدوافع الدينية ـ أحيانا ـ وحدها البارزة وراء البعثات الاستكشافية. ومن ابرز الأمثلة، الأمريكي (إدوارد روبنسون) الذي ابتدأ يعمل مع تلميذه وصديقه (إيلى سميث) في منطقة القدس منذ سنة 1838م. وقد اعترف منافسه السويسري تيتس توبلر بأن أعمال روبنسون، في جغرافية فلسطين، تتجاوز في أهميتها أعمال السابقين جميعاً. أما الكابتن (ويلسون)، وقد كان من المتطوعين الأوائل منذ سنة 1866م لعمليات المسح في القدس وضواحيها، فقد كان يعلن أمام الجميع العطف الكبير الذي كان يحمله دوماً لاستيطان اليهود في فلسطين. كذلك كان يعلن زميله (كيتشنر) صراحة أن عمله في فلسطين ليس كباحث آثار فقط، وإنما كرجل سياسي أيضا، لذلك، فهو يتفحص البلاد أرضها وتربتها تمهيدا للاستيطان اليهودي وللمستقبل المشرق الذي يبدو أن فجره سوف يطل على هذه الأرض.
ولكن يبقى الاسم الأول البارز بين هؤلاء اسم الكابتن كلود كوندر (1848ـ1910م)، ويعود ذلك إلى حماسته الصهيونية التي لا حد لها، والى العمل الذي قام به، برسم خريطة مفصلة تشمل فلسطين كلها، وقد سميت حينئذ
(1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ـ ص 301
فلسطين الغربية. أما فلسطين الشرقية (الأردن حالياً) فقد كانت هي الأخرى هدفاً للاستيطان اليهودي، وكانت مهمة (كوندر) الأساسية أن يضع على الخريطة الأماكن التوراتية، وان يرسم الحدود لقبائل بنى إسرائيل الاثنى عشر وقد أتاح هذا العمل الفرصة لكوندر كي يتعرف على فلسطين أكثر من غيره. وقد نشر العديد من الكتب والمقالات عن تاريخ فلسطين وحاضرها ومستقبلها، فكان أكثر كاتب بريطاني (صهيوني) إنتاجاً، وهو الذي وصفه المؤرخ اليهودي (سوكولوف) بأنه أفضل عالم وخبير بفلسطين في عصره. وحين أعلن هيرتسل قيام الصهيونية رسمياً في بازل، كان كوندر من أوائل الذين اعتنقوها. كما أنه وافق فوراً على خطة لورانس اوليفانت باستيطان اليهود أرض جلعاد، شرقي الأردن، وقدم له خبرته في شؤون الأرض والناس. وهكذا مهدت أعمال بعثة (صندوق استكشاف فلسطين) الذي أنشأه شافتسبرى، بالإضافة إلى شهادات الرحالة والعلماء وكتاباتهم، درباً "واضح المعالم للصهيونية السياسية، كما ساهمت في زرع فكرة فلسطين الكبرى التي أصبحت إسرائيل الكبرى"(1).
وبالرغم من أن شافتسبرى كان من أبرز المهتمين بعودة اليهود إلى أرض فلسطين في القرن التاسع عشر الميلادي، إلا أن ـ هناك ـ كثيراً من ذوى المكانة والنفوذ عملوا جادين لتحقيق هذا الهدف. فقد كان هناك نبلاء بريطانيون وعلى رأسهم (دوق كنت) وكثير من أعضاء مجلس اللوردات، بالإضافة إلى أدباء وشعراء عبروا عن عطفهم وإعجابهم بالشعب اليهودي ودعوه للعودة إلى أرضه في فلسطين؟ ولم يكن شافتيسبرى ـ بحماسته اللامحدودة ـ نسيجاً وحده، بل كان واحداً من مجموعة من كبار الإنكليز الذين صرفوا جل اهتمامهم وعملهم، في العقدين الخامس والسادس من القرن التاسع عشر الميلادي، من أجل إعادة اليهود إلى فلسطين. ومن هؤلاء البارزين الكولونيل (تشارلز هنري تشرشل) الذي كان قنصلاً سابقاً لبريطانيا في دمشق. "فقد كان من كبار المتحمسين للدولة اليهودية، ومن المؤمنين بأن مهمة بريطانيا التاريخية أن تقود اليهود المعذبين في عودتهم إلى وطنهم الأصلي. فقد بعث الكولونيل تشرشل برسالة إلى السير (موسى
(1) فلسطين، القضية ـ الشعب ـ الحضارة ـ بيان نويهض الحوت ص 303ـ 305