الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما يلاحظ ـ أيضا ـ "أن المذاهب المسيحية تفاوتت في استيعابها لهذا التحول تفاوتاً كبيراً، فالبروتستانت (الأميركيون والبريطانيون) تمثلوا هذا التحول كأعمق ما يكون، حتى أصبحت اليهودية جزءا من لحمهم ودمهم، والكاثوليك (فرنسا وإيطاليا وإسبانيا) ظلوا أكثر تحفظاً إلى حد ما، ولذلك لم يبرئ الفاتيكان اليهود من دم المسيح إلا عام 1966م، أما الأرثوذكس (الأوروبيون الشرقيون) فلا يزالون يحتفظون بتلك النظرة المتوجسة تجاه اليهود واليهودية. وهذا ما يفسر التفاوت في المواقف السياسية: حيث التماهي مع الدولة اليهودية في أميركا وبريطانيا، والتحفظ في أوروبا الجنوبية على السياسات الإسرائيلية (خصوصا من طرف فرنسا أكبر الأمم الكاثوليكية الغربية) والريبة في أوروبا الشرقية، وخصوصاً روسيا، لكن ما يهمنا هنا هو التماهي الأميركي البريطاني مع الدولة اليهودية، ومحاولة فهمه"(1).
موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود:
ان الموقف التقليدي للكنيسة الرسمية تجاه اليهود طوال ما يقرب من ألفي عام (حتى المجمع المسكوني الثاني في الفاتيكان عام 1964) كان يقوم على مقولات ثلاث:
أولها- أن اليهود بقتلهم المسيح قد قتلوا (الإله).
ثانيها_ أن (الشعب المختار) إذن صار هو شعب (الكنيسة).
ثالثها- العهد القديم صوره سابقة للعهد الجديد ترمز اليه وتبشر به.
وهكذا إذن يقودنا التفسير التقليدي إلى القول بأن اليهود حينما رفضوا الاعتراف بالمسيح على أنه رسول الله قد عزلوا أنفسهم عن (طائفة) ابراهيم فانتفت عنهم صفة (شعب الله المختار) إذ حكموا على انفسهم بالدينونة من جراء خطاياهم .. وقد سبق أن عاقبهم الله بطردهم من فلسطين ونفيهم إلى بابل. ومع هذا فالوعد الذي قطعه اله لابراهيم قد تحقق، فعلى الرغم من خطايا اليهود وبعد عقابهم سمح لهم
(1) المسيح اليهودي ـ رضا هلال ـ ص 64
بالعودة إلى فلسطين على أثر قرار قورش ملك فارس. وحينما ارتكبوا اشد المعاصي مره أخرى برفضهم الاعتراف بيسوع المسيح الذي تمم الوعد عاقبهم الله اشد العقاب فبدد شملهم-كشعب- ورمى بهم في ارجاء الارض. وهكذا لم يعد أمامهم أمل في الخلاص الفردي إلا باعتناقهم المسيحية (1).
لهذا كان موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود ـ ولازال مع حدوث بعض التغيرات لصالح اليهود ـ موقفاً متشدداً، حيث كان ينظر إلى اليهود نظرة عدائية بسبب رفضهم الإيمان بدعوة السيد المسيح وكفرهم بها، ولذلك وصفهم السيد المسيح أكثر من مرة (بخراف بنى إسرائيل الضالة) وبغيرها من الأوصاف، كما أن اليهود كانوا يعتبرون مارقين وكفرة، واتهموا بأنهم قتلة المسيح. وقد كان الكاثوليك يعتقدون أن الغضب الإلهي حل على اليهود بسبب جرائمهم المتكررة عبر تاريخهم، وأنهم بذلك استحقوا فترة النفي البابلي (586ـ539 ق م) من ضمن عقوبات إلهيه عديدة توجت بطردهم النهائي من فلسطين في العام 70م، وأما النبوءات بعودتهم إلى الأرض المقدسة فقد تحققت فعلاً بحسب المعتقد الكاثوليكي عندما سمح لهم قورش ملك الفرس بالعودة من بابل إلى فلسطين (537 ـ515 ق م). "وعلى ذلك فان طرد اليهود من فلسطين على يد الرومان في العام 7م كان نتيجة مباشرة لرفضهم الإيمان بمسيحهم المنتظر عيسى عليه السلام، مما أدى لانتهاء وجودهم كأمة وتشريدهم في أصقاع الأرض، وقد استحقوا هذا العقاب ليس فقط لرفضهم المسيح وتآمرهم على قتله، بل لأنهم كانوا بعد ذلك يتحالفون مع وحش (الرؤيا) عدو المسيح، كلما سنحت لهم فرصة، مما جعلهم الأعداء التقليديين للمسيحية"(2).
لذلك لم يكن هناك في العقيدة الكاثوليكية التي تلتزم بالتفسير المجازى للإنجيل أدنى فكرة أو احتمال لعودة اليهود إلى فلسطين، أو بعث الأمة اليهودية من جديد، لأن هذه الأمة حسب رأيهم انتهى وجودها بظهور دعوة السيد المسيح. فرجال الدين الكاثوليك كانوا يعتقدون أن الفقرات الواردة في العهد القديم والتي تتنبأ بعودة اليهود إلى فلسطين وبمستقبل مشرق لإسرائيل لا تنطبق على اليهود،
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص139
(2)
المسيحية والإسلام والاستشراف ـ محمد فاروق الزين ص271
بل على الكنيسة الكاثوليكية مجازاً، لأن اليهود طبقاً للعقيدة الكاثوليكية اقترفوا إثماً، فطردهم الله من فلسطين إلى منفاهم في بابل، وعندما رفضوا دعوة السيد المسيح نفاهم الله ثانية، وبذلك انتهت علاقة اليهود بأرض فلسطين إلى الأبد. وقد وضح هذه النقطة بطرك الروم الكاثوليك في دمشق في كتاب له مؤرخ في 17ـ11ـ1977 حيث قال:"إنه يفوت بنو قومي أن السيد المسيح نسخ أحكام العهد القديم القومية، فبعد أن لعن سبع لعنات فقهاء العهد القديم (متى 23) ختم بهذا الحكم المبرم قائلاً: هذا بيتكم يترك خراباً (متى 23ـ38) وقد تحققت نبوءة السيد المسيح الذي رفضوه ولم يبق لهم وعد الله التوراتي بالأرض المقدسة"(1).
هكذا تمسك الفكر الكاثوليكي بحرفية الإدانات واللعنات التي لم يكف النبيون عن توجيهها إلى اليهود، واستخدم تلك الإدانات في القول بأن اليهود وقعوا في الخطيئة، وعاقبهم يهوه على ذلك بدمار الهيكل والسبي من فلسطين، ثم عاد اليهود فأغضبوا الرب بإنكارهم للمسيح عيسى عليه السلام فكان عقابهم ما فعله الرومان وما ترتب عليه من دمار الهيكل ومن شتات. وتبعاً لهذا المنطق الكاثوليكي لم يعد هناك مجال للتمسك بحلم مجيء مسيح آخر يخلص اليهود ويقيم مملكة الله على الأرض. "فالمسيح الذي بشرت به كتب العهد القديم قد جاء، والفداء الذي تحدثت عنه قد حدث بالفعل، ولكن لكل البشر، والخلاص بات في متناول كل البشر، ومملكة الله على الأرض قد قامت ممثلة بالكنيسة الكاثوليكية. وبالتالي لم يعد لليهود بعد أن أغضبوا الرب أي حق في التشبث بدعوى أنهم أمه تنتظر الفداء والخلاص من الشتات، إذ وضع الله حداً لوجودهم كأمه، ولم يعد أمامهم من سبيل الخلاص إلا الخلاص الفردي، باعتناق المسيحية"(2).
ومن المهم ملاحظة أنه قبل حركة الإصلاح الديني البروتستانتية لم يكن هنالك أدنى فكرة عند المسيحيين بوجوب إعادة تجميع اليهود في فلسطين ولا حتى بإعادة تجميعهم كأمة، لان فلسطين بحسب ـ معتقد الكاثوليك ـ لم تكن سوى
(1) العدوان الإسرائيلي القديم، والعدوان الإسرائيلي الحديث على فلسطين ـ محمد عزة دروزة ـ ص 6 - دار الكلمة للنشر، 1979،
(2)
المسيحية والتوراة ـ شفيق مقار ص62