الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاعتراف لفائدة تعود على عملية النصب والتلفيق الكبرى التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ (1).
وبعد أن اتضحت لنا أبعاد هذا التزوير والنهب لأساطير الشعوب الأخرى (2)، لنا أن نسأل كما يقول (شفيق مقار) .. "ما الذي أعطاه الشعب المختار الأخص للشعوب التي نهب من ثقافتها وفكرها الديني لقاء ما نهب، إلا المذابح والإبادة والتخريب وهدم المدن العامرة وحرقها ونهب ثروات الشعوب المادية بعد ثرواتها الدينية والثقافية. وان شئت أن تحدد الشعوب التي يدين لها الشعب المختار الأخص بأعظم ما نهب، فابحث عن الشعوب التي يكن لها ذلك الشعب اكبر قدر من العداء ويطوي لها جوانحه على أفظع قدر من الحقد والضغينة والكراهية، وستجد أن الشعوب الأمميه التي تتصدر قائمة الكراهية المشبوه لكل الأمميين، شعوب مصر وكنعان وما بين النهرين، لأنها الشعوب التي سرق منها الشعب المختار أكثر مما سرق من أية شعوب غيرها، ونحن نعرف جزاء سنمار الذي كان نصيباً لكنعان المسكين (الشعب الفلسطيني) لقاء نهب الشعب المختار لإلهه (آيل) وفكره الديني، وفي مقابل ضيافته وفتحه أبواب أرضه، الأرض التي تفيض باللبن والعسل"(3).
السبي البابلي وظهور النزعة القبلية المغلقة
من خلال عرضنا السابق لتاريخ اليهود قبل السبي البابلي لاحظنا انهم مثلهم مثل القبائل السامية الآخرى التى هاجرت من الجزيرة العربية، حاولوا الاستقرار في مناطق الهلال الخصيب، حيث استقروا في فلسطين في النهاية على يد سيدنا ابراهيم، وعاشوا مع الشعوب الاخرى التى سبقتهم في فلسطين كالكنعانيين والفلسطينيين. وحيث انهم كانوا بدو رحل فقد استفادوا من هذه الشعوب واختلطوا بها وقلدوها في كثير من شؤونها حتى انهم في كثير من اوقاتهم عبدوا آلهة هذه الشعوب وحدث تزاوج بينهم وبين تلك الشعوب، وحتى ادعائهم بالتميز وانهم شعب مختار وحاملي الشريعة اصبح لها معنى آخر عند انبيائهم حتى بشر بعضهم بملكوت
(1) قراءة سياسية للتوراة - شفيق مقار ـ ص181
(2)
راجع رد على التوراة - نذرة اليازجي -ص 48 - دار طلاس- ط3 1990
(3)
قراءة سياسية للتوراة ـ شفيق مقار - ص155
الله والسلام الذي سيعم كافة الامم. وخلال مرحلة السبي البابلي في العراق، وهي الفترة التي يظهر أنهم بدأوا فيها بتدوين التوراة، كان اليهود قد تركوا الالتزام بدينهم وقلدوا الدول التي يعيشون فيها بعبادة الأوثان.
ولكن عندما لاحت الفرصة لليهود للعودة من السبي البابلي، انتهز هذه الفرصة عدد قليل منهم لأن الكثير من المسبيين أعجبتهم الأرض الجديدة، ولكن القلة المتشددة التي عارضت الاندماج حفظت بني إسرائيل من الاندثار (1). مما ادى إلى حدوث سقوط جديد في أحضان النزعة القبلية وعودة إلى الحرفية والتعصب بإقامة سلطة ثيوقراطية دينية قهرية كهنوتية، حيث سبق لهذه الحركة أن أطلت برأسها قبل قرن من الزمن في عهد جوزياس ولكنها أسقطت على يد الأنبياء (2).
فعندما فرض ملك فارس (قورش) على حكام مقاطعاته احترام العبادات المحلية كي يضمن سيطرته على اتباعه المتعددى المشارب. واصدر أمر إلى الحكام الفارسيين في مصر باحترام عبادة الإله (سيت) في الدلتا، وأصدر قورش كذلك عام 537 ق. م قراراً يسمح للإسرائيليين بإعادة بناء الهيكل وللمنفيين بالعودة إلى بلدهم. لم ير وجهاء العبريين انطلاقاً من تعصبهم العرقي في هذا الاجراء السياسي الذي يسمح بالعودة إلى ممارسة العبادات القديمة في مصر وما بين النهرين والذي ينسجم مع تقاليد الهلال الخصيب
…
لم يرى وجهاء العبرين في هذا الاجراء الا ما يعنيهم ونظروا إلى قورش على أنه منفذ المشيئة الإلهية، هذا بالرغم من ان الجماهير التي بقيت في فلسطين لم تبد حماستها لإعادة بناء المعبد. فقد ورد في سفر (حجي) في هذا الصدد:"لم يحن الوقت بعد لإعادة بناء بيت يهوه". فقد كان الناس في أكواخهم القمئية يحلمون ببيوت خاصة بهم .. وعبثاً حاول النبي (حجي) أن يعدهم بأن بناء المعبد ستكفل لهم الازدهار الزراعي .. وهكذا لم يبدأ العمل في
(1) تاريخ فلسطين قبل الإسلام- مركز المعلومات الوطني الفلسطيني - http://www.pnic.gov.ps/arabic/history/palestine.html#file4
(2)
فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص94
الهيكل إلا عام 520 ق. م أى بعد سبعة عشر عاماُ، ولم يدشن المعبد الجديد الا عام 515 ق. م (1).
ان من عاد من الوجهاء إلى بلده - وقد بقيت الأكثرية في بابل (2) - قد وصل إلى هدفه فلقد أصبح رئيس الكهنة لديهم يهيمن على كل اسرائيل بعد اعادة بناء المعبد
…
وبفضل تعاون أرستقراطية أورشليم مع المحتل الفارسي أصبح كبار الكهنة الصديقيون الذين كانوا قد شغلوا المناصب الكهنوتية -أباً عن جد منذ داوود وسليمان- مالكين لزمام السلطة العليا على انهم موظفون ووكلاء لملك الفرس. وهكذا ظهرت آثار النزاع بين العائدين من بابل وبين الذين ظلوا في فلسطين - يشهد بذلك سفر عزرا- ولكن الخلاف قد تجاوز قضية إعادة بناء المعبد إلى خلاف خاص .. وذلك حينما طلب المنفيون العائدون - ومعظمهم من الملاكين الاغنياء - إلى الفلاحين الفقراء البائسين إرجاع أرضهم إليهم. وواقع الحال أن عقليتين راحتا تصطرعان على كافة الصعد، فالمنفيون القدامى الذين انقطعوا عن بلدهم وشعبهم زماناً طويلاً كانوا يدعون أنهم وحدهم حملة التقاليد الموروثة ولابد لهم من فرض التقيد بها بصرامة ودقة.
ولكي يحرص عزرا على مثانة جدران العشيرة وتماسك أسوارها فقد أولى أهمية خاصة لتحريم الزواج بالاجانب وشدد على الانكماش والانكفاء بدقة وصرامة وبمزيد من التقوقع، واجبر اليهود الذين كانوا قد بقوا في ارض فلسطين وتزوجوا من كنعانيات غير يهوديات وأنجبوا منهن أولادا، أجبرهم على ترك زوجاتهم .. وراح عزرا يقول لليهود إن سبب سبيكم هو اختلاطكم بأهل الأرض، فانتم شعب مقدس بل انتم شعب الله المختار فلا يجوز لكم حتى ملامسة أجنبي. (3). جاء في سفر عزرا:"لا تزوجوا بناتكم لابنائهم ولا تأخذوا بناتهم لابنائكم، ولا تهتموا ابداً لسلامتهم وسعادتهم". وألح عزرا على طلاق النساء الاجنبيات وطردهن مع أولادهن. ولم يجرؤ أحد على الاعتراض. وهكذا إلى أن فرغوا من حل مشكلة المتزوجين من غريبات.
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص98 - 99
(2)
يذكر أحد المؤرخين أن عدد الراجعين كانوا 42 ألفاً وهم أقلية بالنسبة للعدد الحقيقي
(3)
أسطورة هرمجدون والصهيونية المسيحيةـ عرض وتوثيق هشام آل قطيط ـ ص246ـ247
لقد قُضي على الحركة النبوئية المتطلعة إلى العالمية وانتصر التعصب تحت وطأة عصا طبقة الكهنوت التى كانت بعد سقوط المملكة تمتلك جميع السلطات، تدعمها في ذلك سلطة المحتل الزمنية، حيث يمكن القول ان فترة السيطرة الفارسية هي التى تمت فيها عملية اضفاء الطابع القانوني على الكتب المقدسة، وهذا يعني ان التشريع اليهودي لم يكن نقطة البداية في تاريخ اليهودية اذ ان نقطة البداية تعود فعلاً، إلى عصر السبي البابلي ثم جاء التشريع الموسوي متأخرا عنه (1). وهكذا الغي منذئذ كل تطور جديد وبدأ حكم المجامع الدينية وأحبار الشريعة، و قضى كلاً من عزرا ونحميا على مستقبل هذا الازدهار الرائع لثقافة الانبياء ونزعتهم الروحانية
…
ولم يعمل الانتقال من الخضوع للسيطرة الفارسية إلى نير السيطرة اليونانية على فلسطين (332 - 331ق. م) على احداث ايه تغيرات عميقة في الحالة الراهنة.
وهكذا كان تسلم جوزياس للسلطة عام 639 ق. م منعطفاً في تاريخ فلسطين والديانة اليهودية: "فلقد راح صوت الانبياء يخمد بعد تلك الهبة النبوية الكبيرة، لان ما زرعه الانبياء من خميرة حية قوية في العقيدة اليهودية، قد أجهزت عليه الطقوسية الحرفية للتقاليد الدينية التى طغت عليها الاعتبارات السياسية، ووقعت هذه الجماعة التى اغنت التراث الروحي الانساني بتعاليم انبيائها، لسلطان شكلانية النصوص وحرفية الشريعة ولن يقدر لها أن تسهم إسهاماً نوعياً في التاريخ العالمي"(2).
ويمكن تسمية هذه الفترة بعد السبي البابلي بالقرون المظلمة في تاريخ فلسطين، فلقد جفت ينابيع الابداع الروحي وتحجرت روح الايمان وطغت المؤامرات السياسية المشتبكة الجشعة. هذا، وفي ظل حكم ملوك يهودا المعتمدين على المحتلين المتناوبين عليهم لم تنقطع فلسطين عن اداء دورها التاريخي فحسب، بل صارت أداة مسخرة في يد القوى الغربية الكبرى. لقد توقف الابداع الروحي في هذه المرحلة التاريخية الخاضعة لنير ملوك محتلين مغامرين متعاونين مع كل الاسياد
(1) ما بعد اسرائيل - بداية التوراة ونهاية الصهيونية - احمد المسلماني- ص 49
(2)
فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص100 - 101